surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }: قال ابن رشد في البيان (في رسم نذر سنة): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها. (وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها. قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه): قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -. وأما النافلة فلمالك فيها في الحمد قولان، وله فيما عدا الحمد ثلاثة، فله في هذه الرواية القراءة، وله في رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ القرآن في صلاته عرضا، وفي المدونة أنّه يخيّر -انتهى. قال القاضي عماد الدين: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة وعنه في كونها آية من (أول) كل سورة قولان: ((فمن أصحابه من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة، ومنهم من حملها على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع كل آية من أول كل سورة آية؟ ونقل السهيلي)) في الروض الأنف (عن) داود وأبي حنيفة أنها آية مقترنة مع السورة. ابن عرفة: قيل البسملة آية من كل سورة. فقال الغزالي في المستصفى: معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة. وقال غيره: معناه أنها آية أي جزء من كل سورة. وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة) فظاهره (أنها) تكرر إنزالها مع كل سورة مثل**{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }** وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكَرر فإذا قلنا: إنها مع أول كل سورة فكيف (تصح) قراءة ورش بإسقاطها. قال: لكن يجاب بما (قال) ابن الحاجب بتعارض الشبهات: أي أن كل واحد من الخصمين يرى أن ما أتى به خصمه شبهة أعني دليلا باطلا وهما قويان فتعارضت الشبهات. قال ابن عرفة: ولا بد من زيادة ضميمة أخرى وهي الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة، فلذلك صح التعارض. قال بعضهم: والنافي هنا دليله أقوى، وظاهر كلام ابن عطية في آخر سورة الحمد (أنّ عدد آي السور قياسي لا سماعي) لأنّه قال: أجمع الناس على أنّ (عدد) آي الحمد سبع. (ربّ) العَالمين آية - الرّحْمَان الرحِيمِ آية - (مَالِكِ يَوْمِ) الدّينِ آية -نَسْتَعينُ آية - أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية - وَلاَ الضّالّينَ آية. ونص الغزالي (في المستصفى) على أنه مسموع وكذلك قال الزمخشري في أول سورة البقرة في تفسير قوله: الم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الزمخشري: وذكر الزجاج أنه يفخم (لاَمَهُ) وعلى ذلك العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل على أنهم ورثوه كابرا عن كابر. قال ابن عرفة: إنما يفخم في الرفع، والنصب أما الخفض فلا. قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد (بن عثمان) بن أيوب (الهزميري) يحكي عن علماء الشافعية بالمشرق أنهم يقسمون البسملة ثلاثة أقسام: قسم هي فيه آية في أول الفاتحة، وقسم هي فيه بعض آية، وذلك في (سورة) النمل، وقسم بعضها فيه آية، وهو: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. { بِسْمِ اللهِ }: إما متعلق بفعل أو اسم وقدّره الزمخشري (في) " بسم الله أقرأ وأتلو " وقدره ابن عطية: بِسم الله أبتدئ. قال (ابن عرفة): وكان الشيوخ يستصوبون تقدير الزمخشري، فإنه يجعل (قراءته) من أولها إلى آخرها مصاحبة لاسم الله تعالى. وقد قال الشيخ عز الدين في قواعده: في قول الإنسان عند الأكل { بِسْمِ اللهِ } معناه: آكل باسم الله، وليس معناه: أبدأ باسم الله، ولهذا كانوا ينتقدون على الشاطبي في قوله: في (النّظم) أولا " وهلا قال " نظمت باسم الله (في الذكر أولا " ). (حتى تكون التسمية مصاحبة له في جميع نظمه) فإن قلت: لِمَ قدر الفعل متأخرا؟ فالجواب: (إنّه إنما) قدره كذلك ليفيد الاختصاص لأنهم كانوا يقولون: واللاّت والعزى ويبدؤون بآلهتهم، قُدّم اسم الله هنا (للتوجيه والحصر) كما في إياك نعبد. وابن أبي الربيع وغيره كانوا يقولون: إنّما قدم بِسْمِ الله (هنا) للاهتمام به. قوله تعالى: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }: إن قلت: لِمَ قدم الوصف بالرّحمان مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف. (فأجيب) (بوجهين): - الأول: الرّحمان لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى (الأسماء) الأعلام التي تلي العوامل فقدم على الرحيم. - (الثاني): إن الرّحمان دال على جلائل النعم والرّحيم على دقائقها. قاله الزمخشري. قال ابن عرفة: وكان (يسبق) لنا تقريره بأنّهما يختلفان (باعتبار) المتعلق، فالرحمة قسمان لأنّ الرحمة بالإنقاذ من الموت أشد من الرّحمة بإزالة شوكة، فقد يرحم الإنسان عَدُوّهُ بالإنقاذ من الموت ولا تطيب نفسه أن يرحمه بإزالة شوكة تؤلمه في (بدنه) (فتقديم) الرّحمة الأُولى لا يستلزم هذه بوجه. قلت: وقرر ابن عرفة لنا في الختمة الثانية السؤال المتقدم: بأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص (فيبدأ) في الثبوت بالأعم، ثم بالأخص وفي النفي على العكس ورَحمان أخص من رحيم. وقرر لنا جوابه بأن الرحمان دال على كثير النّعم بالمطابقة وعلى دقائقها بالالتزام ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام فذكر الرحيم بعده ليدل على دقائق النعم بالمطابقة. وإليه أشار الزمخشري بقوله: والرحيم أتى به (كالتّتمة) ليتناول ما دق منها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما (رأى)، وذكر أن الرّحْمَانَ أبلغ لكونه أكثر حروفا قال: وهو من الصفات الغالبة كالدّبران (والعرب) لم (تستعمله) في غير الله أما قول بني حنيفة في (مسيلمة) الكذاب: رحمان اليَمامة. وقول شاعرهم: | **وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا** | | **(فباب) من تعنتهم في كفرهم** | | --- | --- | --- | قال ابن عرفة: هو لا يحتاج إليه، وكان (يظهر) لنا الجواب عنه بأن رَحْمانا في قولهم: رحمان اليمامة (استعمل مضافا) ورحمانا في البيت منكرا. وأما الرحمان المعرّف بالألف واللام فخاص بالله لم يستعمل في غيره (فانتفى) السؤال. وكذا نص إمام الحرمين في الإرشاد خلافا (للفاسي) في شرح الشاطبية، فإنه نص على أن المختصّ بالله مجموع الرّحْمَانِ الرّحِيم ونحوه في أسئلة ابن السيد البطليوسي. قلت: ونقل لي بعضهم عن القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام أنه أجاب عن السؤال المتقدم بوجوه. أحدها: الجواب المتقدم: أتى بالرحيم على سبيل التتمة، وقد حصل الغرض بذكر الرّحْمَانِ وفائدته تحقق دخول ما يتوهم خروجه. - الثاني: مراعاة الفواصل، عند من يرى أنها من الفاتحة. - الثالث: أن الرّحمان يستلزم الرّحيم لكنه ذكر ليدل عليه مطابقة. قال: وأجاب ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح بأن الرّحمان كثر استعماله حتى عُومل معاملة العلم بخلاف الرّحيم فإنه لم يخرج عن كونه صفة. قال: أو تقول إنها ليست للمبالغة. وقول الزمخشري: إن العرب لا تزيد حرفا إلا لمعنى ممنوع، (وسند) المنع قولهم في حذر وبطر وأشد إنها أبلغ من حاذر وباطر وأشد. قلت: وأجاب بعض النحاة المعاصرين بأن حذر ناب مناب محذور، ومحذور أكثر حروفا من حاذر بخلاف حاذر، فإنه لم ينب مناب شيء (حسبما) نص عليه ابن عصفور في (مقربه) في باب الأمثلة. قلت: وأجاب ابن عرفة: بأنّ ذلك فيما عدل فيه عن الأصل والقياس إلى غيره كحذر وحاذر فإن القياس في اسم الفاعل منه أن يكون على وزن فاعل (فإنما) عدل عن ذلك لمعنى وغرض زائد، وهو إرادة المبالغة، وأما الذي لم يعدل فيه عن الأصل كرحمان ورحيم فنقول الأكثر حروفا (أبلغ) ولهذا (قرر) القاضي العماد (رحمان) أبلغ. قال: ورحمان ورحيم كلاهما معدولان وحذر معه كذلك بخلاف حاذر فما عدل إلا للمبالغة. واستشكل الغزالي (في الإحياء) قولهم: أَرْحَمُ الرّاحمِينَ مع أن الكفار في جهنم لم تصلهم رحمة بوجه، وهنالك قال: ما في الإمكان (أبدع) مما كان. وانتقدها الناس عليه. وأجاب ابن عرفة: عن الإشكال بأن ذلك باعتبار مراعاة جميع الصفات لله تعالى لأن من صفاته -شديد العقاب - وذلك صادق بعذاب أهل النَار ونعيم أهل الجنة. فرحمته (هي) أشد الرحمة، وعقابه هو أشد العقاب. وعادتهم يخطئون الغزالي في هذه المسألة، ويقولون: كل عذاب فالعقل يجوز أن يكون أشد منه في الوجود، وكل نعيم فالعقل يجوز أن يكون هناك أحسن منه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الزمخشري: فإن قلت ما معنى وصفه (بالرحمة ومعناها العطف والحنو ومنه) الرّحم لانعطافها على ما فيها. قلت: هو مجاز على إنعامه على عباده. قال ابن عرفة: قالوا كل مجاز لا بد له من حقيقة الاّ هذا فإن الرحمة هي العطف (والحنو)، وذلك (ما هو) حقيقته إلا في الأجسام وتقرر أن غير الله لا يطلق عليه اسم الرحمان فهو مجاز لا حقيقة له. وتكلم ابن عطية هنا في الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ قال الفخر ابن الخطيب في نهاية العقول: المشهور عن أصحابنا أنّ الاسم هو المسمى، وعن المعتزلة أنه التسمية، وعن الغزالي أنه مغاير لهما، والناس طوّلوا في هذا وهو عندي (فضول) لأن البحث عن ذلك مسبوق بتصور ماهية الاسم وماهية المسمى، فالاسم هو الاسم الدال بالوضع لمعنى من غير زمان والمسمى هو وضع ذلك اللفظ بإزائه، فقد يكون اللفظ غير المسمى لعلمنا أن لفظ الجواز مغاير لحقيقة (المجاز)، وقد يكون نفسه لأن لفظ الاسم اسم (للفظ) الدال على المعنى المجرد (عن) الزمان، ومن جملة تلك الألفاظ (لفظ) الاسم، فيكون الاسم اسما لنفسه من حيث هو اسم. وقال غيره: إنّ السؤال (سفسطة). وقال الآمدي (في أبكار الأفكار)، وهو أحسن من تكلم عليه لأن المسألة لها تعلق باللغة (وتعلق بأصول الدين) أما اللغة فمن حيث إطلاق لفظ (الاسم) هل المراد به الذات فيكون الاسم (هو) المسمى أو اللفظ الدال عليه كـ**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ }** أما تعلقها بأصول الدين فهو (هل) المعقول (من الذات) (منها) وحدها أو منها مع اسمها (أم لا)؟ فإن كان (المعقول) منهما واحدا كان الاسم هو المسمى كالعالم والقادر. وقال ابن عرفة: والصواب أن المعقول من الذات من حيث اتصالها بالصفة غير المعقول منها مجردة عن تلك الصفة، (فإنا) إذا فهمنا من لفظ العالم الذات من حيث اتصافها بالعلم استحال اتصافها بالجهل، بخلاف قولنا: " إن المعقول هو الذات القابلة (للاتصاف) بالعلم وبضده ولا شك أن المعقولين متغايران ". وانظر كلام الآمدي، فهو طويل نقلته بكامله في آخر سورة الحشر وانظر مختصر ابن عرفة في فصل (الحقيقة) وما قيدته أنا في أواخر مسلم على حديث (إن لله) تسعا وتسعينا اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة. قلت: وقال ابن عرفة مرة أخرى: منهم من قال: تارة يراد بالاسم المسمى مثل: زيد عاقل، وتارة يراد به التسمية: كزيد (وزنه فعل)، ومنهم من قال: يراد به المسمى: كزيد قادر، إذا أردت الذات. وتارة يراد به الصفة، فقادر موضوع لأن يولد به القدرة، وهو صفة من صفات الذات، والله أعلم بالصواب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ)
قال ابن عبَّاس وغيره: إنها مكية؛ ويؤيد هذا أن في سُوَرةِ الحِجْرِ:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر:87] والحجر مكية بإِجماع، وفي حديث أُبَيِّ بن كعب أنَّها السبْعُ المثانِي. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاةٌ بغير: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وروي عن عطاء بن يسار وغيره؛................. أنها مدنية، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف، هل يقال لها أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عبَّاس وغيره. وفى تسميتها بـ «أُمِّ الْكِتَاب» حديثٌ رواه أبو هريرة، واختلف هل يقال لها: «أُمَّ القُرْآنِ»؟ فكره ذلك ابن سيرين، وجوزه جمهور العلماء. وسميت «المَثَانِيَ»؛ لأنها تثنَّى في كل ركعة؛ وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة. وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبيِّ بن كعب؛ أنَّها لم ينزل في التوراة، ولا في الإِنجيل، ولا في الفرقان مثلها، وروي أنها تعدل ثلثَي القرآن، وهذا العدل إِما أنْ يكون في المعاني، وإِما أنْ يكون تفضيلاً من الله تعالَىٰ لا يعلل؛ وكذلك يجيء عدل:**{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }** [الإخلاص:1] وعدل:**{ إِذَا زُلْزِلَتِ }** [الزلزلة:1] وغيره. \* ت \*: ونحو حديث أُبَيٍّ حديث أبي سعيد بن المُعَلَّى؛ إِذ قال له صلى الله عليه وسلم: **" أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }؛ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيْتُهُ "** رواه البخاري، وأبو داود، والنسائيُّ، وابن ماجة. انتهى من «سِلاَح المُؤْمِنِ» تأليف الشيخ المحدِّث أبي الفتح تقي الدين محمَّد بن علي بن همام - رحمه اللَّه -. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّّهِ } أخرج عبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس والثعلبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص **" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { الحمد } رأس الشكر، فما شكر الله عبد لا يحمده ".** وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النوّاس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال **" لئن ردها الله لأشكرن ربي، فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فوقع في خلدها أن تهرب عليها، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة، فلما رأها المسلمون فرحوا بها، ومشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأها قال { الحمد لله } فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة؟ فظنوا أنه نسي فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله لأشكرن ربي. قال: ألم أقل { الحمد لله }؟ ".** وأخرج ابن جرير والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي بسند ضعيف عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إذا قلت { الحمد لله رب العالمين } فقد شكرت الله فزادك ".** وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال { الحمد لله } كلمة الشكر إذا قال العبد { الحمد لله } قال الله شكرني عبدي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { الحمد } هو الشكر والاستحذاء لله، والاقرار بنعمه، وهدايته، وابتدائه. وغير ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان الله، ولا إلَه إلا الله، فما الحمد؟ قال علي: كلمة رضيها الله لنفسه، وأحب أن تقال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن كعب قال { الحمد لله } ثناء على الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال { الحمد لله } رداء الرحمن. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الجبائي قال: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تفعله لله شكر، وأفضل الشكر { الحمد }. وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في شعب الإِيمان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء { الحمد لله } ".** وأخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما أنعم الله على عبده نعمة فقال { الحمد لله } إلاَّ كان الذي أعطى أفضل مما أخذه ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلاَّ كان { الحمد } أفضل منها ".** وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما أنعم الله على عبد نعمة يحمد الله عليها إلاَّ كان حمد الله أعظم منها، كائنة ما كانت ".** وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال { الحمد لله } لكان الحمد أفضل من ذلك ".** وأخرج أحمد ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" الطهور شطر الإيمان { والحمد لله } تملأ الميزان، وسبحان الله تملآن ـ أو تملأ ـ مابين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو. فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها ".** وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر يملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الميزان، والصوم نصف الصبر ".** وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملأه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه ".** وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإِيمان عن الأسود بن سريع التميمي قال **" قلت: يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى قال: أما أن ربك يحب الحمد ".** وأخرج ابن جرير عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" ليس شيء أحب إليه الحمد من الله، ولذلك أثنى على نفسه فقال { الحمد لله } ".** وأخرج البيهقي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" التأنّي من الله، والعجلة من الشيطان، وما شيء أكثر معاذير من الله، وما شيء أحب إلى الله من الحمد ".** وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي من طريق أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" التوحيد ثمن الجنة، و { الحمد لله } ثمن كل نعمة، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم ".** وأخرج الخطيب في تالي التلخيص من طريق ثابت عن أنس مرفوعاً **" التوحيد ثمن الجنة، والحمد وفاء شكر كل نعمة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" كل أمر ذي بال لايبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ".** وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: إذا عطس أحدكم فقال { الحمد لله } قال الملك: رب العالمين فإذا قال رب العالمين قال الملك يرحمك الله. وأخرج البخاري في الأدب وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن علي بن أبي طالب قال: من قال عند كل عطسة سمعها { الحمد لله رب العالمين } على كل حال ما كان. لم يجد وجع الضرس والأذن أبداً. وأخرج الحكيم الترمذي عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من بادر العاطس بالحمد لم يضره شيء من داء البطن ".** وأخرج الحكيم الترمذي عن موسى بن طلحة قال: أوحى إلى سليمان: إن عطس عاطس من وراء سبعة أبحر فاذكرني. وأخرج البيهقي عن علي قال: **" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أهله فقال: اللهم لك عليّ إن رددتهم سالمين أن أشكرك حقّ شكرك. فما لبثوا أن جاؤوا سالمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحمد لله } على سابغ نعم الله فقلت يا رسول الله ألم تقل إن ردهم الله أن أشكره حق شكره فقال أو لم أفعل ".** وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وابن مردويه والبيهقي من طريق سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال **" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً من الأنصار وقال: إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله علي في ذلك شكراً. فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه: سمعناك تقول إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكراً قال: قد فعلت! قلت: اللهم شكراً، ولك الفضل المن فضلاً ".** وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جعفر بن محمد قال: فقد أبي بغلته فقال: لئن ردها الله عليّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها، فركبها فلما استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال { الحمد لله } لم يزد عليها فقيل له في ذلك.... فقال: وهل تركت شيئاً أو أبقيت شيئاً؟ جعلت الحمد كله لله عز وجل. وأخرج البيهقي من طريق منصور عن ابراهيم قال: يقال إن { الحمد لله } أكثر الكلام تضعيفاً. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن محمد بن حرب قال: قال سفيان الثوري: { الحمد لله } ذكر وشكر، وليس شيء يكون ذكراً وشكراً غيره. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن العبد إذا قال: سبحان الله فهي صلاة الخلائق، وإذا قال { الحمد لله } فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها؛ وإذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإِخلاص التي لم يقبل الله من عبد قط عملاً حتى يقولها ، وإذا قال: الله أكبر ملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله قال الله: أسلم واستسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قوله تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله { رب العالمين } قال: الجن والإِنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { رب العالمين } قال: الجن والإِنس. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { رب العالمين } قال: إله الخلق كله. السموات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلي في مسنده وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإِيمان والخطيب في التاريخ بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله قال: قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك فأرسل راكباً يضرب إلى كداء، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق، يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه. فلما رآها كبر ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" خلق الله ألف أمة. ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا أهلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه ".** وأخرج ابن جريج عن قتادة في قوله { رب العالمين } قال: كل صنف عالم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن تتبع الجهري قال: العالمون ألف أمة.. فستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { رب العالمين } قال: الإِنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم من الملائكة، وللأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته. وأخرج الثعلبي من طريق شهر بن حوشب عن أبي كعب قال: العالمون الملائكة وهم ثمانون ثمانية عشر ألف ملك، منهم أربعمائة أو خمسمائة ملك بالمشرق، ومثلها بالمغرب، ومثلها بالكتف الثالث من الدنيا، ومثلها بالكتف الرابع من الدنيا، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله. وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية عن وهب قال: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم. الدنيا منها عالم واحد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
فصل في قوله بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ قال أبو بكر: سئل سهل عن معنى: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فقال: الباء بَهاء الله عزَّ وجلَّ: والسين سناء الله عزَّ وجلَّ. والميم مجد الله عزَّ وجلَّ. والله: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلاَّ الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواماً ضرورة الإيمان. والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام. والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في الأصل رحمة لسابق علمه القديم. قال أبو بكر: أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " الرحمن الرحيم " اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قال أبو القاسم الحكيم: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } إشارة إلى المودة بدءًا. حُكى عن العباس بن عطاء أنه قال: الباء بره لأرواح الأنبياء بإلهام الرسالة والنبوة، والسين سره مع أهل المعرفة بإلهام القربة والأنس. والميم منته على المريدين بدوام نظره إليهم بعين الشفقة والرحمة. وقال الجنيد في { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }: بسم الله هيبته، وفي الرحمن عونه، وفي الرحيم مودته ومحبته. وقيل الباء في { بسم ٱلله } بالله ظهرت الأنبياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستناره فتحت وسمحت. وحكى عن الجنيد رحمه الله أنه قال: إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شئ سوى الله عز وجل، وصفُّوا قلوبهم لله، وكان أول ما وهب الله تعالى لهم فناهم عن كل شئ سوى الله قولوا بسم الله إلينا فانتسبوا ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه السلام. وقيل أيضاً: إن { بسم } لبقاء هياكل الخلق، فلو افتتح كتابه باسمه؛ لذابت تحت حقيقتها الخلائق إلا من كان من نبى أو ولى، والاسم بنور نعيم الحق على قلوب أهل معرفته. وقيل في { بسم ٱلله }: إنه صفاة أهل الحقيقة لئلا يتزينوا إلا بالحق، ولا يقسموا إلا به. وقال أبو بكر بن طاهر: الباء سر الله بالعارفين، والسين السلام عليهم، والميم محبته لهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنْ صح هذا، الباء بهاؤه والسين سناؤه، والميم مجده. وقيل: إن الباء في { بسم ٱلله } إلينا وصلهم إلى { بسم ٱلله }. سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندرانى يقول: سمعت أبا جعفر الملطى يذكر عن على بن القاسم موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: { بسم } الباء بقاؤه والسين أسماؤه والميم ملكه، فإيمان المؤمن ذكره ببقائه وخدمة المريد ذكره بأسمائه، والعارف عن المملكة بالمالك لها. وقال أيضاً: { بسم } ثلاثة أحرف: باء وسين وميم فالباء باب النبوة، والسين سر النبوة الذي أسرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم به إلى خواص أمته، والميم مملكة الدين الذى أنعم به للأبيض والأسود، وأما { ٱلله } فإن محمد بن موسى الواسطى قال: ما دعى الله أحد باسم من أسمائه، إلا ولنفسه في ذلك نصيب إلا قوله { ٱلله } ، فإن هذا الاسم يدعوه إلى الوحدانية وليس للنقص فيه نصيب، وقيل: كل أسمائه تقتضى عوضًا عند الدعاء إلا { ٱلله } ، فإنه اسم تفرد الحق به. وقيل: كل من قال: { ٱلله } فمن عادة قالها إلا من غيب عن شاهده، وقام الحق بتوليته عنه، عند ذاك زالت العيوب والزلل. وقال الحسين: بسم الله منك منزلة " كن " منه فإذا أحسنت أن تقول: { بسم ٱلله } وأنكرت فيه فضل من الله أن تقول الله وأنتم عند الغفلة والحيرة تحققت الأشياء بقولك { بسم ٱلله } كما يتحقق له كن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحُكى عن الشبلى أنه قال: ما قال الله أحد سوى الله، فإن كل من قاله قاله بحظ وأنَّى يدرك الحقائق الحظوظ. وقال أبو سعيد الخراز في كتاب درجات المريدين: ومنهم من جاوز نسيان حظوظ نفسه، فوقع في نسيان حظه من الله ونسيان حاجته إلى الله فهو يقول: لا أوركها أريد وما أقواه وما أنا ومن أين أنا، ضاع اسمى فلا اسم لى، وجهلت فلا علم لى، وضللت فلا جهل لى، وأسوق إلى من يعرف أقول فيساعدنى فيما أقول، وإذا قيل لأحدهم ما تريد قال: الله وما تقول الله قال وما علمت قال: الله فلو تكلمت جوارحه لقالت: الله وأعضاؤه ومفاصله ممتلئة من نور الله المخزون عنده، ثم يصيرون فى القرب إلى غاية لا يقدر أحد منهم أن يقول الله؛ لأنه ورد في الحقيقة على الحقيقة ومن الله على الله ولا حيرة، ومعناه لا حيرة فيما فيه الحيرة. وسُئل الحسين بن منصور هل ذكره أحد على الحقيقة فقال: كيف يذكر على الحقيقة من لا أمد لكونه ولا علة لفعله ليس له كدُّك، ولا لغيبه هدَّك له من الأسماء معناها والحروف مجراها إذ الحروف مبدوعة والأنفاس مصنوعة، والحروف قول القائل تنزغن ذلك من الأحوال خلقة، رجع الوصف في الموصف، وعمى العقل عن الفهم، والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، ودار المُلكُ في المِلك، وانتهى المخلوق إلى مثله، عدا قدره الظن، ودها نوره الغيبة. وقيل: إن الألف الأول من اسمه الله ابتداؤه، واللام الأول لام المعرفة، واللام الثاني لام الآلاء والنعماء والسطر الذي بين اللامين معانى مخاطبات الأمر والنهى، والهاء نهاية مما تكن العبادة عنه من الحقيقة لا غير. وقيل: إن الألف آلاء الله، واللام لطف الله واللام الثانى لقاء الله والهاء هيبة بآلاء الله فَوَلِهَ به المحبون والمشتاقون حين عجزوا عن علم شئ منه. وحكى أن أبا الحسين النورى بقى في منزله سبعة أيام لم يأكل ولم ينم ولم يشرب، ويقول في ولَهِه ودهشه: الله الله، وهو قائم يدور فأُخبر الجنيد بذلك فقال: انظروا أمحفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل: إنه يصلى الفرائض فقال: الحمد لله الذى لم يجعل للشيطان عليه سبيلاً ثم قال: قوموا حتى نزوره إما نستفيد منه أو نفيده فدخل عليه وهو في ولهه قال: يا أبا الحسين ما الذي دهاك؟ قال: أقول: الله الله زيدوا علىَّ فقال له الجنيد: انظر هل قولك الله الله أم قولك قولك إن كنت القائل الله فالله ولست القائل له وإن كنت تقوله بنفسك فأنت مع نفسك فما معنى الوله فقال: نعم الود فسكنت وسكن عن ولهه فكان الشبلى يقول: الله فقيل له لم لا يقول لا إله إلا الله؟ فقال: لا أنفى به ضدًا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل في قوله: الله هو المانع الذى يمنع الوصول إليه لما امتنع هذا الاسم عن الوصول إليه حقيقة كانت اللذات أشد امتناعاً لعجزهم في إظهار اسم الله، ليعلموا بذلك عجزهم عن ذكر ذاته. وقيل في قوله الله: الألف إشارة إلى الوحدانية واللام إشارة إلى محو الإشارة، واللام الثانى إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء. وقيل: إن الإشارة في الألف هو قيام الحق بنفسه وانفصاله عن جميع خلقه ولا اتصال له بشئ من خلقه كامتناع الألف أن يتصل بشئ من الحروف ابتداء بل تتصل الحروف به على حد الاحتياج إليه واستغنائه عنها. وقيل: إنه ليس من أسماء الله عز وجل اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه اسم الله إلا الله فإنه الله، فإذا أسقطت منه الألف يكون { ٱلله } فإذا أسقطت إحدى لاميه يكون " له " فإذا أسقطت اللامين بقى " الهاء " وهو غاية الإشارات. وأما وَلَهِ الخلق في تولهم فمنهم من وَلِهَ سره في عظمة جلاله، ومنهم من وَلِهَ قلبه في وجوه معرفته، ومنهم من وَلِهَ لسانه بدوام ذكره. وحكى عن ابن الشبلى قال في تجلى الجنيد في ولهه: الله فقال له الجنيد: يا أبا بكر الغيبة حرام أى أن ذكر الغائب غيبة فإن كنت غائبًا فالذكر غيبه وإن كنت تذكره عن مشاهدة فهو ترك الحرمة. وقيل: من قال الله بالحروف، فإنه لم يقل الله لأنه خارج عن الحروف والخصوص والأوهام ولكن رضى منك بذلك لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال. وقيل إن معنى قول الله: إن الأسماء كلها داخل فى هذا الاسم وخارج منه، يخرج من هذا الاسم معنى الأسماء كلها ولا يخرج هذا الاسم من اسم سواه وذلك أن الله عز وجل يفرد به الاسم دون خلقه وشارك خلقه في اشتقاقات أساميه. وقال بعض البغدادين: ليس الله ما يبدو لكم وبكم ووالله والله ما هذا فهو الله هذه حروف تبدو لكم وبكم، فإذا انظهر انتقيت فمعناه ها هو الله، وقال أبو العباس بن عطاء: قوله { ٱلله } هو إظهار هيبته وكبريائه. وكتب أبو سعيد الخراز إلى بعض إخوانه: هل هو إلا الله، وهل يقدر أحد أن يقول الله إلا الله، وهل يرى الله إلا الله، وهل عرف الله أو يعرفه إلا الله، وهل كان قبل العبد وقبل الخلق إلا الله، وهل الآن فى السماوات وفى الأرضين وما بينهما إلا الله؟ إذ لم تكونوا فكونوا بالله ولله. قال أبو سعيد الخراز: رأيت حكيماً من الحكماء فقلت له: ما غاية هذا الأمر قال: الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قلت: فما معنى قولك الله؟ قال: يقول اللهم دلنى عليك وثبتنى عند وجودك ولا تجعلنى ممن يرضى بجميع ما هو ذلك عوضاً وأقر قرارى عند لقائك. وقال أبو سعيد: إن الله عز وجل أول ما دعا عباده دعاهم إلى كلمة واحدة فمن فهمها فقد فهم ما وراءها وهى قوله { ٱلله } ألا يراه يقول قل هو الله فتم به الكلام لأهل الحقائق ثم زاد بيانًا للخاص فقال: أحد، ثم زاد بيانًا للأولياء فقال: الصمد، ثم زاد بيانًا للعوام، فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فأهل الحقائق استغنوا باسمه الله وهذه الزيادات لمن نزلت مرتبته عن مراتبهم. وقيل: إن كل أسمائه تتهيئ أن يتخلق به إلا قوله الله فإنما هو للتعلق دون التخلق وقيل: إن الإشارة في { ٱلله } هو اتصال اللامين والهاء وانفصال الألف عنه أى إنما أشرتم به إلى الله من ألف التعريف منفصل عنى لا بكم بإياكم. يقولون: وما كان من صفاتى فإنه متصل به كلله حيث اتصلت حروفه. سمعت منصوراً بإسناده عن جعفر أنه قال فى قوله { ٱلله }: إنه اسم تام لأنه أربعة: أحرف الألف وهى عمود التوحيد واللام الأول لوح القلم واللام الثانى لوح النبوة والهاء النهاية فى الإشارة، والله هو الاسم المتفرد لا يضاف إلى شئ بل تضاف الأشياء كلها إليه، وتفسير المعبود الذى هو إله الخلق منزه عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته وهو المستور عن الأبصار، والأفهام والمتحجب بجلاله عن الإدراك. قوله تعالى: { الرَّحْمٰنِ }. باسم الرحمن خرجت جميع الكرامات للمؤمنين مثل الإيمان والطاعات والولاية والعصمة وسائر المنن وكل نعمة تدوم ولا يستحق أحد من المخلوقين هذا الاسم لإن المخلوق عاجز عن إعطاء شئ لأحد يدوم ويبقى. وأيضًا فإن رحمة الرحمانية للمريدين بها ينفصلون عما دون الرحمن، ولما عمت رحمته في العاجلة على الولى والعدو في معايشهم وأرزاقهم وغير ذلك سمى رحمن. وقيل فى اسمه الرحمن: حلاوة المنة ومشاهدة القربة ومحافظة الخدمة. وقيل: إن المحبين يتنعمون بأسرارهم فى رياض معانى اسمه الرحمن فيجتنون منها ثمرة الأنس ويشربون منها ماء القربة ويتنعمون على ضفاف أنهار القدس ويرجعون منها برؤية الآلاء والنعماء، والخائفون يتلذذون فى قلوبهم فى معانى اسمه الرحمن ويتزودون منها حلاوة السكون والأمن، والتائبون يتروحون بأسرارهم فى معانى اسمه الرحمن فيرجعون منها بصفا السر وطهارة القلوب، والعاصون يمرون على ميادين اسمه الرحمن فيرجعون منها بالندم والاستغفار. وقال ابن عطاء: فى اسمه الرحمن عونه ونصرته. وقال الواسطى: الرحمن لا يتقرب إليه أحد إلا بصرف رحمانيته، والرحيم يتقرب إليه بالطاعات لأنه يشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:**{ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }** [التوبة: 128]. قوله تعالى: { الرَّحِيـمِ }. يقال: إن معنى الرحيم هو ما يخرج من الرحمة الرحيمية لمعاش الخلق ومصالح أبدانهم فلذلك لم يمنعوا أن يتسمَّوا بالرحيم ومنعوا بالتسمية بالرحمن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: إن معنى الرحيم أى بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن والرحيم بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم في قوله:**{ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }** [التوبة: 128] كأن معناه يقول بسم الله الرحمن الرحيم وبالرحيم محمد وصلتم إلى أن قلتم بسم الله الرحمن الرحيم، والرحيم هو الذى يقبلك بجميع عيوبك إذا أقبلت عليه، ويحفظك أتم الحفظ فى العاجلة وإن أدبرت عنه، لاستغنائه عنك مقبلاً ومدبرًا. قال ابن عطاء: فى اسمه { الرَّحِيـمِ } مودته ورحمته، سمعت منصورًا بإسناده عن جعفر فى قوله { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال: هو واقع على المريدين والمرادين، فاسم الرحمن للمرادين لاستغراقهم فى الأنوار والحقائق، والرحيم للمريدين لبقائهم مع أنفسهم واشتغالهم بإصلاح الظواهر، والرحمن المنتهى بكرامته إلى ما غاية له لأنه قد أوصل الرحمة بالأزل وهو غاية الكرامة ومنتهاه بدءًا وعاقبة، والرحيم وصل رحمته بالياء والميم وهو ما يتصل به من رحمة الدنيا والهدى والأرزاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
الباء في بسم الله حرف التضمين؛ أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغيرٍ من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل - إلا بالحق وجوده، والحق مَلِكُه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وَجَدَ من وَحَّد، وبه جحد من الحد، وبه عرف من اعترف، وبه تخلَّف من اقترف. وقال: { بسم ٱلله } ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفَرْقِ بين هذا وبين القَسَم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله { ٱلله } على قلبٍ مُنقَّىً وسرٍ مُصَفَّىً. وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء (بره) بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعني بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر في كل سورة من إشارات هذه الآية كلمات غير مكررة، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصي القول ها هنا وبه الثقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ بِسْمِ } الباء كشف البقاءِ لأهل الفَنَاء والسين كشف سناء القدس لأهل الأنس والميم كشف الملكوت لأهل النعوت والباء بره للعموم والسين سره للخصوص والميم محبّته لخصوص الخصوص والباء بدو العبودية والسين سِرّ الربوبية والميم منه في أزليته على أهل الصفوة والباء من بِسمِ أي ببهائي بقاء ارواح العارفين في بحار العظمة والسين من بسم اي بسنائى سمت أسرار السابقين في هواء الهوية والميم من بسم اى بمجدى وَرَدَت المواجيد الى قلوب الواجدين من انوار المشاهدة وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم **" إنَّ الباء بهاؤه والسين سناؤه والميم مجده "** وقيل في بسم الله بالله ظهرت الأشياء وبه فنيت وبتجلّيه حُسنتِ المحاسنُ وباستناره فتحت المفاتح وحكى عن الجنيد انه قال ان اهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شيء سوى الله فقال لهم قولوا بسم الله اى بى فتسمّوا ودعوا انتسابكم الى آدم وقيل ان بسم يبقى به كلُّ الخلق فلو افتتح كتابه باسمه لذاب تحته حقيقةُ الخلائق الا من كان محفوظاً من نبىّ او ولىٍّ وروى علىّ بن موسى الرضا عن ابيه عن جعفر بن محمد قال بسم الباء بقاؤه والسين أسماؤه والميم ملكه فايمان المؤمن ذكره ببقائه وخدمةُ المريد ذكره باسمائه والعارف فناؤه عن المملكة بالمالك لها واما { ٱلله } فانه اسم الجمع لا ينكشف الا لاهل الجمع وكلُّ اسم يتعلق بصفة من صفاته الا الله فانه يتعلق بذاته وجميع صفاته لاجل ذلك وهو اسم الجمع اخبر الحق عن نفسه باسمه الله فما يعرفه الا هو ولا يسمعه الا هو ولا يتكلّم به الا هو لان الالف اشارة الى الانانيّة والوحدانيّة ولا سبيل للخلق الى معرفتها الا الحق تعالى وفي اسمه الله لامان الاول اشارة الى الجمال والثاني اشارة الى الجلال والصفتان لا يعرفها الا صاحب الصفات والهاؤ اشارةٌ الى هويته وهويته لا يعرفها الا هو والخلق معزولون عن حقائقه فيحتجبون بحروفه عن مَعْرفَته بالالف تجلى الحقُّ من انانيته لقلوب الموحدين فتوحدوا به وباللام الاول تجلّى الحق من ازليته لارواح العارفين فانفرد بانفراده وباللام الثاني تجلّى الحق من جمال مشاهدته لاسرار المحبّين فغابوا في بحار حبّه وبالهاء تجلى الحق من هويته لفؤاد المقربين فَتَاهُوا في بيداء التحير من سَطَوات عظمته قال الشبلى ما قال الله احد سوى الله فان كان من قاله بحظ وانّى يدرك الحقائق بالحظوظ وقال الشبلىُّ الله فقيل له لِمَ لا تقول لا اله الا الله فقال لا ابقى به ضدّا وقيل في قوله الله هو المانع الذى يمنع الوصول اليه كما امتنع هذا الاسم عن الوصول اليه حقيقة كان الذات اشد امتناعاً عجزهم في اظهار اسمه لهم ليعلموا بذلك عجزهم عن درك ذاته وقيل فى قوله ان الالف اشارة الى الوحدانية واللام الاولى اشارة الى محو الاشارات واللام الثاني اشارة الى محو المحوق كشف الهاء وقيل الاشارة فى الالف هو قيام الحق بنفسه وانفصاله عن جميع خلقه فلا اتصال له بشئ من خلقه كامتناع الالف ان يتصل بشئ من الحروف ابتداءً بل يتصل الحروف به على حد الاحتياج اليه واستغنائه عنهم وقيل ليس من اسماء الله اسمًّ يبقى على اسقاط كل حرف منه الا الله فانه الله فاذا اسْقطََت منه الالف يكون لله فاذا اسقطت احد لامَيْه يكون له فاذا اسقطت اللامين بقى الهاء وهو غايةُ الاشارة وقال بعضهم الباء باب خزانة الله والسين سين الرسالة والميم ملك الولاية وقال بعضهم بالله سلم قلوب اولياء الله من عذاب الله وبنقطته تطرقت اسرار اصفياء الله الى حضرته وبرحمته تفردَّت افئدة خواص عباده معه وقال بعضهم بالله تحيّرت قلوب العارفين فى علم ذات الله وبشفقته توصّلَتُ علوم العالمين الى صفات الله وبرحمته ادركت عقول المؤمنين شواهد ما اشهدهُم الله من بيان الله وقيل بإلهيته تفرَّدت قلوب عباد الله وبتعطُّفِه صفت ارواحُ محبيه وبرحمته ذكرت نفوس عابديه وقيل بسم الله ترياق اعطى المؤمنين يدفع الله به عنهم سم الدنيا وضَررهَا وقالَ جعفر الصادق بسم للعامة والله لخاص الخاص وقال سهل الله هو اسم الله الاعظم الذي حوى الاسماء والاسامى كلها وبين الالف واللام منه حرف مكنّى غيب من غيب الى غيبه وسرُّ من سرٍّ الى سِرّه حقيقةٌ من حقيقةٍ الى حقيقته لا ينال فهمه الا الطاهر من الادناس الاخذ من الحلال قواماً ضرورة الايمان وقيل من قال بالحروف فانه لم يقل الله لانه خارج عن الحروف والحسوس والاوهَام والافهام ولكن رضى منا بذلك لانه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال وحكى ان ابا الحسَنِ النوريَّ بقى في منزله سبعة ايّامٍ لم يأكل ولم يشرب ولم يَنَمُ ويقول فى وَلهة ودهشة الله الله وهو قائمٌ يَدُور فأخبر الجنيد قال انظروا محفوظ عليه اوقاته فقيل انه يصلّى الفرائض فقال الحمد لله الذى لم يجعل للشيطان له سبيلاً ثم قال قوموا حتى نزوره امّا ان نستفيد منه او نفيده فدخل عليه وهو في وَلَهه وقال يا ابا الحسن ما الذى ولهك قال ثم قول الله الله زيدوا عليّ فقال له الجنيد انظر هل قولك الله الله ام قولك ان كان كنت القائل الله الله فلست القائل له وان كنت تقول بنفسك فانت مع نفسك فما معنى الوله قال نِعمَ المؤدب كنت وسكن من ولَهه امّا قوله { الرَّحْمٰنِ } رحم على اوليائه بسم الرحمٰن بتعريف نفسه لهم حتّى عَرَفوا به أسماءه وصفاته وجلاله وجماله وبه خرجت جميع الكرامات للابدال والصديقين وبه تهيّات اسرار المقامات للاصفياء والمقربين وبه تجلت انوار المعارف للاتقياء والعارفين لان اسم الرحمٰن مخبرٌ عن خلق الخلق وكرمه على جميع الخلق وفى اسمه الرحمن ترويح ارواح الموحدين ومزيد افراح العارفين وتربية اشباح العالمين وفيه نزهة المحبّين وبَهْجة الشائقين وفرحة العاشقين وامان المذنبين ورجاء الخائفين وقال بعضهم اسمه الرحمن حلاوة المنّة ومشاهدة القرية ومحافظة الحرمة وقال ابن عطاء في اسمه الرحمن عونه ونصرته وقوله { الرَّحِيـمِ } موهبة الخاص لاهل الخاص هو مستند لذوي العثرات ومسرّة لاهل القربات والرّحمن مطيّة السالكين تسير بهم الى معدن العناية والرحيم حبل الحق المجذوبين تجذبهم به الى حِجَال الوصلة باسم الرحمن اَمَنهم من العقاب وباسمه الرّحيم اَتَاهُم من نفائس الثواب الاول مفتاح المكاشفة والاخر مرقاة المشاهدة باسمه الرحمن فتح لَهُمُ الغيوب وباسمه الرحيم غفر لهم الذنوب وقال ابن عطاء في اسمه الرحيم مودّة ومحبّة وعن جعفر بن محمد فى قوله { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } انه قال هو واقع على المريدين والمرادين فاسم الرحمن للمرادين لاستغراقهم فى انوار الحقائق والرحيم للمريدين لبقائهم مع انفسهم واشتغالهم بالظاهر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدلّ بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعينها على وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و { الله } اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، ولا باعتبار لا اتصافها. و { الرحمن } هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية. و { الرحيم } هو المفيض للكمال المعنويّ المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل: " يا رحمن الدنيا والآخرة " ، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامّة والخاصة، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات ابدأ واقرأ، وهي الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: **" أوتيت جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق "** ، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى عليه السلام كلمة من الله، ومكارم الأخلاق حالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وههنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأمير المؤمنين علي عليه السلام وبعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. ولهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله المخاطب بقوله تعالى: **" ما خلقت خلقاً أحب إليّ ولا أكرم عليّ منك، بك أعطي، وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب... "** الحديث. والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أمّ المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمّهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم الملكوت، والعرش، والكرسي، والسموات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته. والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلاً في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس برأسه له برهان، كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ }** [البقرة، الآية: 98]. والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهيّ الحقّ، باعتبار الذات، والصفات، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظميّ الإنسانيّ ولاحتجاب العالم الإلهي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | حين **" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: " سرقها الشيطان " "** وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضاً عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، ولهذا نكرت في الوضع. وقد ورد في الحديث: **" إن الله تعالى خلق آدم على صورته "** ، فالذات محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال، والأفعال بالأكوان والآثار. فمن تجلّت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل، ومن تجلّت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلّم. ومن تجلّت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحداً مطلقاً فاعلاً ما فعل وقارئاً ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدّم على توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار صلوات الله عليه في سجوده بقوله: **" أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ بسم الله الرحمن الرحيم } الاصح المقبول عند متأخرى الحنفية ان البسملة آية فذة ليست جزأ من سورة انزلت للفصل والتبرك بالابتداء كما بذكرها في كل أمر ذى بال وهى مفتاح القرآن واول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ واول ما نزل على آدم عليه السلام وحكمة تأخرها واول ما جرى به القلم فى اللوح المحفوظ واول ما نزل على آدم عليه السلام وحكمة تأخرها عن الاستعاذة تقدم التخلية بالمعجمة على التحلية والاعراض عما سوى الله على الاقبال والتوجه اليه. { بسم الله } كانت الكفار يبدؤون باسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات والعزى فوجب ان يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل فلذلك قدر المحذوف متأخرا اى باسم الله اقرأ او اتلو أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له. قالوا واودع جميع العلوم في الباء اى بى كان ما كان وبى يكون ما يكون فوجود العوالم بى وليس لغيرى وجود حقيقى الا بالاسم والمجاز وهو معنى قولهم ما نظرت شياً الا ورأيت الله فيه او قبله ومعنى قوله عليه السلام **" لا تسبوا الدهر فان الدهر هو الله "** فان قلت ما الحكمة والسر في أن الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء واختارها من سائر الحروف لا سيما على الألف فإنه أسقط الألف من الاسم واثبت مكانه الباء في باسم فالجواب في افتتاح الله بالباء عشرة معان. احدها ان فى الالف ترفعا وتكبرا وتطاولا وفى الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا فمن تواضع لله رفعه الله. وثانيها ان الباء مخصوصة بالالصاق بخلاف اكثر الحروف خصوصا الالف من حروف القطع ثالثها أن الباء مكسوره أبداً فلما كانت فيها كسرة وانكسار في الصوره وجدت شرف العندية من الله تعالى كما قال الله تعالى **" انا عند المنكسرة قلوبهم من اجلى "** ورابعها ان فى الباء تساقطا وتكسرا فى الظاهر ولكن رفعة درجة وعلوهمة فى الحقيقة وهى من صفات الصديقين وفى الالف ضدها اما رفعة درجتها فبانها اعطيت نقطة وليست للالف هذه الدرجة واما علو الهمة فانه لما عرضت عليها النقط ما قبلت الا واحدة ليكون حالها كحال محب لا يقبل الا محبوبا واحدا. وخامسها ان فى الباء صدقا فى طلب قربة الحق لانها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتها تحت قدمها وما تفاخرت بها ولا يناقضه الجيم والياء لان نقطهما فى وضع الحروف ليست تحتهما بل فى وسطهما وانما موضع النقط تحتهما عند اتصالهما بحرف آخر لئلا يشتبها بالخاء والتاء بخلاف الباء فان نقطتها موضوعة تحتها سواء كانت مفردة أو متصلة بحرف آخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وسادسها ان الالف حرف علة بخلاف الباء. وسابعها ان الباء حرف تام متبوع فى المعنى وان كان تابعا صورة من حيث ان موضعه بعد الالف فى وضع الحروف وذلك لان الالف فى لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الالف فان الباء لا يتبعه والمتبوع فى المعنى اقوى وثامنها ان الباء حرف عامل ومتصرف فى غيره فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة فصلحت للابتداء بخلاف الالف فانه ليس بعامل. وتاسعها أن الباء حرف كامل فى صفات نفسه بانه للالصاق والاستعانة والاضافة مكمل لغيره بان يخفض الاسم التابع له ويجعله مكسوراً متصفاً بصفات نفسه وله علو وقدرة في تكميل الغير بالتوحيد والارشاد كما اشارة اليه سيدنا على رضى الله عنه بقوله ان النقطة تحت الباء فالباء له مرتبة الارشاد والدلالة على التوحيد وعاشرها ان الباء حرف شفوى تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية ولذلك كان اول انفتاح فم الذرة الانسانية فى عهد الست بربكم بالباء فى جواب بلى فلما كان الباء اول حرف نطق به الانسان وفتح به فمه وكان مخصوصا بهذه المعانى اقتضت الحكمة الالهية اختياره من سائر الحروف فاختارها ورفع قدرها واظهر برهانها وجعلها مفتاح كتابه ومبدأ كلامه وخطا به تعالى وتقدس كذا فى التأويلات النجمية. واسم الله ما يصح ان يطلق عليه بالنظر الى ذاته او باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس او الثبوتية كالعليم او باعتبار فعل من افعاله كالخالق ولكنها توقيفية عند بعض العلماء كما فى الشرح المشارق لابن الملك ثم المختار ان كلمة الله هو الاسم الاعظم فان سأل سائل وقال أن من شرط الاسم الاعظم انه إن دعي الله به أجاب وان سئل به أعطى فنحن ندعو به ونسأل ولم نر الاجابه في أكثر الاوقات قلنا ان للدعاء آدابا وشرائط لا يستجاب الدعاء الا بها كما ان للصلاة كذلك فاول شرائطه اصلاح الباطن باللقمة الحلال وقد قيل " الدعاء مفتاح السماء واسنانه لقمة الحلال " وآخر شرائطه الاخلاص وحضور القلب كما قال الله تعالى { فادعوا الله مخلصين له الدين } فان حركة الانسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولولة الواقف على الباب وصوت الحارث على السطح اما اذا كان حاضرا فالقلب الحاضر فى الحضرة شفيع له. قال الشيخ مؤيد الدين الجندى قدس سره ان للاسم الاعظم الذى اشتهر ذكره وطاب خبره ووجب طيه وحرم نشره من عالم الحقائق والمعانى حقيقة ومعنى ومن عالم الصور والالفاظ صورة ولفظا اما حقيقته فهى احدية جمع جميع الحقائق الجمعية الكمالية كلها واما معناه فهو الانسان الكامل فى كل عصر وهو قطب الاقطاب حامل الامانة الالهية خليفة الله واما صورته فهى صورة كامل ذلك العصر وعلمه كان محرما على سائر الامم لما لم تكن الحقيقة الانسانيه ظهرت بعد في أكمل صورته بل كانت في ظهورها بحسب قابلية كامل ذلك العصر فحسب فلما وجد معنى الاسم الاعظم وصورته بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم اباح الله العلم به كرامة له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { الرحمن } الرحمة فى اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها والمراد بها ههنا هو التفضل والاحسان او ارادتهما بطريق اطلاق اسم السبب بالنسبة الينا على مسببه البعيد او القريب فان اسماء الله تؤخذ باعتبار الغايات التى هي افعال دون المبادى التي هى انفعالات فالمعنى العاطف على خلقه بالرزق لهم ودفع الآفات عنهم لا يزيد فى رزق المتقى لقبل تقواه ولا ينقص من رزق الفاجر لقبل فجوره بل يرزق الكل بما يشاء { الرحيم } المترحم اذا سئل اعطى واذا لم يسأل غضب وبنى آدم حين يسأل يغضب. واعلم ان الرحمة من صفات الذات وهو ارادته ايصال الخير ودفع الشر والارادة صفة الذات لان الله تعالى لو لم يكن موصوفا بهذه الصفة لما خلق الموجودات فلما خلق الخلق علمنا ان رحمته صفة ذاتية لان الخلق ايصال خير الوجود الى المخلوق ودفع شر العدم عنهم فان الوجود خير كله. قال الشيخ القيصرى اعلم ان الرحمة صفة من الصفات الآلهية وهى حقيقة واحدة لكنها تنقسم بالذاتية والصفاتية اى تقتضيها اسماء الذات واسماء الصفات وكل منهما عامة وخاصة فصارت اربعا ويتفرع منها الى ان يصير المجموع مائة رحمة واليها اشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله **" ان لله مائة رحمة اعطى واحدة منها لاهل الدنيا كلها وادخر تسعا وتسعين الى الآخرة يرحم بها عباده ".** فالرحمة العامة والخاصة الذاتيتان ما جاء فى البسملة من الرحمن الرحيم والرحمة الرحمانية عامة لشمول الذات جميع الاشياء علما وعينا والرحيمية خاصة لانها تفصيل تلك الرحمة العامة الموجب لتعيين كل من الأعيان بالاستعداد الخاص بالفيض الاقدس والصفاتية ما ذكره فى الفاتحة من الرحمن الرحيم الاولى عامة الحكم لترتبها على ما افاض الوجود العام العلمى من الرحمة العامة الذاتية والثانية خاصة وتخصيصها بحسب استعداد الاصلى الذى لكل عين من الاعيان وهما نتيجتان للرحمتين الذاتيتين العامة والخاصة انتهى كلامه. قالوا لله تعالى ثلاثة آلاف اسم الف عرفها الملائكة لا غير والف عرفها الانبياء لا يغر وثلاثمائة فى التوراة وثلاثمائة فى الانجيل وثلاثمائة فى الزبور وتسعة وتسعون في القرآن وواحد استأثر الله به ثم معنى هذه الثلاثة آلاف فى هذه الاسماء الثلاثة فمن علمها وقالها فكأنما ذكر الله تعالى بكل اسمائه وفى الخبر ان النبى عليه السلام قال **" ليلة اسرى بى الى السماء عرض على جميع الجنان فرأيت فيها اربعة انهار نهرا من ماء ونهرا من لبن ونهرا نم خمر ونهرا من عسل فقلت يا جبريل من اين تجيئ هذه الانهار والى اين تذهب قال تذهب الى حوض الكوثر ولا ادرى من اين تجئ فادع الله تعالى ليعلمك او يريك فدعا ربه فجاء ملك فسلم على النبى عليه السلام ثم قال يا محمد غمض عينيك قال فغمضت عينى ثم قال افتح عينيك ففتحت فاذا انا عند شجرة ورأيت قبة من درة بيضاء ولها باب من ذهب احمر وقفل لو أن جميع ما فى الدنيا من الجن والانس وضعوا على تلك القبة لكانوا مثل طائر جالس على جبل فرأيت هذه الانهار الاربعة تخرج من تحت هذه القبة فلما اردت ان ارجع قال لى ذلك الملك لم لا تدخل القبة قلت كيف ادخل وعلى بابها قفل لا مفتاح له عندى قال مفتاحه بسم الله الرحمن الرحيم فلما دنوت من القفل وقلت بسم الله الرحمن الرحيم انفتح القفل فدخلت فى القبة فرأيت هذه الانهار تجرى من اربعة اركان القبة ورأيت مكتوبا على اربعة اركان القبة بسم الله الرحمن الرحيم ورأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم الله ورأيت نهر اللبن يخرج من هاء الله ونهر الخمر يخرج من ميم الرحمن ونهر العسل من ميم الرحيم فعلمت ان اصل هذه الانهار الاربعة من البسملة فقال الله عز وجل يا محمد من ذكرنى بهذه الاسماء من امتك بقلب خالص من رياء وقال بسم الله الرحمن الرحيم سقيته من هذه الانهار ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفى الحديث **" لا يرد دعاء اوله بسم الله الرحمن الرحيم ".** وفي الحديث ايضا **" من رفع قرطاسا من الارض مكتوبا عليه بسم الله الرحمن الرحيم اجلالا له ولاسمه عن ان يدنس كان عند الله من الصديقين وخفف عن والديه وان كانا مشركين ".** وذكر الشيخ احمد البونى فى لطائف الاشارات ان شجرة الوجود تفرعت عن بسم الله الرحمن الرحيم وان العالم كله قائم بها جملة وتفصيلا فلذلك من اكثر من ذكرها رزق الهيبة عند العالم العلوى والسفلى. وكتب قيصر ملك الروم الى عمررضى الله عنه أن بي صداعاً لا يسكن فابعث لي دواء إن كان عندك فإن الأطباء عجزوا عن المعالجة فبعث عمر رضي الله عنه قلنسوة فكان اذا وضعها على رأسه سكن صداعه واذا رفعها عن رأسه عاد صداعه فتعجب منه ففتش فى القلنسوة فاذا فيها كاغد مكتوب عليه بسم الله الرحمن الرحيم. قال الشيخ الاكبر في الفتوحات اذا قرأت فاتحة الكتاب فصل بسملتها معها في نفس واحد من غير قطع وعن محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم حالفاً عن جبريل عليه السلام حالفا عن ميكائيل عليه السلام حالفا عن اسرافيل عليه السلام قال الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" يا اسرافيل بعزتي وجلالى وجودى وكرمى من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة فاشهدوا على انى قد غفرت له وقبلت منه الحسنات وتجاوزت له عن السيآت ولا احرق لسانه بالنار واجيره من عذاب القبر وعذاب النار وعذاب يوم القيامة والفزع الاكبر وتلقانى قبل الانبياء والاولياء اجميعن ".** سورة فاتحة الكتاب. وجه التسمية بفاتحة الكتاب اما لافتتاح المصاحف والتعليم وقراءة القرآن والصلاة بها واما لان الحمد فاتحة كل كلام واما لانها اول سورة نزلت واما لانها اول ما كتب في اللوح المحفوظ واما لانها فاتحة ابواب المقاصد فى الدنيا وابواب الجنان فى العقبى واما لان انفتاح ابواب خزائن اسرار الكتاب بها لانها مفتاح كنوز لطائف الخطاب بانجلائها ينكشف جميع القرآن لاهل البيان لان من عرف معانيها يفتح بها اقفال المتشابهات ويتقبس بسناها انوار الآيات. وسميت بام القرآن وما الشئ اصله لان المقصود من كل القرآن تقرير امور اربعة اقرار بالالوهية والنبوة واثبات القضاء والقدرة لله تعالى فقوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم يدل على الألوهيه وقوله مالك يوم الدين يدل على المعاد وقوله**{ إياك نعبد وإياك نستعين }** الفاتحة 5 على نفى الجبر والقدر وعلى اثبات ان الكل بقضاء الله تعالى وسميت بالسبع المثانى لانها سبع آيات او لان كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن فمن قرأها اعطى ثواب قراءة الكل او لان من فتح فاه بقراءة آياتها السبع غلقت عنه ابواب النيران السبعة هذه وجوه التسمية بالسبع واما بالمثانى فلانها تثنى فى كل صلاة او فى كل ركعة بالنسبة الى الاخرى او المراد تشفع فى كل ركعة سورة حقيقية او حكما او لان نزولها مرتين مرة فى مكة ومرة فى المدينة. وسميت بسورة الصلاة وسورة الشفاء والشافية واساس القرآن والكافية والوافية وسورة الحمد وسورة السؤال وسورة الشكر وسورة الدعاء لاشتمالها عليها وسورة الكنز لما يروى ان الله تعالى قال **" فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشى ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
الاعراب ـ اجمع القراء على ضم الدال من الحمد وكسر اللام الاولى من لله وكان يجوز أن يفتح الدال مع كسر اللام ويكسر الدال واللام لكن لم يقرأ به إلا أهل البوادي. ومن نصب فعلى المصدر. ومن كسرهما اتبع كسرة الدال كسرة اللام ومن ضمهما اتبع ضم الدال بضمة اللام. ونصب الدال لغة في قريش والحارث بن اسامة بن لؤي. وكسرها لغة في تمميم وغطفان. وضمها لغة في ربيعة توهموا انه حرف واحد مثل الحلم. وقوله: لله مخفوض بالاضافة ورب العالمين مخفوض لانه نعت ويجوز نصبه على الحال والنداء وما قرىء به. والعالمين مخفوض بالاضافة ونونها مفتوحة لانها نون الجمع فرقاً بينها وبين نون التثنية. وبعض قيس يحذف الالف التي قبل الهاء ويخلس الهاء ويشددها ويقصرها. انشد بعضهم: | **ألا لا بارك الله في سهيل** | | **اذا ما بارك الله في الرجال** | | --- | --- | --- | اختلس الاولى واشبع الثانية. ولا يقرأ بهذا. ومعنى الحمد لله الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد بما أنعم على عباده من ضروب النعم الدينية والدنياوية وقال بعضهم: الحمد لله ثناء عليه باسمائه وصفاته وقوله الشكر لله ثناء على نعمه وأياديه؛ والأول أصح في اللغة، لأن الحمد والشكر يوضع كل واحد منهما موضع صاحبه. ويقال أيضاً: الحمد الله شكراً فنصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن في معناه لما نصبه، ودخول الألف واللام فيه لفائدة الاستيعاب، فكانه قال جميع الحمد لله، لأن التالي مخبر بذلك، ولو نصبه فقال حمداً لله أفاد أن القائل هو الحامد فحسب وليس ذلك المراد، ولذلك اجتمعت القراء على ضم الدال على ما بيناه، والتقدير: قوله الحمد لله. واذا كان الحمد هو الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة على ضرب من التعظيم فالمدح ليس من الشكر في شيء وانما هو القول المنبىء عن عظم حال الممدوح مع القصد اليه. وأما الرب فله معان في اللغة: فيسمى السيد المطاع رباً، قال لبيد بن ربيعة: | **فاهلكن يوماً رب كندة وابنه** | | **ورب معد بين خبت وعرعر** | | --- | --- | --- | يعني سيد كندة. ومنه قوله تعالى: { أما أحدكما فيسقي ربه خمراً } يعني سيده ويسمى الرجل المصلح رباً. قال الفرزدق بن غالب: | **كانوا كسالئة حمقاء اذ حقنت** | | **سلائها في اديم غير مربوب** | | --- | --- | --- | يعني غير مصلح ومنه قيل فلان رب ضيعة اذا كان يحاول اتمامها. والربانيون من هذا من حيث كانوا مدبرين لهم. واشتق رب من التربية يقال ربيته وربيته بمعنى واحد والربىّ الشاة ولدت حديثاً لأنها تربى. وقوله { رب العالمين } أي المالك لتدبيرهم. والمالك للشيء يسمى ربه ولا يطلق هذا الاسم إلا على الله، وأما في غيره فبقيد فيقال: رب الدار ورب الضيعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقيل انه مشتق من التربية ومنه قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم } ومتى قيل في الله انه رب بمعنى انه سيد فهو من صفات ذاته. واذا قيل بمعنى انه مدبر مصلح فهو من صفات الأفعال والعالمين جمع عالم وعالم لا واحد له من لفظه كالرهط والجيش وغير ذلك، والعالم في عرف اللغة عبارة عن الجماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس ولا يقولون جاءني عالم من البقر وفي عرف الناس عبارة عن جميع المخلوقات وقيل انه ايضاً اسم لكل صنف من الأصناف وأهل كل زمن من كل صنف يسمى عاماً ولذلك جمع. وقيل عالمون لعالم كل زمان. قال العجاج: فخندف هامة هذا العالم وهذا قول اكثر المفسرين كابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم. واشتقاقه من العلامة لأنه علامة ودلالة على الصانع تعالى. وقيل انه من العلم ـ على ما روى ابن عباس ـ قال هم صنف من الملائكة والانس والجن لأنه يصح ان يكون كل صنف منهم عالماً. فان قيل كيف يجوز ان يقول الحمد لله والقائل هو الله تعالى وان كان يجب ان يقول الحمد لنا. قيل العالي الرتبة اذا خاطب من دونه لا يقول كما يقول للنظير. ألا ترى ان السيد يقول لعبده الواجب ان تطيع سيدك ولا تعصيه، وكذلك يقول الأب لابنه يلزمك أن تبر أباك والمنة لأبيك. والخلفاء يكتبون عن انفسهم إن أمير المؤمنين رأى كيت وكيت ليقع ذلك موقع اجلال واكرام واعظام. على انا قد بينا ان المراد بذلك: قولوا الحمد لله، وحذف لدلالة الكلام عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
أعلموا - أيّها المعتنون بفهم معاني الكتاب هداكم الله طريق الصواب - أنّ هاهنا أبحاثاً لفظية بعضها متعلقة بنقوش الحروف وهيئآتها الكَتبيّة، وصُوَر الألفاظ وصفاتها السمعيّة، قد نصب الله لها أقواماً من الكُتّاب والقُرّاء والحفّاظ، وجعلَ غايةَ سعيهم معرفة تجويد قراءتها وتحسين كتابتها وبعضها متعلّقة بمعرفة أحوال الأبنية والاشتقاقات، وأحوال الإعراب والبناء للكلمات، وبعضها متعلّقة بمعرفة أوائل مفهومات اللغات المفردة والمركّبة. وهذه كلها دون ما هو المقصد الأقصى والمنزل الأسنى. وقد بلغتْ في كل منها طائفة حد المنتهى، وعرجت فيها غاية المدى، قد نصبهم الله لكسب هذه العلوم الجزئية المتوقّف عليها فهم حقائق القرآن، لتكون درجتهم درجة الخوادم والآلات لِما هو بالحقيقة الثمرة والتمام، وما به كمال نوع الإنسان. فاعلموا أن الكلام مشتمل على عبارة وإشارة، كما أن الإنسان متألّف الوجود من غيب وشهادة، فالعبارةُ لأهل الرعاية، والاشارة لأهل العناية، فالعبارة كالميّت المستتر فى طيّ الأكفان، والاشارة كاللطيفة الذاكرة العارفة التي هي حقيقة الإنسان، والعبارة من عالَم الشهادة، والاشارة من عالَم الغيب، والشهادة ظلّ الغيب، كما أنّ تشخّص الإنسان ظلّ حقيقته. أما أهل العبارة والكتابة، فقد صرَفوا أعمارَهم في تحصيل الألفاظ والمباني، وغرقت عقولُهم في إدراك البيان والمعاني. وأما اهل القرآن والكلام وأهل الله خاصّة بالمحبّة الإلهية والجذبة الربانية والقرابة النبوية، فقد يسّر الله لهم السبيل، وقَبِل منهم قليل العَمَل للرحيل، وذلك لخلوص نيّتهم، وصفاءِ سريرتهم، فهم لا يحتاجون في فهم حقائق القرآن وغرائب معانيه إلى أن يخوضوا في البحث عن ظواهر ألفاظ الكلام وغرائب القرآن، وضبط هيئاته ومبانيه، وبصرف العمر في معرفة الاشتقاق والإعراب ليصيروا فُرساناً في علم الإعراب، مقدَّمين في جملة الكتاب، ويفرغوا غاية جهدهم في الأوقات والأزمان في تحصيل ما يسمّونه علم المعاني والبيان، وما يجري هذا المجرى في الرتبة والشّأن، بل كفاهم طرف يسير من كل فنّ منها، وجرعة قليلة من كل دنّ من دنّها، أخذاً للزاد، وتعجيلاً لسفر المعاد. فمن أراد أن يقف على أنه لِمَ طُوِّلت الباءُ في " بسم الله " ومُدّت السين؟ أو لِمَ حُذفت الألف في الخطّ هنا، واثبتت في قوله " باسم ربّك " أو لِمَ أسقطت الألف بعد اللام في " الله " أو هل تفخم لام الجلالة أم لا، فليرجع إلى أهل الخط والقراءة. ومن أراد أن يقف على أن البسملة ما شأنها في أوائل السور الكريمة. هل هي هناك جزء من كلّ واحدة، أو أنّها جزء من الفاتحة وحدها لا غير، أو أنّها ليست جزء من شيء منها، بل هي آية فذّة من القرآن، أو انزلت للفصل بها بين السور، أو أنها لم تنزل إلا بعض آية في سورة النمل، وليست جزءً من غيرها، وإنما يأتي بها التالي والكاتب في أوائلهن تبرّكاً باسمه تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أو أنها آيات من القرآن أنزلت بعَدَد السوَر المصدّرة بها من دون الجزئية لهن، فليرجع إلى أصحاب النقل وأهل الرواية. ومن أراد أن يعرف بِمَ تعلّقت الباء، وبأي محذوف ارتبطت، ولِمَ قدّر المحذوف متأخّراً مَن قال: إن المراد بسم الله أقرأ أو أتلوا، وقد قدّمه تعالى في قوله إقْرأ بِاسْمِ رَبِّكَ وما معنى تعلق اسم الله بالقراءة. أو كيف يقدر كذلك والقائل هو الله أو كيف بُنيت الباء على الكسرة ومن حقّ حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تُبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه، ولام الابتداء، وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، وأن كلمة الجلالة إسم هي أو صفة مشتقة، أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة، سيّما الكشّاف، فإنه كامل في بابه فائق على أترابه، وإن لكلّ طائفة فيما يعدّونه تقرّباً إلى الله وعبودية له رأياً ومذهباً، والكل باختلاف مشاربهم ومذاهبم إيّاه يطلبون، ونحوه يقصدون، وبما لديهم فرحون، وبما جاء به غيرهم - وإن كان على بيّنة من ربه - يستهزئون " وللناس فيما يعشقون مذاهب " إلا أنّ مذهب أهل الله شيء آخر، ودينهم دين خالص، بل لا مذهب لهم إلا الله ولا دين لهم سواه:**{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ }** [الزمر:3]. | **مذاهب شتّى للمحبّين في الهوى** | | **ولي مذهب فرد أعيشُ به وحدي** | | --- | --- | --- | وهم عِبادُ الرَّحمنِ بالحقيقة، وغيرهم عَبدَة المذاهب والآراء، وطلاّب النفس والهَوى، لأنّ عبادة الرب وطاعته فرعُ معرفته، وطلب قربته، إذ طلب المجهول محال، فمَن لم يكن عارفاً بالله ولا عارفاً بملكوته، فكيف يحبّه ويطلبه ويقصد التقرّب إليه ويتولاّه. ولكن الحق لكمال رأفته ورحمته لعباده وشمول عاطفته وانبساط نور وجوده على الممكنات، وتجلّي وجه ذاته لسائر الموجودات، جعل لكل منهم مثالاً يحتذونه، ومثابة يقصدونها، ومنهاجاً يسلكونه، ووجهة يتولّونها، وقبلة يرضونها، وشريعة يعملون بها فقال:**{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً }** [البقرة:148]. وقال:**{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }** [المائدة: 48]. الآية، وقال:**{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }** [الروم:32]. وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولُبابه وقشوره، لأن كلام الله لَمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلْق واعتقاداتهم لله بين مجسِّمٍ ومنزِّهٍ ومتفلسِفٍ ومعطِّلٍ ومشرِكٍ وموحِّدٍ، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دلّ على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تيّاره الأكثرون، وما نجا منه إلاّ الأقلّون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقفُ على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علماً إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هويّاتهم، ولا يحيطون بعلمه إلاّ بما شاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرِحُون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في وادٍ وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في وادٍ لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحّم لجّة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجَسور لا خوض الجبان الحَذور، كان يجب عليه أولاً أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحّص عن عقيدة كل فِرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محقّ ومبطل، ومتديّن ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيّا إلاّ ويريد أن يطّلع على بطانته، ولا ظاهرياً الاّ ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفاً إلا ويتحرّى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلّماً إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيّاً إلا ويحرص على العثور على سرّ صفوته، ولا زنديقاً أو معطّلاً إلا ويتجسس للتنبّه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطّش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزياً له، فطرة من الله في جِبِلّته لا باختياره وحيلته، حتّى انحلّت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصُبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): **" كُلّ مولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ فَأبَواهُ يُهودانَه وَينصّرانَه ويُمجّسانه "** فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحيّر والانضجار والانكسار، والتهبت نارُ نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتَعل كبريتُ قلبه ناراً من حدّة غضبه على نفسه لمّا رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سرُّ من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلىّ أصل كل نظر دقيق، وشاهَد بذلك السرّ الخفيّ غاية كلّ شك وتحقيق، ونهاية كلّ مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم. فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج درراً ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميّين فهو قدْر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيّها الناظر بعين المروّة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلاّ فغضّ بصرَك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغِل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحِيَل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيَدةُ العوام، ومجلَبةُ الجاه والحُطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإنّ قيمتك على مقدار همّتك، وقصدك على سمْت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويَكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل [الاسم] إسم الإسم موضوع في اللغة للَفظٍ دالٍ على معنى مستقل، لأنّه مشتقٌّ من السِمَة وهي العلامة، فكأنّه كان منقولاً لغوياً نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصّة، وهو اللفظ الدّال عليه بالاستقلال، ولمّا كان نظرُ العرفاء إلى أصل كلّ شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعمّ وأشمل من أن يكون لفظاً مسموعاً، أو صورة معلومة، أو عيناً موجوداً. ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإنّ الاسم في قوله تعالى:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ }** [الأعلى:1]. وقوله:**{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }** [الرحمن:78]، مستبعد أن يكون المراد به الحرف والصوت وما يلتئم منهما، لانهما من عوارض الأجسام، وما هو كذلك يكون أخسّ الأشياء، فكيف يكون مسبّحاً مقدّساً، والقول بكونه من قبيل مجاز الحذف، أو المجاز في التشبيه، بعيد من غير ضرورة داعية مع وجود معنى حقيقي، فاسم الله عندهم معنى مقدّس عن وصْمة الحدوث والتجدّد، منزّه عن نقيصة التكوّن والتغيّر، فلهذا وقعت الاستعانة والتبرّك باسمه تعالى في مثل قولك: بِاسْمِ الله اقْرَءُ وبِسْمِ الله اكتُبُ، وجرت العادة بالتوسّل إلى اسم الله لطلب الحوائج وكفاية المهمّات، في مثل: بِسْمِ اللهِ الشَافي بِسْمِ الله الكَافي، وفي الأدعية النبويّة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمِه شيء في الأرضِ ولا في السَّماءِ. وقد ثبت عند محققي العلماء، أن المؤثّر في جواهر الأكوان ليس إلاّ الباري جلّ اسمه، أو مَلَك مقرّب من ملائكته بإذنه، فلا تأثير للعوارض الجسمانية في الأشياء الجوهريّة ايجاداً وإعداماً، نعَم الأذكار والأدعيّةُ إنّما تؤثّر من جهة معانيها واتّصال النفس عند التذكّر بمباديها الفعّالة، فعالَم الذكر الحكيم منبع إنجاح المهمّات، ومبدأ استيجاب الدعوات، لا مقارعة الحروف والأصوات، وتحرّك الشفتين بالالفاظ والعبارات، وقد مرّ في المفاتيح ما يكشف عن بعض الأسرار المتعلقة بأسماء الله. فصل [اسم الله تعالى] فاسم الله عند أكابر العرفاء، عبارة عن مرتبة الالوهيّة الجامعةِ لجميع الشؤون والاعتبارات، والنعوت والكمالات، المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلاّ لمعات نوره وشؤون ذاته وهي أول كثرة وقعت في الوجود، برزخ بين الحضرة الأحديّة وبين المظاهر الأمريّة والخَلقيّة، وهذا الاسم بعينه جامع بين كلّ صفتين متقابلتين أو اسمين متقابلين، لِما علِمتَ سابقاً أن الذات مع كلّ صفةٍ اسم، وهذه الأسماء الملفوظة أسماء الأسماءِ، والتكثّر فيها بحسب تكثّر النعوت والصفات، وذلك التكثّر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبيّة وشؤونه الإلهية التي مفاتيح الغيب، وتقع عكوسها وأظلالها على الأشياء الكونية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكلّ ما في عالَم الإمكان صورة اسم من أسماء الله، ومظهر شأن من شؤونه، فأسماء الله معان معقولة في غيب الوجود الحقّ، بمعنى انّ الذات الأحدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، بحيث لو وجدت في العقل، أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها فالذاتُ الأحدية مع أحديتها وبساطتها مصداق لحمْل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة كما مرّ. وهذه المعاني - كسائر المفهومات الكليّة - ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة، ولا عامّةً ولا خاصّةً، ولا كليّة ولا جزئيّة، وليست هي كالهويّات الوجوديّة التي هي موجودات بذواتها، متشخّصات بهويّتها، لأنّها بمنزلة الأشعّة والروابط لوجود الحقّ، متى عُقلت عُقلت مرتبطةً بذاته تعالى، موجودةً بوجوده، واجبةً بوجوبه، بخلاف المعاني الكليّة، لأنّها قد تصير كليّة في الذهن جزئيّة في الخارج، وقد تكون موجودةً في العقل معدومةً في العين، ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل تنسحب عليها أحكام الوجود بالعرَض، وتتنوّر بنوره، وتنصبغ بصبغه من الوجوب والوحدة والأزلية. قال بعض أهل الله: الوجود الحق هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسمائه، لأن الأسماء لها مدلولان: أحدهما: عينه، وهو عين المسمّى. والآخر: ما يدلّ عليه مما ينفصل الإسم به عن اسم آخر ويتميّز في العقل، فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الآخر وبما هو غيرُه، فبما هو عينهُ، هو الحقّ، وبما هو غيرُه، هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، ولا يثبت كونه إلا بعينه - انتهى كلامه. نقولُ: مرادُه من الحقِّ المتخيّل، ما لوّحناه إليك، من أنّ كلاًّ من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كان بحسب نفس معناه معرّى عن صفة الوجود الحقيقي من الوجوب والقِدَم والأزلية، إلا أنّه ممّا تجري عليه في نفس الأمر تلك الأحكام، وينصبغ بنور الوجود الأحدي بالعرَض، لأن صفاته عين ذاته، وهذا النحو من العينيّة والاتّحاد بالعَرَض غير ما ألِفَه الجمهور وجَرى عليه اصطلاحهم في الكتب العقلية فيما حكموا عليه بالاتّحاد بالعرَض، لان ذلك عندهم جارٍ في اتّحاد العَرَضيات والمشتقّات المحمولة على موضوعاتها، كاتّحاد مثل الأبيض والأعمى مع زيد مما يشترط فيه قيام معنى المشتق منه ووجوده حقيقة أو إنتزاعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومعنى هذا الاتّحاد أنّ الوجود المنسوب أولاً وبالذات إلى زيد مثلاً، هو بعينه منسوب إلى العرَضي المشتق ثانياً وبالعرض، أي على سبيل المجاز، مع تجويز أن يكون لهذا العَرضي نحو آخر من الوجود يوجد به بالذات غير هذا الوجود الذي قد وجد به بالعَرَض، فإنّ مفهوم الأبيض وإن كان متّحداً مع زيد، موجوداً بوجوده، إلا انّ له نحواً آخر من الوجود الخاصّ به في نفسه، فإنّه جوهرُ موجود بالعَرَض، وعَرَض موجود بالذات لِما قد حقّق في مقامه من انّ العرضي عين العرَض الذي هو مبدء اشتقاقه بالذات، فيكون موجوداً بوجوده الجوهري بالعَرَض. وليس من هذا القبيل اتّحاد المعاني والأعيان الكليّة بحقيقة الوجود، إذ لا يمكن لها ضَرْب آخر من الوجود معرّى عن الوجود، أو منحازاً عنه، لا في نفس الأمر، ولا عند العقل. فالمعيّة بين ذات الله وأسمائه الحُسنى ليست كالمعيّة بين العَرَضي والذاتي، فضلاً عمّا هو بين العَرَض والجوهر، ولا كمعيّة الذاتيات في الماهيات الامكانية، لأن الحقّ ليس ذا مهية كلية، بل حقيقته ليست إلا وجوداً مقدساً بسيطاً صِرفاً، لا اسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حدّ له ولا برهان عليه إلا بنور العيان، وهو البرهان على كلّ شيء والشاهد في كل عين، فمعنى كون أسمائه وصفاته عين ذاته كما مرّ أنّ الذات الأحديّة بحسب نفس هويّته الغيبيّة، ومرتبة إنّيته الوجوديّة، مع قطع النظر عن انضمام أي معنى أو اعتبار أيّ أمر كان، بحيث تصدق في حقّه هذه الأوصاف الكماليّة والنعوت الجماليّة، وتظهر من نور ذاته في حد ذاته هذه المَحامد القدسية، وتتراءى في شمس وجهه هذه الجلايا النوريّة، والأخلاق الكريمة العليّة، وهي في حدود أنفسها مع قطع لنظر عن نور وجهه وشعاع ذاته، لا ثبوت لها ولا شيئيّة أصلاً، فهي بمنزلة ظلال وعكوس تتمثّل في الأوهام والحواسّ من شيء، وكذلك حكم الأعيان الثابتة وحكم المعاني الذاتيّة لكل موجود. فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلية، ما هي عند التحقيق إلاّ نقوش وعلامات دالّة على أنحاء الوجودات الإمكانية، التي هي من رشحات بحر الحقيقة الواجبيّة وأشعّة شمس الوجود المطلق، ومَظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأمّا نفس تلك الأعيان والماهيات منحازة عن الوجودات الخاصّة، فلا وجود لها أصلاً لا عيناً ولا عقلاً. بل أسماء فقط كما في قوله:**{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }** [النجم:23]. ولعلّ الكلام انجرّ إلى ما لا تطيق سماعه أسماع الأنام، ويضيق عن فهمه نطاقُ الأفهام. فصل [اسم الجلالة] فإن قلت: هل لمعنى اسم الجلالة حدّ أم لا؟ قلت: الحدّ عند الحكماء قول دالٌّ على تصور أجزاء الشيء ومقوّماته، فما لا جزء له ولا مقوّم لذاته فلا حدّ له، وما لا حدّ له لا برهان عليه، لأنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الحدود كما بُيّن في علم الميزان، وإذا تقرّر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري لتقدّسه عن شوائب التركيب أصلاً، سواء كان من الأجزاء الوجوديّة أو الحمليّة أو غير ذلك - على ما اقتضاه برهان التوحيد والأحدية -، فلا حدّ له كما لا برهان عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما انّ مفهوم لفظ الله هل له حدّ أم لا؟ فالحقّ هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكماليّة، فكلّ معنى من معاني أسماء الله يكون جزءاً لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرّر أن الفرق بين الحدّ والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلاّ بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرَك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية. وليس من شرط الحدّ أن يكون مؤلَّفاً من جنسٍ وفصلٍ من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعضٍ مطلقاً، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا انّ المشهور أنّ الحدّ لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعيّة الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلاّ كذلك. والحقّ أن كلّ اسم وُضِع لمعنى واحد جمليّ متألّف من معانٍ متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدلّ عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدوداً والثاني حداً، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإنّ نسبتها إليه نسبة الحدّ إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرّة إجمالاً ومرّة تفصيلاً، وهذا مما لا يخلّ ببساطة الذات المقدسة، وأحديّة الوجود القيّومي تعالى عن التصوّر والتمثّل والتخيّل والتعقّل لغيره فإنّ كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحيّة، فهي خارجة عن ساحة جناب العزّ والكبرياء، وانّما يجد الذهن سبيلاً إليها من ملاحظة مَظاهرها ومَجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومَحاكيها. قال في الفصّ النحوي: إن للحقّ في كلّ خلْق ظهوراً خاصّاً. فهو الظاهر في كلّ مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إنّ العالَم صورته وهويّته. وهو الاسم الظاهر، كما أنّه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالَم نسبة الروح المدبّر للصورة، فيؤخذ في حدّ الإنسان - مثلاً - باطنه وظاهره، وكذلك كلّ محدود، فالحقّ محدود بكل حدّ وصوَر العالَم لا تنضبط ولا يُحاط بها، ولا يعلم حدود كلّ صورة منها إلا على حدّ ما حصل لكل عالَم من صَوره، فلذلك يجهل حدّ الحقّ، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حدّ كل صورة، وهذا محال، فحدّ الحقّ محال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال: فحدّ الألوهيّة له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه. ويتلخّص من كلماته: أن مسمّى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكماليّة والنعوت الإلهيّة، لما تقرّر عندهم، أنّه ما من نعْتٍ إلاّ وله ظلٌّ ومظهر في العالَم، وثبت أيضاً أن الإشتراك بين معنى كلّ اسم ومظهره ليس بمجرّد اللفظ فقط، حتّى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالِق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحقّقها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقّق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيّاً فقط، بل يكون معنويّاً، إلا انّ هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة. فتكون الأسماء الإلهيّة مع مظاهرها ومجاليها الكونيّة متّحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصوَر الحسيّة الموجودة في عالَم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدرَكة بإدراك الحواسّ الظاهرة، أو كانت من الصوَر العقليّة الموجودة في عالَم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبّوح والقدّوس، ومظاهرها المتنوّعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية. وقد عرفت أنّ حدّ الشيء عبارة عن صوَر عقليّة تفصيليّة يدلّ عليها بألفاظ متعدّدة دالّة على ما يدلّ عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلاً صورتان إدراكيّتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعدّدة تفصيليّة، فيقال للمفصّلة إنّها حدّ، وللمجمل إنّه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهيّة ومظاهرها الكونيّة التي هي أجزاء العالَم ظاهراً وباطناً على كثرتها حدّاً حقيقيّاً لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالَم حداً لاسم الله، كما انّ جميع معاني الأسماء الإلهيّة حدّ له، إلاّ انّ سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحدّ، لأنّها غير محصورة، والمراد من لفظ الحقّ في قوله فالحقّ محدود بكلّ حدّ هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحديّة وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حدّ ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويّتهم واندكاك جَبَل إنيّتهم. ويؤيّد هذا ما ذكره في الفصّ الاسماعيلي: اعلم أنّ مسمّى لفظة الله أحديٌّ بالذات، كلٌّ بالأسماء، وكلّ موجود فما له من الله إلاّ ربّه خاصّة، يستحيل أن يكون له الكلّ. وأمّا الأحديّة الإلهيّة فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئاً والآخر منها شيئاً، لأنّها لا تقبل التبعيض، فأحديّته مجموع كلّه بالقوّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى. فصل [الانسان الكامل هو العبد الحقيقي] اعلم يا وليي - نوّر الله قلبك بالايمان - أنّ أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنّما يعبدون معتقداتهم في ما يتصوّرونه معبوداً لهم، فآلهتهم في الحقيقة أصنام وهميّة يتصوّرونها وينحتونها بقوة اعتقاداتهم العقليّة أو الوهميّة، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل البيت (عليهم السلام) وهو محمّد بن علي الباقر (عليه السلام): كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم - الحديث. اي فلا يعتقد معتقِدٌ من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صوَر معتقَدهم فقط إلهاً، إلاّ بما جعل في نفسه وتصوّره بوهمه، فإلهه بالحقيقة مجعول لنفسه، منحوتٌ بيد قوّته المتصرّفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتّخذت إلهاً وبينه في أنه مصنوع لنفوس، سواء كانت في خارجها أو في داخلها، بل الأصنام الخارجيّة أيضاً إنّما عبدت من جهة اعتقاد الألوهيّة مِن عابِدها في حقّها، فالصَور الذهنيّة معبودة لهم حينئذ بالذّات، والصورة الخارجيّة معبودة لهم بالعرَض، فمعبود عبدّة الأصنام كلّهم ليست إلاّ صوَر معتقداتهم وأهواء أنفسهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }** [الجاثية:23]. فكما أنّ أصحاب الأصنام الجسميّة يعبدون ما عملته أيديهم، فكذلك أصحاب الإعتقادات الجزئية في حقّ الحقّ يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم، فحقَّ عليهم وعلى معبودهم قوله:**{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }** [الأنبياء:67]. وكذا قوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }. وابن الزبعري لقصوره عن إدراك هذا المعنى، اعترض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأنّه قد عبدت الملائكة والمسيح، ولم يعلم هو ومن في مرتبته إن معبود عبدَة الملائكة والمسيح هو من عمَل الشيطان، وأمّا الكمّل من العرفاء، فهم الذين يعبدون الحقّ المطلَق المسمى باسم الله من غير تقييد باسم خاصّ وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحقّ المنعوت بجميع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجلّيات الأسمائية والأفعاليّة والآثاريّة، بخلاف المحجوب المقيّد الذي يعبُد الله على حرْفٍ فإنْ أصابه خير اطمأنّ به وإن اصابتْه فتنة انقلب عَلى وجهِه. وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن واحتجاب بعض المَجالي عن بعض في نظره، ومن هذا الاحتجاب ينشأ الإختلاف بين الناس في العقائد، فينكر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكلّ أحد يثبت للحقّ ما ينفيه الآخر، ويظنّ ما يراه، ويعتقد غاية الإجلال والتعظيم له تعالى وينكر غير ذلك، وقد أخطأ وأساء الأدب في حقّ الحقّ وهو عند نفسه أنّه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدّب، وكذلك كثير من أهل التنزيه، لغلبة أحكام التجرّد عليهم، فهم محتجبون كبعض الملائكة بنور التقديس، وهم في مقابلة المشبّهة المحتجبة بظُلَم التجسيم كالحيوانات. وأما الإنسان الكامل، فهو الذي يعرف الحقّ بجميع المشاهد والمشاعرَ، ويعبده في جميع المواطن والمظاهر، فهو عبدُ الله يعبده بجميع أسمائه وصفاته، ولهذا سمّي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمّد (صلى الله عليه وآله)، فإنّ الاسم الإلهي، كما هو جامع لجميع الأسماء، وهي تتّحد بأحديّته الجمعيّة، كذلك طريقه جامع طُرق الأسماء كلّها وإن كان كلّ واحد من تلك الطُرق مختصّاً باسم يربّ مظهره ويعبد ذلك المظهر من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاصّ به، وليس الطريق الجامع لطُرق سائر المظاهر إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي - على الشارع فيه وآله أفضل صلوات الله وتسليماته - وسلكه خواصّ أمّته الذين هم خير الأمم، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم أجمعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويؤيّد ذلك ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انّه لما أراد أن يبيّن ذلك للنّاس، خطَّ خطّاً مستقيماً، ثم خطَّ من جانبيه خطوطاً خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، وجعل الخطوط الخارجة منها سُبل الشيطان، كما قال تعالى:**{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام:153]. يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسُبل كلها إليه لأن الله منتهى كلّ قصد وغاية كل مقصود، ولكن ما كلُّ من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب فسبيل السعادة واحدة،**{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي }** [يوسف:108] وأما سائر السُبل، فغايتها كلها إلى الله أولاً ثم يتولاّه الرحمن آخراً ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه وهذه مسألة عجيبة لم أجد على وجه الأرض من عرفها حقّ المعرفة. فصل الله و " هو " اعلم إن نسبة اسم " هو " إلى اسم " الله " كنسبة الوجود إلى المهيّة في الممكن إلا انّ الواجب تعالى لا مهيّة له سوى الإنيّة وقد مرّ انّ مفهوم اسم الله ممّا له حدّ حقيقي إلا انّ العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حدّه لأنه إنّما عرفت صورة حدّه إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات، وإذ ليس فليس وأما إسم " هو " فلا حدّ له ولا إشارة إليه، فيكون أجلّ مقاماً وأعلى مرتبة، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكُمّلُ الواصلون. والنكتة فيه؛ أنّ العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته، لم يكن مستغرقاً في معرفة الله، لأنه إذا قال " يا رحمن " فحينئذ يتذكّر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالباً لحظّه، وكذا إذا قال: يا كريم يا محسن يا غفّار يا وهّاب يا منتقم. وإذا قال: يا مالك، فحينئذ يتذكّر ملكَه وملكوتَه وما فيه من أقسام النعَم ولطائف القِسَم، فيميل طبعُه إليها ويطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما إذا قال " يا هو " وانّه يعرف انّه تعالى هويّة صرْفة لا يشوبه عموم ولا خصوص، ولا تكثّر وتعدد، ولا تناه وحدّ، فهذا الذكر لا يدلّ على شيء ألبتّة، إلا محض الإنيّة التامّة التي لا يشوبه معنى يغايره، فحينئذ يحصل في قلبه نورُ ذكرِه، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولّدة عن ذكر غير الله، وهنالك النور التامّ والكشف الكامل. نكتة اخرى [الاسم " هو " ] انّ جميع صفات الله المعلومة عند الخلق، إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام. أما الأولى: فكقولنا: إنّه ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ ولا عرَضٍ، ولا في مكان، وهذا فيه وقيعة، كمن خاطَب السلطان بأنك لستَ أعمى ولا أصمّ ولا كذا وكذا وصار يعدّ أنواع المعائب والنقائص، فإنّه يُنسب إلى إساءَة الأدب، ويستوجب الزجْر والتأديب. وأما صفات الإكرام: فككونه خالقاً للخلائق، رازقاً للعباد، وهذا ايضاً فيه وقيعة من وجهين. الأول: إنّ كمال الصانع أجلّ وأعلى من أن يوصف بصنعه، وخصوصاً الفيّاض الذي ليس فعله إلاّ على سبيل الرشح والفيض. والثاني: إن الرجل إذا أخذ يمدح سلطاناً قاهراً يملك وجه الأرض برّاً وبحراً بأنّه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز وقطرة ماء، فإنّه يستوجب المقْت والزجْر والحَجْر، ومعلوم انّ نسبة جميع المخلوقات - من الفْرش إلى العرش - إلى ما في خزائن الله - لكونها نسبة متناهٍ إلى غير متناهٍ - أقلّ من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب، فهذا بالطريق الأولى، إلا انّ هنا سبباً يرخّص في ذكر هذه المدائح، وهو انّ النفس صارت مستغرقة في عالَم الحسّ والخيال، وإذا اريد جذبها إلى عتبة عالَم القدس، احتيج إلى أن يتنبّه على كمال الحضرة المقدّسة، ولا سبيل إلى معرفة كمال الله وجلاله إلاّ بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام. ثمّ إذا واظَب الإنسان على هذين النوعين من الأذكار حتى يعرض عن عالَم الحسّ، ويستأنس الوقوف على عتبة القُدس، فبعد ذلك تنبّه لما في هذين النوعين من الاعتراضات المذكورة والحجُب الظلمانيّة، فعند ذلك يترك الأذكار ويقول: يَا هُو، يَا مَنْ لا هُو إلاّ هُو. كأنّه يقول: حضرتُك أجلّ من أن أمدحكَ بشيء غيرك، فلا اثني عليك إلا بهويّتك من حيث هي، ولا اخاطبك بلفظ أنتَ، لأنّه يفيد الفخْر والكِبر، حيث تقول الروح: إنّي قد بلغت مبلغاً صرتُ كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكنّي لا ازيد على قولي: هو، ليكون إقراراً بأنّه هو الممدوح لذاته في ذاته، وإقراراً بأنّ حضرته أعلى وأجلّ من أن يناسبه حضور المخلوقات، ولو فرض عند حضرته حضور عبدٍ أو مَلَك مقرّب أو نبيّ مرسَل، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوّة وجوده يشاهد ذاته تعالى، وذاته في شدة النوريّة فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لا يتناهى ممّا هو مشهودٌ له، فهو سبحانه غائب بحقيقته التامّة البسيطة عن الكلّ، مع فرض شهودها إيّاه، فلهذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبّه لها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | نكتة اخرى يا مَنْ هُوَ الاّ هُوَ إنّ المواظبة على هذا الذكر، يفيد العبدَ شوقاً إلى الله تعالى، والشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال لذّة وأعظمها سبباً للبهجة والسعادة، فإنّ الشوق إكسير الانجذاب والوصول، فالأشدّ شوقاً أشدّ انجذاباً، وذلك لأنّ كلمة " هو " ضمير الغائبين، فالعقل اذا ذكر هذه الكلمة، علِم أنّه غائب عن الحق سبحانه، ثمّ يعلم أنّ هذه الغيبة ليست من قِبَل الله تعالى بسبب المكان والزمان، وإنّما كانت بسبب انّه موصوف بصفات النقصان ومَثالب الحدْثان، فإذا تنبّه لهذه الدقيقة، علِم أنّ هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدَثاتِ على حسَب تضاعُف امكاناتها، وترادف نقائصها وأعدامها الحاصلة لها بحسب مراتب بُعدها عن عالَم الوحدة الخالصة، ونزولها عن ساحَة الحقّ المحض، وعِلم أنّ ما هو أقرب إلى الحضرة الواجبة كان النقائص والأعدام فيه أقلّ، فأخذ في طلب القُرب إليه تعالى. وكلّما وصَل العبدُ إلى مقام أعلى، كان شوقه إلى الترقّى عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، كما تحكم به كلّ فطرة سليمة، وإذ لا نهاية لتلك المراتب والدرجات - كما سبق - فكذا لا نهاية لمراتب هذا الشوق، فثبَت أنّ المواظبة على ذكر كلمة " هو " تورث شوقاً إلى الله، وأنّ الشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال والمقامات بهجة وسعادة، لأنّه ملزوم الوصول إليه تعالى. وممّا يدلّ على أنّ الشوق يستلزم الوصول، أن الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال، وما من موجود إلاّ وله ضرب من الخيريّة والكمال، إذ له حظٌّ من الوجود، والوجود قد ثبت أنّه خير ومؤثَر، ففي كل موجود عشق إلى ذاته، وما من موجود في عالم الإمكان إلاّ ولوجوده غاية كماليّة، وشوق إلى تحصيل تلك الغاية، كما بيّن في مباحث الغايات في العِلم الإلهي. وقد ثبَت أيضاً هناك أنّ الله لا يودع في غريزة موجود من الموجودات وجِبَلّته شيئاً فيكون عبثاً معطّلاً، فكلّ موجود وُجِدَ له شوق إلى كمالٍ بالقياس إليه، فلا بدّ من أن يكون ممكن الحصول له، وكلّ ممكن الحصول لشيء بالإمكان العامّ، يجب حصوله له ووصوله إليه عند عدم الموانع ورفع العوائق والقواسر. وثبت أيضاً في مقامه، انّ وجود الموانع والقواسر للأشياء الجِبلِّية غير دائم ولا أكثريّ في هذا العالَم الذي يوجَد فيه بعض الشرور، وأمّا في العالِم الأعلى وما فوق الكون، فالأشياء كلّها على مقتضى دواعيها وأشواقها الأصلية، فكلّ مشتاق إلى شيء شوقاً غريزياً سواء كان في فطرته الأولى أو في فطرته الثانية التي قد صار متجوهراً بها متصوّراً بصورتها الجوهريّة، كالنبات إذا صار حيواناً، أو الحيوان إذا صار إنساناً، فهو واصل أو سيصل إليه وقتاماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فثبت أن من أحبّ الله واشتاق إليه، فهو مما يصل إلى حضرته يوماً، كما دلّ عليه قوله (عليه السلام): من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقائه، ومن كَره لقاءَ الله كره الله لقاءَه. نكتة أخرى [في أن الذكر أشرف المقامات للسالك] قال (صلّى الله عليه وآله) [حكاية عن الله تعالى]: **" إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملأه "** فإذا ثبت هذا، فأفضل الأذكار ذكر الله الخالي عن ملاحظة الأغيار. ثمّ إنّ العبد فقيرٌ كثير الحاجة، والمحتاجُ إذا نادى مخدومَه المنعم بنداءٍ يناسب الطلبَ والسؤال، كان ذلك محمولاً على الطلب مُشعراً بالسؤال، فإذا قال: " يا كريم " كان معناه: أَكْرِم وإذا قال " يا رجيم " كان معناه: " إرْحَم ". وإذا قال " يا غفور، يا عفوّ " كان معناه: اغفِرْ واعْفُ. فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، فيجول في خاطره غير الله، وتتمثّل له صوَر حاجاته فيكون مشغول السرّ بغير الله ولم يكن في خلاء، بل في ملأ، إذ الشاغل له عن ذكر الله عند المعاشرة مع الخلق أيضاً الصورُ الحاضرة في نفسه، وهي الحاضرة بالذات، دون الصور الخارجيّة إلا بالعَرَض. فمن حضَرتْ عنده صوَر الأشياء والتفت إليها، فهو في صحبة الأغيار، سواء كان في بيته الخالي، أو في محتَشدٍ من الخلْق. وقد بيّن انّ الذكر إنّما يعظم شرفه إذا كان خالياً من السؤال، ومن تصور الصوَر والأمثال، وذلك يتحقق عندما قال " هو ". ومن نوادر الأذكار الشريفة الممدوحة في كتب أصحاب القلوب: يا هو يا من لا هو إلاّ هو. يا من لا إله إلاّ هو. يا أزلُ يا أبدُ. يا دهْر يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت. قال النيسابوري في تفسيره: ولقد لقّنني بعض المشائخ من الذكر: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلاّ هو، يا من لا هو بلا هو إلا هو. وقال: فالأول فناء عمّا سوى الله. والثاني فناء في الله. والثالث فناء عمّا سوى الذات. والرابع فناء عن الفناء عمّا سوى الذات. وقال صاحب التفسير الكبير: ومن لطائف هذا انّ الشيخ الغزالي رحمه الله كان يقول: " لا إله إلاّ الله " توحيد العوام، و " لا إله إلاّ هو " توحيد الخواصّ، و " لا هو إلاّ هو " توحيد أخصّ الخواصّ ولقد استحسنتُ هذا الكلام وقرّرته بالقرآن والبرهان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أمّا القرآن فإنّه تعالى قال:**{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** [القصص:88]. ثمّ قال بعد ذلك**{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ }** [القصص:88] معناه " لا هو " ، وقوله**{ إِلاَّ وَجْهَهُ }** [القصص:88] " الا هو " فقد ذكر " لا هو إلاّ هو " بعد قوله: لا إله إلاّ هو، يدلّ على أنّ غاية التوحيد هي هذه الكلمة. وأما البرهان: فهو أنّ من الناس مَن قال: تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلاّ في إعطاء صفة الوجود لها. فقلت: فالوجود أيضاً ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفيّة إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلىالفاعل. وإن كان مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم لا بدّ وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت انّ المؤثر مؤثّر في الماهيّة وكلّ ما بالغير فإنّه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثّر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيّات ماهيّات وصارت الحقائق حقائق. وقيل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجو ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو. أي لا تقرّر لشيء من الحقائق إلاّ بتقريره وتحقيقه، فثبت أنّه لا هو إلاّ هو. أقول وبالله التوفيق: اعلم أنّ مقام التوحيد الخاصّ الذي عليه الأولياء الكاملون والعرفاء المحقّقون، أعلى درجةً وأشمخ شهوقاً من أن ينالَه أربابُ الأنظار الجزئيّة بقوّة أنظارهم، وأصحاب المباحث الكلاميّة بدقّة أفكارهم، ومَن زعم أنّه بقوّة مهارته في تحرير المقالات، وتقرير الاشكالات والأجوبة عن بعض الايرادات، وبيان بعض المسائل والشُبهات، يمكنه الوصولُ إلى فهم مسائل هذا التوحيد، ومكاشفات إخوان التجريد، فقد استسمَن ذاوَرَم، ومثلُه كالزَمِن إذا أراد أن يطيرَ في الجوّ، ومثَلُ مَن أراد أن يثبت هذا المقصد الغالي، ويصل إلى هذا المصعَد العالي بمثْل هذا القياس المرتب في زاوية قلبه من هذه المقدّمات الواهية الواهنة الأساس، كمثل العنكبوت إذا أراد أن يصيدَ العنقاءَ بشبكة ينسجها في زوايا البيوت. ولولا مخافة التطويل والاطناب، لاستقصينا الكلام في هذا الباب، فأخذنا أولاً في إقامة البراهين القطعيّة على أنّ شيئاً من الماهيات لا يمكن أن يكون أثراً للجاعل ومجعولة له، ثمّ على إثبات أن أثرَ الجاعل وما يترتب عليه في الخارج، هو نحو من أنحاء الوجودات الخاصّة. ثم على أن ما ذكره هذا القائل، يناقض ويخالف عقلاً ولفظاً لما هو بصدده من إثبات هذا التوحيد، وأنّ كلمة " لا هو إلاّ هو " تدل عليه. ثم بعد ذلك نشير إلى لمعة من لوامع مسألة التوحيد الخاصّي، وإلى كيفيّة استنباطها من هذه الكلمة ولكن جاء في المثل: " ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه " فلنذكر هذه المقاصد ها هنا على طريقة الاختصار، وطيّ بعض مباديها ومقدماتها البعيدة، ليكون الناظر في هذا المقام على بصيرة في طلب ما ادّعيناه من غير تعَب وكَلال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويكون الاستقصاء البالغ مرجوعاً الى مواضع اخرى من مسفوراتنا المطوّلة. وهي مشتملة على فصول خمسة. فصل في أنّ الوجود هو المجعول بالذات اعلم إنّ للوجود صورة في الخارج، وليس مجرد معنى مصدري انتزاعي - كما يقول الظالِمون - إذ لا شكّ في أنّ للأشياء حقائق. وحقيقة كلّ شيء هي خصوص وجوده الذي تترتب عليه أحكامه المخصوصة وآثاره المطلوبة منه. وكون الشيء ذا حقيقة، معناه انّه ذا وجود، فحينئذ لا بدّ أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة، وليس مصداقه نفس الماهية من حيث هي، سواء كان بعد الصدور أو قبل الصدور، بل مصداقها إمّا نفس الوجود للشيء، أو الماهية الموجودة بما هي موجودة لا بما هي ماهية، فالوجود أَوْلى بأن يكون حقيقة أو ذا حقيقة من غيره، إذ غيره به يكون ذا حقيقة. لست أريد من هذا أن مفهوم الحقيقة يجب أن يصدق عليه هذا العنوان، بل إنّ هنا شيئاً يصدق عليه بحسب الخارج مفهوم الحقيقة وليس هو نفس الماهية الموجودة، بل وجودها. فالوجود يجب أن يكون بنفسه موجوداً في الواقع، لأنّه يصدق عليه هذا المفهوم، فله لا محالة صورة عينيّة مع قطع النظر عن اعتبار العقل، وهو المعنيُّ بكون الوجود موجوداً، لا أنّ له وجوداً زائداً كما توهمه العبارة، حتّى تلزمَ منه المحذورات المشهورة، فإذا كان الوجود موجوداً، فهو إمّا واجبٌ - إن كان غير متعلق بغيره - أو ممكن إن كان متعلقاً بغيره، وهو المعنيُّ بكون الوجود مجعولاً أو صادراً. هذا هو المطلوب. حجة اخرى لو لم يكن الوجود للاشياء موجوداً أي واقعاً في الأعيان، لم يوجد شيء من الأشياء، والتالي باطل فكذا المقدّم. بيان الشرطيّة: أن الماهيّة قبل انضمام الوجود إليها، أو اعتباره معها، أو ما شئتَ فسمّه، غير موجود، وهو ظاهر، وكذلك أيضاً إذا اعتبرت الماهيّة من حيث هي لا مع اعتبار الوجود، فهي غير موجودة ولا معدومة، فإذن لو لم يكن الوجود موجوداً، لم يمكن ثبوت مفهوم أحدهما للآخر، فإنّ ثبوت شيء لشيء، أو إنضمامه إليه، أو اعتباره معه، أو انتزاعه منه، فرع لثبوت المثبَت له، أو مستلزم له لا أقلّ، للمغايرة بينهما في الثبوت، وليس للماهيّة من حيث هي هي - مع قطع النظر عن الوجود - وجود وثبوت أصلاً، فكيف يتحقّق هناك اتّصاف بالوجود وليست الماهيّة في نفسها موجودة، ولا الوجود في نفسه موجوداً، فلا تكون الماهيّة معروضة للوجود - كما اشتهر وذهب إليه جمهور الحكماء - ولا عارضة له - كما ذهب إليه طائفة من العرفاء - إذ كل من راجع وجدانَه وأنصَف من نفسه، أدرك انّ انضمام معدومٍ لمعدومٍ في الخارج، أو انضمام مفهومٍ لمفهومٍ من غير وجود أحدهما للآخر، أو قيامه به، أو قيامهما بموجود آخر، غير صحيح، ولا مما يجوّزه العقل، بل يقضي بامتناعه، ولهذا قال بعض العلماء: إنّ الفطرةَ شاهدة بأنّ الماهيّة إذا كانت موجودةً بنفس وجودها لا قبله، كان الموجود بالذات ها هنا هو نفس الوجود لا الماهيّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما انّ المضاف بالحقيقة نفس الإضافة لا ما هو المضاف المشهوري، فعلم انّ المجعول الصادر من الفاعل هو الوجود، وما قيل من انّ الماهيّة موجوديّتها باعتبار انتسابها الى الجاعل التامّ، فهو هوس محض، فإنّ غير المنتسب الى شيء إذا انتسَب فهو لا محالة بشيء يلحقه انتسب، فلا محالة يتغيّر عما كان ويستحيل إلى حالةٍ وصفةٍ لم تكن حاصلةً له من قبل، فهو بذلك الشيء صار منتسباً، فيكون المنتسب بالحقيقة ذلك الشيء دونه، فعلى هذا يلزم أن يكون المنتسب إلى الجاعل التامّ هو وجود الماهيّةِ دونها. برهان آخر إنّ موجوديّة الأشياء، إمّا بانضمام الوجود الى الماهيّة، أو بصيرورتها موجودة، أو باتّصافها به أو ما يجرى هذا المجرى كما هو المشهور من الحكماء المشّائين، وإما بمجعوليّة نفس الماهيّات جعلاً بسيطاً كما عليه أتباعُ الرِواقيّين، وتبعهم هذا القائل، والشيخ المقتول وجماعة من المتأخّرين، وإما بنفس الوجودات الخاصّة الفائضة عن الباري الحيّ القيّوم كما ذهب هذه الفقراء، والأول مقدوحٌ مردودٌ بوجوه مذكورة في موضعها، والثاني أيضاً؛ والإلزام أن لا يتحقّق موجود ما في الخارج، والا لزم ظاهر البطلان، فكذا الملزوم، فبقي المذهب الثالث حقاً. وأما بيان الملازمة في هذه الشرطيّة، فبأنّ الوجود على هذا الرأي، إن كان نفس الماهيّة من غير اعتبار قيد زائد وشرط، فيكون كلّ من تصوَّرَ الإنسان مثلاً تصوّر أنّه موجود، ولم يكن فرقٌ بين كون الإنسان إنساناً وبين كونه موجوداً، ولكان قولُنا: الإنسان معدوم تناقضاً، والتالي باطل فالمقدّم مثلُه، وإن كان الوجود عبارةً عن انتساب الماهيّة الى الجاعل، والنسبة لا تتحقّق إلا بعد تحقّق الطرفين فننقل الكلام في وجود معروضه، فيعود المحذور جذعاً. فإن قيل: موجوديّة الماهيّة ليست بانتسابها الى الجاعل، بل بكونها بحيث تنتسب اليه وترتبط به. قلنا: فيكون المجعول وما هو أثرُ الجاعل هو كونها على هذه الحيثيّة لانفس الماهيّة بما هي هي، وهو خلاف المفروض، على أن المجعول ها هنا هو الكون المذكور. ونحن لا نعني بالوجود الا هذا الكون، فثبت المطلوب بالخلف والاستقامة معاً. الفصل الثاني في أن الماهيّة يستحيل أن تكون أثراً للجاعل ومجعولة له، وعليه براهين: الأول: أن أثر الفاعل لو كان ماهيّة شيء كماهية الإنسان من حيث هي دون وجودها، لَما أمكن لأحد أن يتصوّر تلك الماهيّة قبل صدورها عن الفاعل، لِما تقرّر أنّ العلْم بذي السبب لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه، والمقدر خلافُه إذ كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ولا يخطر ببالنا جاعلُها أصلاً، بل للعقل أن يتصوّر ماهيّة كلّ شيء من حيث هي هي، أو مجرّدة عن ما عداها، حتّى عن هذه الملاحظة، فليست هي من هذه الحيثيّة - أي بما هي هي - موجودة ولا مجعولة، ولا لا موجودة ولا لا مجعولة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأيضاً، فلو كانت هي بما هي هي مجعولة، لكان مفهوم المجعوليّة ذاتيّاً لها، ولكانت الماهيّات كلّها من مقولة المضاف، والتوالي بأسرها ظاهرة البطلان، فالمقدم مثلُه، والملازمة تظهر بالتأمّل الصادق. فإن قلت: هذا يلزمك على القول بمجعوليّة الوجود. قلت: إنّ وجود كل شيء نفس هويّته العينيّة وحقيقته الخارجيّة، فلا يمكن العلم بها إلاّ بالمشاهدة الحضوريّة والانكشاف النوريّ، إذ كلّ ما حصلت صورته في الذهن فهو أمرٌ كلّي، وإن تخصّصت بمخصّصات كثيرة. والوجود هويّةٌ عينيّة متشخصّة بذاتها صادرة عن هويّة جاعله إيّاها جعلاً بسيطاً، فلا يمكن انكشافه وحضوره إلاّ من جهة حضور هويّة جاعله، وهذا المفهوم العامّ المشترك الانتزاعي الاثباتي، وجهٌ من وجوهه، وهو بمعزل عن الهويّة الخارجية، وهذه الهويات الوجوديّة مجعولات بأنفسها ومنتسبات بذواتها الى مفيضها التامّ، ومع ذلك، ليست واقعة تحت مقولة المضاف، لأنّ مقولة المضاف قسمٌ من أقسام الماهيّات التي هي زائدة على الوجود، أَوَلاَ ترى أنّ الهويّة الإلهيّة مع كونها مبدأ جميع الأشياء، ليست واقعةٌ تحت مقولة المضاف؟ فكذا ساير الهويّات الوجوديّة. برهان آخر لو كانت الجاعليّة والمجعوليّة متحققتين بين الماهيّات لا بين الوجودات، يلزم التشكيك بالأقدميّة وعدمها بين أفراد مقولة الجوهر عند سببيّة جوهرٍ لجوهر آخر، وهذا باطلٌ عند محصّلي الحكماء، حيث بيّنوا أن لا أولويّة ولا تقدّم لماهيّة جوهر على ماهيّة جوهر آخر، لا في تجوهره، ولا في جوهريّته، أي في كونه محمولاً عليه معنى الجوهر الجنسيّ، فلا يتقدّم الإنسان الذي هو الأب على الإنسان الابن في حدّه ومعناه، ولا في صدق الإنسانية عليه، بل تقدّمه عليه إمّا بالوجود أو بالزمان. برهان آخر عرشي إنّ الصادر الأول مثلاً له ماهيّة نوعيّة محتملة الصدق على كثيرين، وليس الصادر من الباري عندهم إلاّ شخصاً واحداً من أعداد نوعه المشتركة فيه، فكون الصادر هذا الشخص الواحد دون غيره، لو كان بمجرّد صدور ماهيّته النوعيّة، يوجب الترجيح من غير مرجّح؛ إذ الجاعل واحد والماهيّة واحدةٌ، والنسبة بينها وبين اشخاصها متماثلة، فكونها هذا الفرد دون غيره، مما يتساوى نسبته، غير صحيحة، وكذا موجوديّة هذا الشخص دون سائر الأسخاص، بمجرد ابداع الباري نفس الماهيّة النوعيّة المتواطئة مع اشتراكها بين الجميع، غير صحيح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالحقّ الحريّ بالتحقيق والتصديق أنّ أول الصوادر هو هويّة الصادر الأول المتشخّصة بذاته، المتميّزة بنفسه عن ما عداها، دون ماهيّته، فهذه الهويّة الوجودية هي المجعولة بالذات، والماهيّة تابعةٌ لها اتّباع الظلّ للشخص. وهنا استبصارات كثيرةٌ ذكرناها في كتبنا وجمعناها في رسالة مفردة: منها: كون الوجود هو الخير بالذات، والعدم هو الشرّ، والصادر عن الخير الأول هو الخيرات، وهي وجودات الأشياء دون ماهيّاتها الكليّة، إذ لا خيريّة ولا كمال في مفهوم العلْم والقدرة والصحّة والجمال واللذائذ والشهوات الدنيويّة والأخرويّة، بل في حقائقها الوجوديّة، وليس كل من تصوَّر ماهيّة السعادة سعيداً، ولا كلّ من تصور ماهيّة البَهجة مبتهجاً، بل من نال وجود السعادةِ ووجود البَهجة. ومنها: أنّ الجاعليّة والمجعوليّة لو كانتا بين المهيّات، لكانت جميع الموجودات - ما سوى المعلول الأول - من لوازم الماهيّات، وهي أمور اعتباريّة كما حقّق في مقامه؛ والتالي باطل بديهةً واتّفاقاً، فإنّ أحداً لم يقل بأنّ السماء والأرض وما بينهما أمورٌ اعتباريّة، ونسبة هذا الأمر الشنيع الى العرفاء، افتراءٌ محضٌ تتحاشى عنه أسرارهم. ومنها: أنّه قد تقرّر في علم الميزان، انّ مطلب " ما " الشارحة، غير مطلب " ما " الحقيقية، وليست المغايرة بينهما في مفهوم الجواب، لأنه الحدّ التامّ عند المحقّقين، بل باعتبار الوجود في أحدهما وعدمه في الآخر، فلو لم يكن للوجود صورةٌ في الخارج، لم يكن بين المطلبين والجوابين فرقٌ يعتدّ به كما لا يخفى. أوهام وتنبيهات ثمّ إن للقائلين باعتباريّة الوجود ومجعوليّة الماهيّات شُبهاً قويّة فككنا عقدتَها بحمد الله، وطردنا ظلماتِ هذه الأوهام بنور الهداية والإلهام، فلنُشر الى أجوبة بعض منها، وهي هذه. الأول: إن الوجود لو كان موجوداً لكان له وجودٌ، ولوجوده وجود. وهكذا الى غير نهاية. والجواب: إنّ الماهيّة لمّا لم تكن في نفسها موجودة، فموجوديّتها لا بد وأن تكون بأمر زائد عليها، وأما الوجود، فهو بنفسه موجودٌ لا بأمر زائد عليه إلا بحسب الاعتبار العقلي، رعايةً لمفهوم الاشتقاق، والتسلسل في الاعتباريات منقطعٌ بانقطاع الاعتبار منها، ولهذا المعنى نظائر كثيرة، كالإضافة، فإنّها بنفسها مضافةٌ وغيرها بها مضافٌ، وكالنور، فإنّه منيرٌ بذاته، وكاجزاء الزمان فإنّها بذواتها متقدّمة ومتأخّرة. والثاني: إن الوجود لو كان موجوداً بذاته، لكان واجب الوجود بذاته، إذ لا معنى للواجب بالذات إلا ما يكون وجوده ضروريّاً لذاته، وأيّ ضرورة أشدّ من كون الشيء عين نفسه؟ والجواب: إنّ الوجود الإمكاني بحسب هويّته متقوّمٌ بغيره، واجبٌ به، وإذا قطع النظر عن موجِده يكون باطلاً محضاً، ومعنى كونه ضروريّ الوجود، انّه بعدما صدر ذاتُه عن العلّة، لا يفتقر الى وجود زائد عليه في كونه موجوداً، بخلاف الماهيّة، فإنّها في حدّ ذاتها غير موجودة ولو في وقت صدورها عن الفاعل، ومعنى الإمكان في الوجودات، انّها بأنفسها متعلّقة الذوات بغيرها، وليست الماهيّات متعلقة الذوات بغيرها، فإمكانُها عبارةٌ عن تساوي نسبتها الى الوجود والعدم، وبالجملة، هذه الشُبهة إنّما نشأت من الخَلط بين معنى الضرورة الأزلية والضرورة الذاتيّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثالث: إنّه إن كان الوجود في الأعيان صفة للماهيّة وهي قابلة، فهي إمّا أن تكون موجودة بعد الوجود، فحصَل الوجود مستقلاً دونها، فلا قابليّة ولا صفتية، أو قبله؛ فهي قبل الوجود موجودةٌ؛ أو معه، فالماهية موجودة مع الوجود لا بالوجود، ولها وجودٌ آخر، وأقسام التالي باطلةٌ كلّها، فالمقدّم كذلك. والجواب: إنّا نختارُ أن الماهيّة موجودةٌ معه في الأعيان، وما به المعيّة نفس الوجود الذي هي به موجودة، فلا يلزم الإحتياج الى وجود آخر، كما انّ المعيّة الزمانيّة حاصلةٌ بين الحركة والزمان الذي حصلت فيه بنفس ذلك الزمان بلا زمان آخر، حتّى يكونَ للزمان زمانٌ آخر على أنّ الحقّ انّ اتّصاف الماهيّة بالوجود أمرٌ عقليّ، كاتّصاف الموضوع بما يقوم به فلا قابلية في الحقيقة ولا اتصاف، بل ما في الواقع أمرٌ واحدٌ بلا تقدّم بينها ولا معيّة بالمعنى المذكور، وتفصيل هذا الكلام مما يطلب في مقامه. الرابع: إنّ الوجود لو كان في الأعيان، لكان قائماً بالماهيّة، فقيامه إمّا بالماهية الموجودة، فيلزم وجودُها قبل وجودِها، أو بالمعدومةِ، فيلزم اجتماعُ النقيضين، أو بالماهيّة المجرّدة عن الوجود والعدم، فيلزم ارتفاع النقيضين. والجواب: إنّه إن أريد بالماهيّة الموجودة ما هي موجودةٌ بحسب نفس الأمر، وبالمعدومة ما يقابلها، فنختار انّ الوجود قائمٌ بالماهية الموجودة بهذا الوجود، لا بوجود سابق عليه، كما انّ البياضَ قائمٌ بالجسم الأبيض بهذا البياض القائم به لا ببياضٍ آخر، وإن أُريد بالموجودة ما يكون الوجودُ مأخوذاً في مرتبة الماهيّة من حيث هي، فنختارُ انّه قائمٌ بالماهيّة من حيث هي هي، بلا اعتبار شيء من الوجود والعدَم، وهذا ليس بارتفاع النقيضين عن الواقع، بل عن تلك المرتبة. إذ الواقعُ أوسعُ من تلك المرتبة. ولهذا الكلام زيادةُ تحقيق مذكورٌ في حواشي التجريد، إذ الإشكال مشترك الورود، سواء كان الوجود حقيقياً أو انتزاعياً، ولهذا حكموا بأن لا اتّصاف للماهية بالوجود، ولا قيام له بها في الخارج ولا في العقل، إذ لا بدّ في اتّصاف شيء بشيء من المغايرة بينهما في ظرف الاتّصاف، وإن لم يكن ثبوت الثابت فرع ثبوت المثبَت له، وليس بين الماهيّة والوجود مغايرة، إلا انّ للعقل أنّ يأخذ الماهيّة ويعتبرها وحدها مجرّدة عن جميع أنحاء الوجود، حتّى عن هذا التجريد الذي هو أيضاً نحوٌ من أنحاء الوجود، فيصفها بالوجود، ففي هذا الظرف العقليّ هي موصوفةٌ بالوجود ومخلوطةٌ به أيضاً، رعايةٌ لجانبيَ الخلط والتعرية على أنّا نحن في متّسعٍ من هذا البحث إذ الموجودُ عندنا في الأعيان هو الوجود دون الماهيّة إلاّ بالعرَض، وهي أمر انتزاعي متحدةٌ بالوجود وليست متّصفةً به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والخامس: إنّ الوجود لو كان حاصلاً في الأعيان وليس بجوهر، فيكون هيئةً قائمةً بجوهر، فيكون كيفاً لأنه هيئة قارّة لا يوجب قسمة ولا نسبة الى امر خارج، وقد حكموا انّ المحلّ متقدم على العرَض، فيتقدم الموجود على الوجود، فيلزم تقدّم الوجود. وأيضاً يلزم أن لا يكون الوجودُ أعمّ الأشياء مطلقاً، بل الكيفية والعرَضيّة أعمّ منه من وجه. وأيضاً إذا كان عرَضاً فهو قائمٌ بالمحلّ، ومعنى أنّه قائمٌ بالمحلّ، أنّه موجودٌ فيه، مفتقرٌ في تحقّقه إليه، ولا شكّ انّ المحلّ موجود بالوجود، فدارَ القيامُ وهو محالٌ. والجواب: انّهم حيث أخذوا في عنوانات المقولات كونها ماهيّاتٍ كليّة حقّ وجودها العيني كذا وكذا، فسقط كون الوجود في ذاته جوهراً أو كيفاً أو غيرها، لعدَم كونه كلّياً، بل الوجودات - كما سبق - هويّات عينيّة متشخّصة بأنفسها غير مندرجة تحت مفهوم ذاتي، فليس الوجود جوهراً في ذاته، ولا عرَضاً بمعنى كونه قائماً بالماهيّة، وعلى تقدير كونه عرَضاً، لا يلزم كونُه كيفيّة، لعدم كلّيته وعمومه، وما هو من الأعراض العامّة والمفهومات الشاملة للموجودات، إنّما هو الوجود الانتزاعي العقلي، ولمخالفته أيضاً سائر الأعراض بأنّ وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها، ووجود الوجود عين وجود الماهيّة الموضوعة لها، لا وجود غيرها، ظهر عدمُ افتقاره في تحقّقه الى الموضوع، فلا يلزم الدورُ المذكور. على أنّ المختارَ عندنا انّ وجودَ الجوهر جوهرٌ بجوهريّة ذلك الجوهر، لا بجوهريّة أخرى، وكذا وجود العرَض، عرَضٌ بعرَضيّة ذلك العرَض لا بعَرَضيّة أخرى. الفصل الثالث في أنّ ما ذكره هذا القائل ينافي مذهب العارفين القائلين بهذا التوحيد عقلاً ولفظاً أما الأول: فلأنّ مَنْ ذَهب الى أنّ الماهيّات مجعولة وحاصلة بالجعل، ولا شبهة في أن الماهيّات أمور متخالفة المعاني، فتكون الموجودات عنده أموراً متكثّرة متخالفة بالحقائق متمايزة بالذوات، إذ موجوديّة الماهيّة - على هذا المذهِب - عبارةٌ عن صدورها عن الفاعل أو انتسابها إليه، فيكون الوجود معنى مصدريّاً، والموجود أمراً حقيقيّاً متعدداً حسب تعدّد أفراد الماهيّات الصادرة عن الفاعل، فأين هذا المذهب من مذهب التوحيد الذي عليه العرفاء. وقريب من هذا ما ذهب اليه بعض المغترّين بلامع السراب الوهميّ عن مشرب التوحيد الأتمّي، انّ الوجود الحقيقيّ شخصٌ واحدٌ وهو ذات الباري، والموجود كلّي له أفرادٌ متعدّدة هي الموجودات، ونَسب هذا المذهب الى أذواق المتألّهين وزعم أنّ هذا هو مقصودُهم في وحدة الوجود، وهو فاسدٌ من وجوه: الأول: إنّ أفراد الموجودات قد تكون متكثّرة متقدّمة بعضُها على بعض في الوجود مع اتّحادها في الماهيّة النوعيّة، فإذا كانت الماهيّة واحدة والوجود واحداً شخصيّاً، فكيف يتعدّد الموجود ويتقدّم بعضه على بعض؟! والثاني: إنّه يلزم على هذا القول أن يكون قولُنا: وجود زيدٍ ووجود عمرٍو، بمنزلة قولنا: إله زيدٍ واله عمرٍو، وهذا لا يتفوّه به عاقل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثالث: إن نسبة الماهيّات الى الباري جلّ ذكره، إن كانت اتّحادية، يلزم كون الواجب تعالى ذا ماهيّة غير الوجود، بل ذا ماهيّات متعدّدة، وقد ثبت أنّه صِرْف الإنيّة، وإن كانت نسبتُها إليه تعالى تعلّقية ارتباطيّة وتعلق الشيء بالشيء فرعٌ على وجودهما وتحقّقهما، فيلزم أن يكون لكلّ من الماهيّات وجودٌ خاصّ متقدّم على انتسابها إليه تعالى وتعلّقها به، إذ لا شُبهة في أن معانيها غير معنى التعلّق بغيرها، فإنّا كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ونغفل عن ارتباطها الى الحقّ، وهذا الكلام لا يجرى في الوجودات، إذ يمكن لأحدٍ أن يدّعى انّ هوياتها تعلّقية، كما سنكشف على من هو أهلُه. الرابع: قوله: الوجود واحدٌ والموجود كثيرٌ، هوسٌ محض لأنه إذا كان معنى الوجود أمراً نسبيّا عنده، فلا فرق بين مذهبه ومذهب من يَرى انّ الوجود أمرٌ عام مصدري انتزاعي، إلا بأنه سمّى المعنى الانتزاعي بالإنتساب الى الجاعل، فالقول بأنّ الوجود على هذه الطريقة واحدٌ شخصيّ، والموجود كليّ متعدد دون الطريقة الأخرى، تحكّمٌ محض. وأما انّ كلمة " لا هو إلاّ هو " لا يدل على ما قرره في مسألة التوحيد، فذلك بوجهين. أحدهما: إنّ غاية ما ذكره، أن شيئاً من الماهيّات لم يكن ماهية قبل الجعل والتأثير، فبقدرته تعالى صارت الماهيّات ماهيّات، ولا تقرّر لشيء منها إلاّ بتقريره كما ذكره وأين هذا المعنى من معنى " لا هو إلاّ هو " إلا أن يرتكب حذف وإضمار وقيل: معناه لا هو بلا جعل وتأثير إلا هو، وهذا أمرٌ لا يحتاج الى مزيد تقرير، إذ لا شُبهة لأحد من العقلاء المعتبرين فيه إلاّ المعتزلة القائلة بثبوت الماهيّات بلا جعل، فإنّ الحكماء سواء ذهبوا الى أن أثر الفاعل هو الماهيّة، أو ذهبوا الى أنّه الموجوديّة، متّفقون على أن الماهيّة قبل الجعل غير حاصلة، إلا انّ إحدى الطائفتين قالت: إنّ الماهيّة مجعولة أولاً، والوجود تابعٌ لها في الجعل، والأخرى قالت: إن صيرورة الماهيّة موجودة أثر الجاعل، والماهيّة تابعة له كما هو المشهور من توابع المشّائين. وما أورده هذا القائل عليهم من أن الوجود أيضاً ماهيّة، فيجب أن لا يكون مجعولاً واقعاً بتأثير الفاعل، مما علمتَ حالَه من تضاعيف أحوال الوجود وكذا قوله فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهيّة بالوجود، فهي إن لم تكن مفهوماً مغايراً لهما امتنع استنادها الى الفاعل، وإن كان مغايراً فلا بد أن يكون له ماهيّة، فيعود الكلام انتهى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إنّ مفاد الجعل وأثرُ الجاعل هو صيرورة الماهيّة موجودة، أي هذه الهيئة التركيبيّة، لا أنّ شيئاً من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهيّة هذه الصيرورة أيضاً اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مِثْل أن يقال: إنّ التصديقَ عبارة عن نحو إذعان أنّ زيداً قائم مثلاً، فكما إنّ التصديق ليس بتصوّر المحكوم عليه، ولا تصوّر المحكوم به ولا تصوّر النسبة بل الهيئة الإذعانيّة على الوجه الذي يكون الموضوع متلبّساً بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أنّ زيداً قائمٌ، لا تصوّر هذا الإذعان، ولا تصوّر قيام زيدٍ، لأنهما من باب التصوّر ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنّها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنّها معنى اسميّ منسوب أو منسوب اليه. فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتّصاف الماهيّة بالوجود، فمفاد الجعْل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحاً أو فاسداً. الوجه الثاني: إنّ ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلاّ أنحاء الوجودات، والدليل عليه أنّ كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إمّا موضوعة لماهيّة مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إيّاها، والواقع بخلافه؛ وإمّا موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيّات متعدّدة غير متناهية بأوضاع متعدّدة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضاً، ولا انّها موضوعة لماهيّة ما من حيث هي، وإلاّ لم يفهم منها ماهيّة مخصوصة، إذ العامّ لا دلالة له على الخاصّ، والواقع خلافه، ولا أيضاً يصحّ أن يقال إنّها موضوعة لماهيّة ما بشرط كونها غائبة، وإلاّ لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلاّ هذا المفهوم، بل الحق انّ الضمائر كلّها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلّها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويّات الوجوديّة، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصحّ أن يتصوّرها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصّة بحسب أوصافها الوجوديّة التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعدّدها. وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهيّة، بل على نفي الهويّة. لا يقال: الماهيّة مشتقّة من الهويّة، لأنّها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عمّا به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيراً الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادّته اللغوية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتيّاته، وهي المعاني الكليّة المتّحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهيّة غير الهويّة، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنّه من المطالب الكليّة، فهما متغايران معنىً، ولهذا افترقت الهويّة عن الماهيّة في الواجب تعالى، وكذا في الهويّات الوجوديّة بما هي هويّات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم. الفصل الرابع في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي إنّ لنا بإعلام الله وإلهامه برهاناً شريفاً على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكماً في سماء وثاقته التي ملئت حرساً شديداً وشُهُباً، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسّه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهّرون من أرجاس الجاهليّة المكتسبة من ظلمات الأجسام. بيانه: أن الواجب تعالى، لمّا كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلّقات، فليس وجوده متعلّقاً بشيء متوقّفاً على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاتّه واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنّه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانيّة ولا امتناعيّة، وإلاّ لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقرّرت هذه المقدّمة التي مفادها أنّ كلّ وجود وكلّ كمال وجود يجب أن يكون حاصلاً لذاته، فايضاً عنه، مترشّحاً على غيره، كما قال**{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً }** [غافر:7] وهما عين ذاته، فلو كان في الوجود إله غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه، لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة وجودية، وإلاّ لزم معلوليّة أحدهما، وهو خرْق الفرْض، فلكلّ منهما على الفرض المذكور مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر، ولا منبعثاً منه، فايضاً من لدنه، فيكون كلّ منهما عادماً لكمال وجودي، فذاته حينئذ لا تكون محض حيثية الفعليّة والوجوب، بل يكون ذاته بذاته مصداقاً لحصول شيء وفقْد شيء آخر، فلا يكون بسيط الحقيقة خالصاً بل مزدوجاً، والازدواج ينافي الوجوب الذاتي كما مرّ. ومن هنا ظهر أن كلّ بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الوجود وكلّه الوجود، كما يعلمه الراسخون في العرفان. وبالجملة، فواجب الوجود يجب أن يكون من فرط التحصيل وكمال الفعليّة جامعاً لجميع النشئآت الوجودية، فلا مكافئ له في الوجود، ولا ثاني له في الكون، ولا شبيه له ولا ندْبل ذاتُه من تمام الفضيلة يجب أن يكون مستند جميع الكمالات، ومنبع كلّ الخيرات، فيكون بهذا المعنى تاماً وفوق التمام، فهذا هو بيان التوحيد الخاصّي، أي نفي المشارك في الوجوب، وقد انجرّ الى التوحيد الأخصّي، وهو نفي المشارك في الوجود. الفصل الخامس في أن الباري هو الحق وكل ما سواه باطل دون وجهه الكريم بيانه: أنّ العليّة والمعلوليّة - كما ثبت وتقرّر - لا يكونان إلاّ في نفس الوجود لِمَا علمت انّ الماهيات لا تأصّل لها في الكون ولا في الجعْل، وعلمت أيضاً أنّ هويّة الشيء وذاته هي عين نحو وجوده الخاص به، فالجاعل جاعل بنفس وجوده، والمجعول مجعول بنفس وجوده جعلاً بسيطاً، لا بصفة زائدة على نفس هويّته الوجوديّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإذا تقرّر هذا فنقول: لمّا كان كلّ موجود معلول فهو في حد ذاته متعلّق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتاً تعلقيّة ووجوده وجوداً تعلقيّاً. لا بمعنى انّه شيء وذلك الشيء موصوف بالتعلّق، بل هو بما هو هو عين معنى التعلّق بشيء والانتساب إليه، وإلاّ فلو كانت له هويّة غير التعلّق والافتقار الى الجاعل، ويكون التعلّق والافتقار زائدين على ذاته، فلم يكن ذاته بذاته متعلّقاً بفاعله مجعولاً له، فيكون المجعول بالذات شيئاً آخر، وهو خلاف المقدّر، ويكون هذا المفروض مجعولاً مستقل الحقيقة غير متعلّق الهويّة بفاعله. فإذا ثبت أنّ كل علّةٍ علّة بذاتها، وكل معلولٍ معلول بذاته، وثبت انّ ذات الشيء هي وجوده، وانّ الماهيّات امور كليّة اعتباريّة منتزعة من أنحاء الوجودات بحسب هويّاتها، فينكشف انّ المسمّى بالمعلول، ليست هويّته أمراً مبايناً لهويّة علّته المفيضة، ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هويّة منفصلة عن هويّة موجده، حتّى يكون هناك هويّتان مستقلّتان في الإشارة العقليّة إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة، وإلاّ لم تكن ذاته بذاته مفاضة. نعم للعقل أن يشير إلى المهيّات والأعيان الثابتة، لعدم تعلّقها بذواتها إلى علّة فاعلة، فإذن المجعول بالجعل البسيط، لا ذات له مباينة لذات مبدِعه، فإذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة، ظهَر انّ لجميع الموجودات حقيقةً واحدة، ذاته بذاته وجود وموجد وهو بحقيقته محقّق الحقائق، وبسطوع نوره منوّر ماهيّات السموات والأرض، فهو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه، وهو الأصل وما سواه أطواره وفروعه وحيثياته. فعلى هذا يتبيّن وينكشف معنى ما ورد في الأذكار الشريفة الإلهية: يا هو، يا من هو يا من لا هو إلا هو، إذ قد ثبت أنّ الهويّات الوجوديّة التي بعد مرتبة الهويّة الإلهية، كما لا يمكن حصولها في الخارج منحازةً عن الذات الأحديّة، بل هي مقوّمة قوامها ومقرّرة حقائقها، كذلك لا يمكن للعقل أن يشير إليها إشارة عقليّة أو حسيّة، بحيث تنالها الإشارة منحازة عن الإشارة إلى قيّومها الأحدي، بل هو المشار إليه في كل إشارة، ولا إشارة إليه فيكون محدوداً وهو المشهود في كل شهود ولا شهادة، وهو المنظور بكل عين، ولا نظر إليه فيكون محاطاً به، وهو المسموع بكل سمْع، ولا جهة له، وهو المعقول بكلّ عقل ولا اكتناه به، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }** [البقرة:115]. فهو في كل مكان بلا مكان، وهو في كل زمان بلا زمان، فلا كيْف لذاته، ولا علْم بصفاته، ولا حين لزمانه، ولا كنْه لشأنه، ولا حيث حيث هو، ولا أين أين هو، ولا متى حين هو، فهو هو، ولا هو إلاّ هو، ولا هو بلا هو إلاّ هو، ذلكم الله ربّكم خالق كل شيء لا إله إلاّ هو. وصلّى الله على سيّد الورى محمد المصطفى وآله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى. فصل [الرحمن والرحيم] الرَحمان؛ فَعلان، من رَحِم، كغَضْبان وسَكْران من غَضِب وسَكَر والرحيم؛ فعَيلٌ منه ايضاً، كمَريض وسَقيم من مرِضَ وسَقم، فهما اسمان بُنيا على صيغتين من صيَغ المبالغة. وفي الفعلان من المبالغة ما ليس في الفعيل، يدل عليه زيادته في البناء، كما في كبار وكبّار وشُقدُف وشِقِنداف، ولذلك يقال تارةً: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا هذا بحسب الكيفية، ويقال تراة: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، هذا بحسب الكميّة، لأنّ رحمة الدنيا تعمّ المؤمن والكافر، ورحمة الآخرة تخصّ المؤمن، والرَّحْمٰن من الصفات الغالبة كالدَبَران والعَيُّوق والصَعِق ولهذا لم يستعمل في غير الله، كما انّ الله من الأسماء الغالبة. وإطلاق بني حنيفة رحمٰن اليمامة على مُسيلمة، وقع من باب التعنّت في كفرهم، والسبب في ذلك أنّ معناه الحقيقي الأصلي: البالغ في الرحمة غايتها، وهذا المعنى لا يكون صادقاً في حقّ غير الله، لأن ما سواه وإن فُرض كونه راحماً فليست رحمته بالغةً حدّ الغاية، وهو ظاهر، لأنّ من عداه ناقص استفاض الرحمة منه أولاً، ثمّ أعطى شيئاً مما استفاضه، والحقّ الحقيق بالإذعان، إنّ اطلاقه على غيره مجاز رأساً بوجوه: الأول: أنّ الجود إفادة ما ينبغي لا لعوضٍ، وكل أحد غير الله لا يعطي شيئاً إلاّ ليأخذ عوضاً. لأنّ الأعواض والأغراض بعضها جسمانيّة، وبعضها حسيّة، وبعضها خياليّة وبعضها عقليّة. فالأول: كمن أعطى ديناراً ليأخذ ثوباً. والثاني: كمن يُعطى المال لطلب الخدمة أو الإعانة. والثالث: كمن يعطيه لطلب الثناء الجميل. والرابع: كمن يعطيه لطلب الثواب الجزيل، أو لإزالة حبّ الدنيا، أو الرقّة الجنسيّة عن قلبه. وهذه الأقسام كلّها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاملةً ومعاوضةً ولا يكون جوداً ولا هِبةً وإعطاء، وأما الحقّ تعالى، فهو لمّا كان كاملاً في ذاته وصفاته، فيستحيل أن يعطي شيئاً ليستفيد به كمالاً، فهو الجواد المطلق والراحم الحقّ. واعلم: أنّ هذا إنّما يتمّ على مذهب أهل الحقّ، القائلين بأنّه تعالى تامّ الفاعليّة بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد ولا لفعله غاية سوى ذاته، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض، دون القصد والرويّة، كما زعمَه الأكثرون، تعالى عنه علواً كبيراً. الثاني: إنّ كلّ ما سواه ممكن الوجود بحسب ماهيّته، والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إيّاه ابتداء، إذ إمكان الشيء علّة احتياجه إلى المؤثّر الواجب، كما بُرهن عليه في مقامه، وكلّ رحمة تصدر من غير الله فهي إنّما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله، إذ ليس لغيره صفة الايجاد، بل إنّما شأن غيره الإعداد والتخصيص في الاستناد، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثالث: إنّ فلاناً يعطى الحِنطَة مثلاً ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام، والشهوة الراغبة إلى أكله، والقوى الناهضة لذلك، والآلات المعدّة لنقله وطَحْنه وعَجْنه وطبْخه وغير ذلك، وما يتوقّف عليها من الخشَب والحديد والنجّار والحدّاد، والأرض التي يقومون عليها، والهواء الذي يتنفسّون به، والفلَك الذي يحدّد جهات أمكنتهم وأزمنتهم، والكواكب التي تنوّر في الليل والنهار بحركاتها أكنافهم، وتسخّن أطرافهم، وتنضج حبوبهم وأثمارهم التي يتغذّون بها، والملائكة الذين يدبّرون السموات ويحرّكون الكواكب كالشمس والقمر وغيرهما على سبيل المباشرة، والملائكة العلويّة الذين يدبّرون هذه الملائكة على سبيل التشويق بالوحي والإعلام، فما دام لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحِنطة، فخالق الحنطة تلك والممكّن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتّى يحصل الانتفاع، هو الراحم. فصل [تقديم الرحمن على الرحيم] قيل في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " والقياس يقتضي في ذكر النعوت الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالِم نِحرير، وفلانٌ شجاع باسل، إنّه لما صار كالعلَم - كما مرّ - يكون أولى بالتقديم. أو لأنّ الرحمن لمّا دلّ على عظائم النِعَم وجلائلها وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرَج منها، فيكون كالتتمّة والرديف. وإنّما وقعت التسمية بهذه الأسماء دون غيرها، ليدلّ على أن الحريّ بالاستعانة به في مجامع المهمّات هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النِعَم ومبدأ الخيرات كلّها عاجلها وآجلها، وجليلها وقيقها، ليتوجّه العارف بجميع قواه ومشاعره إلى جناب القدس، وينقطع نظره عن ما سواه، ويشغل سرّه بذكر مولاه، والاستمداد به في مقاصد أولاه وأخراه. واعلم: أنّ الأشياء أربعة أقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع. أمّا الأول: فهو إمّا في الدنيا فكالتنفّس، فإنّه لو انقطع منك لحظه واحدةً مات القالب، وإما أن يكون في الآخرة، فهو معرفةُ الله، فإنّها إن زالت عن القلب لحظةً واحدةً مات القلب واستوجب العذاب الدائم. وأمّا الثاني: فهو كالمال في الدنيا وساير العلوم في الآخرة. وأمّا الثالث: فهو كالمضارّ التي لا بد منها، كالموت والمرض والهرم والفقر، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإنّ منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضارّ. واما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل، والعذاب في الآخرة. إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أنّ النَفَس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يحصل الموتُ، وكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألّم فيه إلاّ ساعة واحدة، وأما الموت الثاني، فإنّه يبقى عذابه أبد الآباد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكما انّ النَفَس له أثران: ادخالُ النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراجُ الهواء الفاسد المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران، أحدهما: ايصال نسيم البرهان إلى القلب الحقيقي، وإبقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة المتولّدة من الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف انّ هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها تنتهي بالأخرة الى الفناء بعد وجودها، وأنّ وراء هذا العالم عالمٌ إليه مرجع نفوسنا المطهّرة عن شوائب الأدناس والأرجاس، ليس في ذلك العالَم دثور ولا فناء، بل كلّه حياة وبقاء. ومن وقَف على هذه الأحوال بقي آمِناً من الآفات، واصِلاً الى الخيرات والمبّرات، وبكمال معرفة هذا الأمر، ينكشف لعقلك انّ كلّ ما وجدته ووصلتَ إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله، وذرّة من أنوار إحسانه، فعند ذلك ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً، وانّه مبدأ الخيرات كلّها ومعطي جلائل النعم ودقائقها، وسوابق المنافع ولواحقها. فصل [اتصافه تعالى بالرحمة] قد ذكر في توجيه وصفه تعالى بالرحمة، ومعناها التعطّف والحُنُوّ، ومنها الرحِم لانعطافها على ما فيها، انه مجاز عن إنعامه على عباده، وقيل: إنّ أسماء الله تعالى إنّما اخذت باعتبار الغايات التي هي الأفعال والآثار، لا باعتبار مباديها التي تكون انفعالات، هذا غاية ما حصل لأصحاب الأنظار من العلم بمثل هذه الأسماء والصفات. واعلم انّ هذا العلم أيضاً مما خصّ الله به أهل الاشارة دون العبارة، إذ ما ذكروه يؤدّي إلى فتح باب التأويل في أكثر ما ورد في أحوال المبدأ، وقد مرّ في مفاتيح الغيب شيء مما يتعلق بهذه المسألة. واعلم أنّ جمهور أهل اللسان، لمّا صادَفوا بالاستقراء جزئيّاتِ ما يطلق عليه اسم النار في هذه الدار حارّة، حكموا بأنّ كلّ نار حارّة، ولكن مَن انفتح على قلبه باب الى الملكوت، فربما شاهد نيرانات كامنة في بواطن الأمور، تسخّن الأشياء تسخيناً أشدّ من تسخين هذه النار المحسوسة، ومع ذلك ليست متسخّنة ذات حرارة، وهي كقوّة الغضب وما فوقها، كالنفس وما فوقها، كقهر الله، فالحكم بأنّ كل نار حارّة على عمومه غير صحيح عنده، وكذلك لما شاهدوا في هذا العالَم كلّ محرك لشيء متحرّكاً، وكلّ فاعل لشيء متغيّراً في فاعليّة، حكمَوا بأنّ كلّ محرّك متحرّك، وكلّ فاعل لشيء فاعل بعد ما لم يكن، وعند التحقيق والعرفان، ظهر أن ما زعموه مخالف للبرهان، وكذلك أشياء كثيرة من هذا القبيل. والسر في الجميع، انّ موجودات هذا العالَم كلّها، لنقصانها في درجة الموجودية، ونزولها في أقصى مرتبة النزول والخسّة تصحبها أعدام وقوى وانفعالات من جهة المادة الجسميّة، فمبادي أفاعليها لا تنفكّ عن انفعالات، وليس هنا فاعل غير منفعل، ولا مؤثّر غير متأثّر، ولا معط غير آخذ، ولا راحم غير مرحوم، وهذا انما هو بحسب الاتّفاق، لا أنّ هذه الأفاعيل داخلة في مفهوماتها تلك الانفعالات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقول أهل الحجاب وأصحاب الارتياب: كلّ كاتب متحرّك الأصابع، وكل فَلَك متحرّك، ليس عند أهل المشاهدة صحيحاً، بل كلّية هذه القضايا عندهم ممنوعة بل ممتنعة، إذ مفهوم الكاتب هو المصوّر للمعاني والمنقّش للحقائق، وليست حركة الأصابع داخلة في مفهومه، ولا من شرطه تحريك الأنامل، فربّ كاتب عندهم كالكرام الكاتبين لم تتحرّك أصابعه عند الكتابة، بل ثمَّ كاتب لم تتغيّر ذاته ولا صفاته ولا كتابته وفعله، وهو الذي كتبَ على نفسه الرحمة، تعالى ذاته وصفاته وقضاؤه عن التبديل والتحويل، كما قال:**{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً }** [فاطر:43]. وكذا في الوجود أفلاك نوريّة عقليّة يعرفها أهل الله، غير متحرّكة ولا ذات وضع هي السموات العلى، وكذا في الوجود أرض بيضاء نيّرة ليست كهذه الأرض. كدِرة ثقيلة يابسة ذات لون غبراء يعرفها الربّانيون من الحكماء، كما ورد في الحديث: إن لله أرضاً بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً، هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرّة، مشحونة خلقاً لا يعلمون أنّ الله يُعصى في الأرض، ولا يعلمون أنّ الله خلَق آدم وإبليس. وإليه الإشارة بقوله تعالى**{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ }** [إبراهيم:48] فكذلك حكم الراحم حيث تصحبه ها هنا رقّة القلب لخصوصية المادّة، لا لضرورة المعنى الموضوع له، ألا ترى أنّ أفاعيل الإنسان - سيّما النفسانية - صادرة من النفس، وإطلاق الأسماء المشتقّة منها عليها على سبيل الحقيقة دون المجاز؟ فإذا نسبت الرحمة إلى النفس وحكم عليها بأنّها راحمة، لم يكن عند أهل اللغة مجازاً، مع أنّها جوهر غير جسماني، فاستقم في هذا المقام، فإنّه من مزالّ الأقدام، وكن متثبّتاً على صراط التحصيل، غير منحرف إلى جانبي التشبيه والتعطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل. مكاشفة اعلم أن رحمة الله وسِعَت كل شيء وجوداً وماهيّة، فوجود الغضب ايضاً من رحمة الله على عين الغضب، فعلى هذا سبقت رحمتُه غضبَه، لأنّ الوجود عين الرحمة الشاملة للجميع، كما قال سبحانه:**{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }** [الأعراف:156] ومن جملة الأعيان والماهيّات التي نالتها كلهال الرحمة الوجودية هو عين الغضب والانتقام. فبالرحمة أوجد الله عينَ الغضب فيكون أصله خيراً وكذا ما يترتّب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن وأمثالها مما لا يلائم بعض الطبائع، وإليه أشار عليه وآله السلام بقوله: الخيرُ كلّه بيديك والشرَّ ليس اليك. ومن أمعن النظرَ في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك، يجدها كلّها بما هي أعداماً أو أموراً عدميّة معدودة من الشرور وأما بما هي موجودات فهي كلّها خيرات فائضة من منبع الرحمة الواسعة والوجود الشامل لكل شيء فعلى هذا يجزم العقل بأنّ صفة الرحمة ذاتيّة لله تعالى وصِفَة الغضب عارضيّة ناشية من أسباب عدميّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إمّا لقصور الوجودات الإمكانية عن الكمال بحسب درجات بُعدها عن الحقّ القيّوم أو لعجز المادّة عن قبول الوجود على الوجه الأتم فينكشف عند ذلك انّ مآل الكلّ إلى الرحمة كما ورد في الحديث فيقول الله: شفعت الملائكةُ، وشفع النبيّون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. قال الشيخ العربي في الفتوحات المكية: واعلم أنّ الله يشفع من حيث أسماؤه، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهّار وشديد العقاب ليرفع عقوبته عن هؤلاء الطوائف. فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، وقد نبّه الله تعالى على هذا المقام فقال**{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً }** [مريم:85] فالمتّقي إنّما هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد، فسمّي جليسه متّقياً منه، فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الذي يعطيه الأمان ممّا كان خائفاً منه، ولهذا يقول (صلى الله عليه وآله) في باب الشفاعة: وبقي أرحم الراحمين. فهذه النسبة، تنسب الشفاعة الى الحقّ من الحقّ من حيث أسماؤه. انتهى كلامه. حكى الشيخ العراقي في رسالته المسماة باللمعات انه: سمع أبو يزيد البسطامي هذه الآية:**{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً }** [مريم:85] فشهق شهقة وقال: من يكون عنده كيف يحشره إليه. وجاء آخر فقال: من اسم الجبّار إلى اسم الرحمن ومن القهّار الى الرحيم. انتهى. أقول: إنّما أشار العراقي بقوله: وجاء آخر: إلى الشيخ المذكور الذي نقلنا كلامه المشار إليه سابقاً. واعلم أنّ معرفة أسماء الله تعالى علم شريف ذوقي، ومشرب عظيم دقيق، قلّ مِن الحكماء من تفطّن بعلم حقائق الأسماء، إلاّ من كوشف بكون وجوده تعالى بأحديّته الجمعيّة كل الموجودات قبل حصولها، وانّ عالم أسمائه عالَم عظيم الفسْحة، فيه صوَر جميع الأعيان والماهيّات، وسنذكر نبذاً من هذا المقام في مستأنف الكلام، عند بيان قوله تعالى:**{ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا }** [البقرة:31] فانتظره موفقاً انشاء الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 30 | | | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
اتّفق اصحابنا الاماميّة رضوان الله عليهم انّه من القرآن وانّه آية من كلّ سورة ذكر التسميّة فى اوّلها وانّه يجب الجهر به فيما يجهر به من الصّلوات ولا يجوز تركه فى الفرائض وخالف فى ذلك العامّة قال البيضاوى فى اوّل تفسيره: هو من الفاتحة وعليه قرّاء مكّة والكوفة وفقهائهما وابن المبارك والشافعىّ وخالفهم الشيبانى وقرّاء المدينة والبصرة والشّام وفقهاؤها ومالك والاوزاعىّ ولم ينصّ ابو حنيفة فيه بشئ فظنّ انّها ليست من السّورة عنده وسئل محمّد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفّتين كلام الله تعالى لنا احاديث كثيرة منها ما روى ابو هريرة انّه قال فاتحة الكتاب سبع آيات اوليهنّ بسم الله الرّحمن الرّحيم وقول امّ سلمة **" قرأ رسول الله (ص) وعدّ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ آية "** ومن اجلهما اختلف فى انّها آية برأسها او بما بعدها والاجماع على انّ ما بين الدفّتين كلام الله والوفاق على اثباتها فى المصاحف مع المبالغة فى تجريد القرآن حتّى لم يكتب آمين، الى هاهنا كلام البيضاوى. وعن امير المؤمنين (ع) انّ التسمية من الفاتحة وانّ رسول الله (ص) يقرؤها ويعدّها آية منها وعن الصّادق (ع) ما لهم قتلهم الله عمدوا الى اعظم آية فى كتاب الله فزعموا انّها بدعة اذا اظهروها وعن الباقر (ع) سرقوا اكرم آية من كتاب الله بسم الله الرّحمن الرّحيم. وورد منهم التّرغيب فى الابتداء به عند كلّ امر صغير او كبير ليبارك فيه فعن الصّادق (ع) انّه قال لا تدعها ولو كان بعدها شعر وعنه (ع) من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبّهه على الشّكر والثّناء ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه. وعن امير المؤمنين (ع) انّ رسول الله (ص) حدّثنى عن الله عزّ وجلّ انّه قال **" كلّ امر ذى بال لم يذكر فيه بسم الله الرّحمن الرّحيم فهو ابتر "** ، وعن طريق العامّة عنه **" كلّ امر ذى بال لم يبدء باسم الله فهو ابتر ".** ولفظ الباء فيه للالصاق باعتبار لصوق ابتداء القراءة باسمه تعالى او للمصاحبة او للاستعانة او للسّببيّة والمتعلّق محذوف من مادّة الابتداء او من مادّة الفعل الّذى يقع بعده مثل اقرأ واقوم واقعد وادخل واخرج او من مادّة الاسم اى اسم نفسى بسمةٍ من سمات الله كما روى عن الرّضا (ع) انّه قال يعنى اسم نفسى بسمة من سمات الله وهى العبادة قيل له ما السّمة قال العلامة وفى هذا الخبر تنبيه على انّ القائل بسم الله الرّحمن الرّحيم ينبغى ان يجتهد حتّى يجد حين هذا القول انموذجاً من صفات الله فى وجوده وفى قوله وهى العبادة اشارة الى انّ العبد حين هذا القول ينبغى ان يخرج من انانيّته الّتى هى خروج من العبادة والعبوديّة ويخرج من مالكيّته واختياره ويدخل تحت امر ربّه ويجد ذلك من نفسه حتّى يكون منه هذه الكلمة صادقة ولا يكون هو كاذباً بينه وبين الله سواء اريد بكلمة بسم الله انشاء الاتّصاف بسمة من سمات الله او الاخبار به ويجوز تقدير التأخير فى المقدّر وتقدير التّقديم لكنّ التأخير ادخل فى التّعظيم والاهتمام باسم الله ويفيد الحصر والاسم بكسر همزة الوصل وضمّها والسّم والسّما بتثليث السّين مأخوذ من السّمو بمعنى الارتفاع او من الوسم بمعنى العلامة، وجمعه على اسماء وتصغيره على سمّى يؤيّد الاوّل، وكونه بمعنى العلامة يؤيّد الثّانى، وحديث الرّضا (ع) فى بيان بسم الله ينبّه على الثّانى واسم الشئ علامته وكلّ لفظ وضع لجوهر او عرض من غير اعتبار نسبة فيه، واسماء الله عبارة عمّا يدلّ عليه تعالى من لفظ او مفهوم او جوهر عينىّ ولا اختصاص لها بالاسماء اللّفظيّة او المفاهيم الذّهنيّة فانّ اطلاق الاسم فى الاخبار على الذّوات العينيّة كثير وسيجيئ تحقيق تامّ للاسم فى اوّل البقرة عند قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا }** [البقرة: 31] والفرق بين الاسم والصّفة اذا اعتبر فى الاسم معنى من المعانى كالفرق بين المشتقّ ومبدء الاشتقاق كالعلم والعالم فانّ الاوّل مأخوذ بشرط لا ولذلك لا يصدق على الذّات الموصوفة به والثّانى مأخوذ لا بشرط شيئ ولذلك يصدق على الذّات الموصوفة به وليست الذّات معتبرة فى المشتقّ لانّه اذا فرض علم مجرّد قائم بذاته يصدق عليه العالم بل نقول ذات البارى جلّت عظمته علم مجرّد قائم بذاته كما انّه عالم. وللاسم اعتبار انّ اعتبار كونه اسماً ومرآة للمسمَّى، وبهذا الاعتبار لا يكون له نفسيّة ولا وجود مغاير للمسمّى بل يكون وجوده وجود المسمّى ورقيقة منه ونفسيّته نفسيّة المسمّى ولذلك لا يكون الحكم فى الكلام الاّ على المسمّى ولا يكون النّظر الاّ الى المسمّى فانّ قولك جاء زيد لا يكون النّظر فيه ولا الحكم الاّ على المسمّى، والآخر اعتبار كونه موجوداً مغايراً للمسمّى منظوراً اليه محكوماً عليه وبهذا الاعتبار يكون هو كالمسمّى امراً موجوداً مستقلاً محكوماً عليه مغايراً للمسمّى وبهذا الاعتبار يصير الاسم مسمّى وله اسماء مثل قولك زيد لفظ مركّب من ثلاثة احرف فانّ زيداً فى هذا القول له اسماء عديدة مثل الاسم واللّفظ والكلمة والمركّب والموضوع والدّال والعلم وغير ذلك وبهذا الاعتبار لا يكون مظهراً ومرآة للمسمّى ولا دالاًّ عليه ولمّا كان جملة العالم برمّتها اسماءً لله تعالى كان هذان الاعتباران ثابتين لها والى هذين الاعتبارين اشار تعالى بقوله إن هى الاّ أسماءٌ يعنى ليست هى مسمّيات ومنظوراً اليها ومستقّلات مغايرات لله سمّيتموها انتم يعنى انّكم صرتم محجوبين عن المسمّى ناظرين الى الاسماء من حيث انّها مستقّلات فى الوجود جاعلين لها مسمّيات فصرتم مشركين وكافرين لهذا النّظر، و النّاس فى النّظر الى الاشياء مختلفون فناظر ينظر اليها من حيث انّها اسماء لله غافلاً عن وجودها وعن النّظر اليها او شاعراً بالنّظر اليها، وناظر ينظر اليها من حيث انّها مسمّيات غافلاً عن المسمّى، وناظر ينظر اليها مستقّلات والى المسمّى والاوّل وهو الّذى ينظر الى الاشياء من حيث انّها اسماء غافلاً عن النّظر اليها او شاعراً بالنّظر اليها هو الّذى يعبد المسمّى بايقاع الاسماء عليه ويكون موحّداً، والّذى ينظر الى الاسماء من حيث انّها مسمّيات مستقّلات غافلاً عن المسمّى هو الّذى يعبد الاسم دون المسمّى ويكون كافراً وهذا حال اكثر النّاس، والّذى ينظر الى الاسماء حالكونها مسمّيات مستقّلات والى المسمّى حالكونه مسمّىً مستقلاً مغايراً مبايناً عن الاسماء هو الّذى يعبد الاسم والمسمّى ويكون مشركاً، والنّاظر الى الاسماء من حيث انّها اسماء غافلاً عن نظره اليها هو المجذوب الّذى رفع القلم عنه ولا حكم له فى الكثرات ولا تكليف، والنّاظر اليها من حيث انّها اسماء شاعراً بنظره هو الكامل الجامع للطّرفين، وهذا الكامل امّا يكون استشعاره بالاسماء غالباً على استشعاره بالمسمّى او يكون استشعاره بالمسمّى غالباً او يكون استشعاره بالطّرفين على السواء والاوّل هو الواقع فى النشأة الموسويّة والثّانى هو الواقع فى النشأة العيسويّة والثالث هو الّذى يراعى حقوق الكثرات والوحدة بحيث لا يهمل من حقوق الطّرفين شيئاً وهو الواقع فى النشأة المحمّديّة (ص) الجامعة للكثرة والوحدة بحيث لا يشذّ شيئ من حقوقهما، والى النشئات الثّلاث أشار تعالى بقوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ }** [الفتح: 29]؛ الآية، فاشار بقوله ذلك: مثلهم فى التّوراة؛ الى النشأة الموسويّة وبقوله { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ }؛ الآية، الى النشأة العيسويّة، وبالجمع بين النشأتين الى النشأة المحمّديّة واعتبر ذلك المذكور من حال الكافر والمشرك والمجذوب والكامل ونشئاته الثّلاث بالمرآة والنّظر اليها ورؤية الصّور فيها فانّه قد ينظر الانسان الى المرآة من حيث صفائها واستدارتها وتربيعها وتسديسها وتحديبها او تقعيرها من غير رؤية صورة فيها او من غير شعور برؤية صورة فيها، وقد ينظر اليها من حيث رؤية الصّور فيها من غير شعور بالمرآة وبرؤيتها، وقد ينظر الى المرآة من حيث اشكالها وصفائها وينظر الى الصّورة الّتى فيها وقد ينظر الى المرآة حال كونها لا حكم لها فى نظره سوى ارائة الصّور شاعراً بنظره الى المرآة وبنظره الى الصّور بالاقسام الثلاثة السّابقة وما ورد فى جواب من قال هل الله فى الخلق ام الخلق فى الله من قوله (ع) اخبرنى عن المرآة هل انت فى المرآة ام المرآة فيك يشير الى ما ذكرنا ومقامات الكثرة فى الوحدة والوحدة فى الكثرة والجمع بين الوحدة والكثرة الدّايرة فى ألسنة الصّوفيّة اشارة الى النشئات الثلاث وللاشارة الى تلك النّشئات ورد فى خبرٍ: ما رأيت شيئاً الاّ ورأيت الله فيه وفى آخر: الاّ ورأيت الله قبله وفى آخر: الاّ ورأيت الله بعده وما قيل انّ الاسم عين المسمّى او غيره قد علم جوابه ممّا ذكرنا فانّ الاسم اذا كان منظوراً اليه من حيث اسميّته بحيث يكون النّاظر غافلاً عن نظره يكون عين المسمّى بمعنى انّه لا وجود ولا نفسيّة ولا حكم ولا اثر حينئذٍ الاّ للمسمّى، واذا كان النّاظر حينئذٍ شاعراً بنظره يكون بوجه غيره وبوجه عينه، واذا كان منظوراً اليه بحيث يكون فى نظر النّاظر ذا نفسيّة ووجود وانانيّة كان غيره سواء نظر النّاظر من الاسم الى المسمّى او لم ينظر، ولمّا كان الانسان واقعاً بين دارى الرّحمن والشّيطان وكان دار الشّيطان لغاية بعدها من الرّحمن وغلبة الاعدام عليها وكونها بتمام اجزائها مظاهر قهره تعالى كأنّها لم تكن مظاهر له تعالى وكانت مقابلة لدار الرّحمن وكانت النّفس الانسانيّة من حيث تسخّره للشّيطان كأنّها اسم للشّيطان لا للرّحمن ومن حيث تسخّره للعقل اسم للرّحمن وكان جميع افعال الانسان صادرة من نفسه امّا من جهتها الشّيطانيّة او من جهتها العقلانيّة امروا العباد بالتسميّة عند كل فعل صغير او عظيم حتّى يخرجوا بالتّسميّة من جهة النّفس الشّيطانيّة ويدخلوا فى جهتها الرّحمانيّة ويكون الفعل رحمانيّاً لا شيطانيّاً، ولمّا كان اكثر النّاس قاصرين غير بالغين الى مقام النّظر الى فاعليّة الله تعالى بدون وساطة الوسائط ومن بلغ الى ذلك المقام لم تكن الوسائط مرتفعة فى أفعاله بل المرتفع فى حقّه النّظر الى الوسائط قال تعالى باسم الله بتخلّل الاسم بين الباء والله ولم يقل بالله وان كان هذا ايضاً صحيحاً فى نفس الامر فانّ الافعال تصدر عن الانسان بتوسّط نفسه الّتى هى اسم لله فما قيل انّ الاسم مقحم بين الجارّ ومجروره ليس بشيئ وكذا ما يترائى من كون المراد من الله لفظه وكون الاضافة بيانيّة يأتي التّوصيف بالرّحمن، ولمّا كان المقصود من التسمية الخروج من الجهة الشيطانيّة والدّخول فى الجهة العقلانيّة كما سبق عن الرّضا (ع) فى تفسيرها من قوله يعنى اسم نفسى بسمة من سمات الله فلو قال القائل بسم الله الرّحمن الرّحيم كان قوله بسم الله مثل ان قال التجأت من دار الشّيطان وتصرّفه الى دار الرّحمن وتصرّفه ودخلت فى داره واتّصفت بصفاته فكان يفيد فائدة الاستعاذة مع شيئ زائد ولذلك ورد عن الباقر (ع) اوّل كلّ كتاب نزل من السّماء بسم الله الرّحمن الرّحيم فاذا قرأتها فلا تبال ان لا تستعيذ واذا قرأتها سترتك فيما بين السّماء والارض، ولمّا كان التّسمية من القائل اتّصافاً بسمة من سمات الله وهى بمنزلة السّلاح للشيطان والشّيطان يفرّ منها امروا بالجهر ببسم الله بخلاف الاستعاذة والله علم للذّات بعنوان مقام ظهوره الّذى هو فعله ومشيئة فانّ الذّات غيب مطلق لا اسم له ولا رسم له وانّ الاسماء والصّفات ليست له الاّ باعتبار ظهوره بفعله ومشيئة ومشيئة لها اعتباران؛ اعتبار وجهها الى مقام الغيب واعبار وجهها الى الخلق، وتسمّى باعتبار وجهها الى الغيب عرشاً، وباعتبار وجهها الى الخلق كرسيّاً، وبهذين العنوانين يسمّى الحقّ الاوّل بالله وبالعلىّ وباعتبار هذين العنوانين قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** [طه: 5] و**{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }** [البقرة: 255] وهل هو مشتقّ او جامد بمعنى انّه من الاوصاف المشتقّة من المصادر او ليس اسماً مشتقّاً بل هو مصدر او اسم مصدر او اسم ليس له مادّة متصرّفة، اقوال؛ فقيل انّه من مادّة اله الهة والوهة مثل نصر بمعنى عبد واصله اله بكسر الهمزة حذف الهمزة وعوّض عنها لام التّعريف ولذلك او لمطلوبيّة التّطويل والتّفخيم فى نداء المحبوب لم يحذف الفه فى النّداء، او من اله كفرح بمعنى تحيّر او اشتدّ جزعه عليه او فزع اليه ولاذ به او بمعنى اجاره، وقيل من مادّة وله من باب حسب وعلم وضرب بمعنى حزن وتحيّر وخاف وجزع او من مادّة لاه الله الخلق يلوه بمعنى خلقهم او من لاه يليه بمعنى تستّر او علا، وقيل: اصله لاها بالسّريانيّة فعرّب بحذف الالف الاخيرة ودخل لام التّعريف عليه وقيل كان اصله هو لانّه موضوع لغائب معهود معروف والغائب عن الابصار مطلقاً والمعهود المعروف للقلوب على الاطلاق هو الله ثمّ ادخل عليه لام الاختصاص للاشعار باختصاص كلّ ما سواه به، ثمّ اشبع فتحة الّلام تفخيماً ثمّ ادخل لام التّعريف عليه لتفخيم آخر فصار الله. و { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } صفتان لله او للاسم فانّ اسماء الله العينيّة كما انّها مظاهر لله مظاهر لجميع صفاته تعالى وجعلهما صفتين للاسم اولى من جعلهما صفتين لله للزوم التّأكيد على الثّانى مع ما بعده دون الاوّل ولانّ المنظور الاتّسام باسم يكون به قوام الفعل المبتدأ به وينتهى الفعل اليه وهذا معنى كون الاسم متّصفاً بصفة الرّحمانيّة والرّحيميّة وهما مأخوذتان من رحِم بكسر العين للمبالغة او من رحُم بضمّ العين صفتين مشبّهتين وعلى اىّ تقدير فالرّحمن ابلغ من الرّحيم لزيادة مبناه ولعدم اختصاص الرّحمة الرّحمانيّة بشيئ دون شيئ وبحال دون حال وبجهة دون جهة بخلاف الرّحمة الرّحيميّة فانّها مختصّة بالانسان ومن كان مثله سالكاً الى الرّحمن وبحال كونه على رضاه ومن جهة كونه على رضاه وامّا غير الانسان فانّ العناصر والمواليد لا توصف بالرّحمة الرّحيميّة ولا بالغضب الّذى هو ضدّها والارواح العالية وجودهم كما هو رحمة رحمانيّة رحمة رحيميّة ولا تمايز بين الرّحمتين فيهم كما لا يتصوّر جهة غضب فيهم والارواح الخبيثة قد يجوز ان يتّصفوا بالرّحمة الرّحيميّة لكنّ الاغلب انّهم متّصفون بالغضب وذلك انّ الرّحمة الرّحمانيّة عبارة عن افاضة الوجود على الاشياء وابقائها واكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها وهذا عامٌ لجميع الاشياء دنيويّة كانت او اخرويّة اناسىّ كانت او غير اناسىّ ولذلك قال { الرّحمن على العرش استوى } وفسّروه باستواء نسبته الى الجليل والحقير وورد: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" يا رحمن الدّنيا والآخرة "** ، وورد عن الصّادق (ع) انّ الرّحمن اسم خاصّ لصفة عامّة وورد عن امير المؤمنين (ع) انّ الرّحمن الّذى يرحم ببسط الرّزق علينا او العاطف على خلقه بالرّزق لا يقطع عنهم موادّ رزقه وان انقطعوا عن طاعته، ومن المعلوم انّ رزق الاعيان الثّابتة افاضة الوجود عليها ورزق الموجود افاضة ما به بقاء وجوده والرّحمة الرّحيميّة عبارة عن افاضة الكمالات الاختياريّة المرضيّة على المختارين من الانس والجنّ ولذلك ورد انّ الرّحيم اسم عامّ لصفة خاصّة وورد عنهم (ع) الباء بهاء الله والسّين سناء الله والميم مجد الله وفى رواية ملك الله والله اله كلّ شيئ، الرّحمن بجميع خلقه والرّحيم بالمؤمنين خاصّة وما ورد انّه الرّحيم بعباده المؤمنين فى تخفيفه عليهم طاعاته وبعباده الكافرين فى الرّفق فى دعائهم الى موافقته فتعلّق الرّحمة الرّحيميّة بالكافرين انّما هو من جهة بقاء فطرتهم واقتضائها فعليّة مرضيّة اختياريّة من الفعليّات المرضيّة تقتضى تلك الفعليّة الرّفق بهم ودعائهم الى الدّين والمداراة معهم فى الدّنيا والنّصيحة لهم فى امر العقبى وفى آخر الخبر المروىّ عن امير المؤمنين (ع) الرّحيم بنا فى ادياننا ودنيانا وآخرتنا خفّف علينا الدّين وجعله سهلاً خفيفاً وهو يرحمنا بتمييزنا من اعدائه فالرّحمة الرّحيميّة بمعنى الرّضا مقابل الغضب كالصورة للرّحمة الرّحمانيّة وهى مادّة للرضا والغضب فانّ الرّحمة الرّحمانيّة وهى افاضة الوجود وكمالات الموجود قد تصير فى بعض الموجودين وهم المختارون العاصون غضباً وفى بعضهم وهم المختارون المطيعون رضاً، والرّحمة السّابقة على الغضب هى الرّحمة الرّحمانيّة دون الرّحمة الرّحيميّة او هى الرّحمة الرّحيميّة والمراد بسبقها تعلّقها بالمكلّفين بحسب اقتضاء فطرتهم ذلك كما سبق وقد علم ممّا ذكر وجه تخلّل الاسم بين الجارّ والله، ووجه تقديم الله على الرّحمن، وتقديم الرّحمن على الرّحيم، واشار بالله الى جامعيّته تعالى وبالرّحمن الى مبدئيّته وبالرّحيم الى مرجعيّته وقد جمع جميع اضافاته فيهما ولمّا كان الحروف اللّفظيّه بازاء مراتب الوجود العينيّة كان كلّ منها اشارة الى مرتبة منه فالالف لبساطتها اشارة الى مرتبة الوجوب والباء لكونها اقرب الى الالف فى البساطة اشارة الى فعله الّذى لا فرق بينه وبينه، والنّقطة تحت الباء اشارة الى تعيّن الفعل بالامكان ولذلك ورد: بالباء ظهر الوجود اشارة الى مقام المشيئة، وبالنّقطة تحت الباء تميّز العابد عن المعبود: اشارة الى تعيّنها بالامكان الاوّل العقلانى وقيل ظهرت الموجودات من باء بسم الله، وبلحاظ انّ الحروف بازاء مراتب الوجود ولحاظ انّ جميع الكتب السّماويّة لتصحيح النسب الحقيّة والنسب الخلقيّة وجميع النسب الحقيّة والخلقيّة مجتمعة بحسب الامّهات فى فاتحة الكتاب وجميع ما فى الفاتحة مجتمعة فى بسم الله الرّحمن الرّحيم وجميع ما فى تمام بسم الله الرّحمن الرّحيم مجتمعة فى باء بسم الله صحّ ان يقال جميع ما فى القرآن فى سورة فاتحة الكتاب، وجميع ما فى سورة فاتحة الكتاب فى بسم الله الرّحمن الرّحيم، وجميع ما فى بسم الله فى باء بسم الله، وعلىّ (ع) باعتبار تعيّنه الاوّل هو النقطة تحت الباء وصحّ ان يقال، لو شاء العالم لاوقر سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب او من تفسير بسم الله الرّحمن الرّحيم او من تفسير باء بسم الله كما نسب اكثر هذه المضامين الى مولانا امير المؤمنين عليه السّلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ)
النزول: روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: **" لم ينزل { بسم الله الرَّحْمٰن الرحيم } على أحد قبلي الا على سليمان ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
أتبرك في كل مباح وعبادة، ولا تكتب البسملة في أول ديوان الشعر، إلا إن كان علماً أو وعظا، أو نفعا لا محذور فيه شرعا. وأجاز سعيد بن جبير كتبها في أول ديوان الشعر، ووجدتها مكتوبة في نسخة قديمة بأكثر من خمسمائة عام من ديوان الشعراء الستة، معروضة على أبي على الشلوبين، وأعطى الإِجازة فيها لبعض تلامذته، وعنه صلى الله عليه وسلم، **" لو أن أحدكم أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإِنه إن يقدَّر بينهما ولد لم يضره الشيطان "** وقال صلى الله عليه وسلم: **" ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا، باسم الله "** ، أي إذا أرادوا الدخول. والله مختص به تعالى، والإِله أعم، سواء أقلنا، أصل لفظ الله إله أم لا فلا تهمّ، وقرىء بنصب الرحمن، وجر الرحيم، والنصب على تقدير أحمد، وسماه أبو حيان عطف توهم، أي على طريق التوهم، وأصاب. ووجه توهمه أن الإِتباع بعد القطع ضعيف، فلتسميته وجه، ونص هو على ضعف ذلك، لاختصاص التوهم بالعطف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
اختلف فى البسملة هل هى من خصوصيات هذه الأمة أو كانت للأمم قبلها! فنقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله افتتح كل كتاب بها، وهذه دعوى لم تعضدها حجة إذ صحة الإِجماع متوقفة على ثبوت نقله، وذهب آخرون إلى أنها من خصوصيات هذه الأمة، واحتج له الألوسي بما لا طائل تحته والعجب من هؤلاء كيف يغفلون عن كتاب سليمان الذي صدر بها، وقد حكاه الله فى سورة النمل، أما كونها من القرآن الكريم فهو مما أجمع عليه لعدم الاختلاف فى كونها جزء آية من سورة النمل، وقد أخطأ من نسب إلى أبي حنيفة وغيره القول بأنها ليست من القرآن أصلاً، وممن وقع فى هذه العثرة أبو السعود فى تفسيره ومنشأ الخطأ التباس نفى كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة صدرت بها بنفى قرآنيتها مطلقا على أن كتابتها فى صدر السور إلا سورة براءة فى المصحف الإِمام بإجماع الصحابة (رضى الله تعالى عنهم) وتناقل الأمة لذلك جيلاً بعد جيل حجة قاطعة لا تدع مجالاً للريب فى أنها آية من كل السور التي صدرت بها كيف والصحابة (رضى الله عنهم) كانوا أشد ما يكونون حرصا على تجريد القرآن الكريم فى كتابته فى المصاحف من كل ما ليس منه. ولذلك جردوا مصاحفهم من عناوين السور فليس من المعقول أن يزيدوا فى مائة وثلاث عشرة سورة ما ليس منها، وهذه المسألة قد كثر فيها الأخذ والردّ حتى أن جماعة من العلماء أفردوا لها مؤلفات خاصّة، وخلاصة ما فيها أنهم اختلفوا فيها مع إجماعهم أنها جزء آية من سورة النمل، فذهب إلى إنها آية من كل سورة صُدرت بها من علماءِ السلف من أهل مكة، فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير وأهل الكوفة ومنهم القارئان المشهوران عاصم والكسائي، وعُزى إلى على وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة من الصحابة، وإلى سعيد بن جبير وعطاء الزَّهرى وابن مبارك من التابعين وهو مذهبنا ومذهب الشافعى فى الجديد وعليه أصحابه، ونُسب إلى الثورى وأحمد فى أحد قوليه وعليه الإِمامية، وذهب جماعة إلى أنها آية مفردة أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من غيرها ما عدا سورة النمل وهو الذى عليه مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعى وجماعة من علماء الشام ويعقوب من قراءة البصرة، وعليه الحنفية، وذهب فريق آخر إلى أنها ليست آية مطلقاً من هذه السور ولم تنزل للفصل بينها وإنما هى جزء آية من سورة النمل ونسب هذا القول إلى ابن مسعود وهو رأى لبعض الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة إنها آية من الفاتحة دون غيرها وهو رواية عن أحمد، وتوجد أقوال أخرى هى إلى الشذوذ أقرب منها أنها بعض آية من جميع السور، ومنها أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور ومنها عكس ذلك، وهذا الاختلاف استتبع الاختلاف فى قراءتها في الصلاة، وفى الجهر والإِسرار بها كما سنوضحه إن شاء الله، وحجة القول الأول ما ذكرناه من إجماع الصحابة واستقراء العمل على كتابتها فى صدر كل سورة إلا سورة التوبة، والكتابة حجه معتبرة عند جميع شعوب العالم والمدينة فى العصر الحديث بل الكتابة الرسمية أقوى ما يعتمد عليه عندهم كما جاء ذلك في المنار وقد كانت كتابتها فى المصحف الإمام الذي وزعت نسخة فى الأمصار بأمر الخليفة الثالث وعلى مسمع ومرأى من سادات المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولم ينكر ذلك أحد منهم وقد كانوا أحذر ما يكونون عن إضافة أى شىء إلى القرآن مما ليس منه، وتوالت من بعدهم أجيال هذه الأمة وكلها مطبقة على كتابتها فى صدر السور وعلى تلاوتها مع القرآن وإن كان منهم من يزعم أنها آية أنزلت بانفراد للفصل بين السور ولا يؤثر هذا الزعم فى الإِجماع العملى، ولو أن الناس أنصفوا لكفتهم هذه الحجة عن غيرها ولما أخذوا بالروايات الآحادية الظنية فى مقابل هذه الحجة المتواترة القطعية ولكنهم عولوا على الروايات فسلكوا طرائق قددا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }** [المؤمنون: 53] وأصرح ما اعتمدوا عليه من الروايات حديث أبى هريرة رضى الله عنه عند الربيع وأحمد ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدنى عبدى، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدى، فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدنى عبدى، وقال مرة فوض إلى عبدى، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل "** ووجه استدلالهم بالحديث لعدم ذكر البسملة، قالوا لو كانت من الفاتحة لذكرت فى الحديث، وهو كما ترى استدلال سلبي فى مقابلة الإيجابي القطعي المتواتر وهو إجماع الجميع على كتابتها وتلاوتها فى الفاتحة وغيرها من سور القرآن وأين هذه الحجة السلبية الخفية التي تحمل ضروبا من التأويل من تلك الحجة القطعية الظاهرة التى لا يمكن تأويلها بحال؟ ويكفيك دلالة على ضعف هذه الحجة أن الحديث لم يذكر قسمة الفاتحة بل ذكر قسمة الصلاة والصلاة تشتمل على أذكار وأفعال متعددة وعلى قراءة من غير الفاتحة، وكل هذه الأشياء لم تذكر فى القسمة الواردة فى الحديث، وإنما ذكرت الفاتحة وحدها، بل ذكر منها ما لا يشاركها فيه غيرها من السور، والبسملة قد اشتركت فيها السور كلها ما عدا براءة، وثم جواب آخر هو أن ما فى البسملة من الثناء على الله بوصفه بالرحمة مكرر فى الفاتحة ومذكور فى القسمة فلا يقوى الاستدلال السلبى الذى اعتمدوا عليه على معارضة القطعى، هذا لو سُلمت المعارضة بين الحديث وما تدل عليه كتابة الفاتحة فى البسملة وغيرها، وقد علمت أن ليست ثَم معارضة، وفى هذا يقول السيد محمد رشيد رضا: " إذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعى من القرآن للتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه، على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة " ، وللإِمام الفخر فى تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب " اعترض على استدلالهم بهذا الحديث بما جاء من ذكر البسملة فى بعض طرقه، فقد أخرج الثعلبى بإسناده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد. بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله سبحانه مجدنى عبدى، وإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله تبارك وتعالى حمدنى عبدى، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدى، وإذا قال مالك يوم الدين، قال الله: فوض إلي عبدى،...إلخ "** وتابعه الإمام العلامة أبو مسلم فى نثاره غير أنا لعدم اطلاعنا على إسناد هذا الحديث عند الثعلبى، وعدم معرفتنا بصحته لا نستطيع الاعتماد عليه، ونكتفى بما أسلفنا ذكره فى الإجابة على استدلالهم. ومما اعتمدوا عليه حديث أبى هريرة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك "** ووجه الاستدلال أن سورة الملك هى ثلالون آية دون البسملة، وأجيب بأن البسملة لم تُعد من السورة للإشتراك فيها بينها وبين غيرها، والمراد بالثلاثين آية الآيات الخاصة بالسورة ويدل على ذلك ما روى عن أبى هريرة أيضا أن سورة الكوثر ثلاث آيات مع أن أحمد ومسلما والنسائى أخرجوا من حديث أنس (رضى الله عنه) قال: **" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فى المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله فقال: " نزلت عليّ آنفا سورة " فقرأ: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ. إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } [سورة الكوثر] "** وهذا الحديث دلالته على أن البسملة من سورة الكوثر واضحه مع أنها لم تعد من آياتها لما ذكر، فكونها آية من سورة الفاتحة أولى وهو أصح من حديث أبى هريرة فى سورة الملك لأن البخارى أعله بأن عباس الجشمى راويه لا يعرف سماعه عن أبى هريرة، وتعلقوا بأحاديث عدم الجهر بالبسملة المروية عن أنس بن مالك قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد ومسلم، وفى لفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد والنسائى على شرط الصحيح، وأخرجه ابن حبان والدارقطنى والطحاوى والطبرانى وفى لفظ لابن خزيمة " كانوا يسرون " ولأحمد ومسلم رواية أخرى بلفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا فى آخرها " ولعبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة فقلت لقتادة أنت سمعته من أنس؟ قال نعم نحن سألناه عنه، وللنسائى عن منصور بن زادان عن أنس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " وأنت ترى هذه الروايات عن أنس لا تخلو من اضطراب فتجدها تارة نافية لقراءة البسملة وتارة نافية للجهر بها وأخرى نافية لسماعها، ومثل هذا الاختلاف لا تنهض به حجة كما صرح بذلك ابن عبد البر فى (الاستذكار) وهو من أجل أئمة المالكية، والمالكيون لا يرون قراءة البسملة في الصلاة فضلا عن الجهر بها، وهذه المسألة أى مسألة الإِسرار والجهر بالبسملة أو تركها رأسا مما وقع فيه الخلاف واضطربت فيه الروايات عن الصحابة والتابعين فنجد الصحابي يروى عنه الجهر والإِسرار بها ولم نجد أحدا من الصحابة روي عنه الإِسرار وحده إلا ابن مسعود رضي الله عنه، وممن روي الجهر بها عنهم في حال الجهر بالقراءة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعمار بن ياسر، وأبى بن كعب وأبو قتادة والسعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية، وذكر الشوكانى في (نيل الأوطار) عن الخطيب أن من قال بالجهر بها من التابعين أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلى بن الحسين وابنه محمد بن على وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهرى وأبو قلابة وعلى بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن، وممن بعد التابعين عبيد الله العمرى والحسن بن زيد وزيد بن على ابن الحسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه، وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمى، ومن تابعيهم المعتمد ابن سليمان، وذكر البيهقى في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويؤيده ما جاء في كتب العترة وهو الذى عليه الشافعى وأصحابه واتفق عليه أصحابنا، وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلى خلف من لا يجهر بالبسملة، ويرى جماعة من العلماء الإِسرار بها وهو المعمول به عند الحنفية والحنابلة، وقد روى عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، ومالك لا يرى قراءتها سراً ولا جهراً ونُقل عنه قراءتها فى النوافل فى فاتحة الكتاب وسائر القران، ومنهم من يرى جواز الجهر والإِسرار بها حكاه القاضى أبو الطيب الطبرى عن ابن أبى ليلى، وإذا تدبرت مجموع الروايات استطعت أن تستخلص منها صحة القول بالجهر، فقد أخرج الإِمام الشافعى بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال صلى معاوية بالناس فى المدينة صلاة جهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر فى الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة - وفي رواية سرفت الصلاة - أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والحديث صحيح الإِسناد كما أوضح العلامة المحدث أحمد محمد شاكر في شرحه وتحقيقه لسنن الترمذى، وأخرجه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. فأت ترى كيف اجتمعت كلمة المهاجرين والأنصار على إنكار عدم الجهر بالبسملة على معاوية بن أبى سفيان مع شدة بطشه وقوة شكيمته وليس ذلك إلا لتركه واجبا لا يصح التساهل فيه، والحديث ظاهر في أن العمل عند الصحابة رضي الله عنهم قد استقر على الجهر بالبسملة وإلا فكيف يعرفون أن لم يقرأها رأسا ولو كانت مما يخفت في الصلاة وفي هذا الحديث ما يرد على دعوى ابن العربى والقرطبى فى انتصارهما لمذهبهما المالكي في عدم قراءة البسملة في الصلاة بأن ذلك قد استقر عليه العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك ولعمرى إن هذه الدعوى لبعيدة المنال، فإن حادثة المهاجرين والأنصار مع معاوية كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن تكون في مسجده الشريف، فمن أين لابن العربي والقرطبى استقرار العمل في المسجد النبوى على عدم قراءتها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا وقد حاول جماعة الجمع بين روايات أنس المختلفة بأن المقصود من قوله " كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " عدم جهرهم بها كما صرح بذلك في رواية " كانوا لا يجهرون " ، وأن المقصود بقوله " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " الاستفتاح بهذه السورة بما فيها البسملة على أن أنسا رضي الله عنه قد رُوى عنه عدم حفظه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدار قطنى وصححه عن أبى سلمه قال: - سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو " ببسم الله الرحمن الرحيم "؟ فقال: إنك سألتنى عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين؟ قال نعم، وذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن عروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات - قال: وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك، فقال بعضهم يجهر وقال بعضهم يخفت، وعقب على ذلك السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بأن اختلاف هؤلاء المصلين لم يكن في صلاة واحدة بل في جميع الصلوات ورد ذلك إلى الغفلة والناس عرضة لها لا سيما الغفلة عن أول الصلاة وعلل ذلك باشتغال الناس عن مراقبة قراءة الإمام بالدخول في الصلاة وقراءة دعاء الافتتاح وحمل عليه روايات أنس في عدم الجهر بالبسملة أو عدم سماعها، إذ يرى السيد رشيد رضا مرد ذلك إلى بعد أنس عن الصفوف القريبة من الإِمام واشتغاله بدعاء الافتتاح والإِحرام فلذلك لم يسمع البسملة من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الثلاثة مع أنه من العادة أن يكون صوت القارىء خافتا في أول القراءة، ورأى كل من الحافظ ابن حجر والشوكانى أن الرواية إثبات الجهر إذا وجدت قدمت على نفيه، لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافى كما هي القاعدة، لأن أنساً يبعد جداً أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان فلا يسمع منهم الجهر فى صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر وهما يشيران بهذا إلى سؤال أبي سلمة بن مالك عما كان رسول الله يستفتح به قراءته وقد سلف ذكره، وأنس بن مالك هو نفسه الذى روى قصة المهاجرين والأنصار مع معاوية وإنكارهم عليه عدم قراءته البسملة الذى استدلوا عليه بعدم جهره بها وروى البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم، وهو واضح في جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبسملة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما تعلق به القائلون بعدم كونها آية من الفاتحة حديث عبد الله ابن مغفل عند الخمسة إلا أبا داود قال سمعني أبى وأن أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث - قال ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه - فإِني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين.. والحديث معلول بعبدالله بن مغفل فإنه مجهول لا يعرف ولم يروِ عنه إلا أبو نعامة وإن صح فهو محمول على ما حملت عليه أحاديث أنس. الدليل على كون البسملة من الفاتحة: - أما أدلة إثبات كون البسملة من الفاتحة، وإثبات الجهر بها فكثيرة قد تقدم ذكر بعضها من رواية أنس رضى الله عنه نفسه، وذكر الفخر الرازى في تفسيره لذلك سبع عشرة حجة منها القوي ومنها الضعيف، وتابعه على الاستدلال بها العلامة أبو مسلم في نثاره وحاول العلامة الألوسي نقض هذه الحجج حجة حجة انتصارا لمذهبه الجديد الذى انتقل إليه، وابدى السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنار استغرابه الشديد من صنيع الألوسي الذى حاول بكل وسيلة هدم الحجج الشامخة البنيان، المتينة الأركان من غير داع لذلك إلا التعصب المذهبي، على أن الألوسي نفسه كان من قبل شافعي المذهب ولكنه اتبع مذهب الأحناف تقربا إلى الدولة العثمانية حسبما يقول السيد رشيد رضا، وسوف أورد (إن شاء الله) بعض هذه الحجج التي أراها صالحة للاحتجاج بها، وأذكر صورة من محاولة الألوسي لنقضها كما اضم إليها بعض الحجج الأخرى. منها حديث أبي هريرة الذى أخرجه الطبرانى وابن مردويه والبيهقي بلفظ " الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهى السبع المثانى والقرآن العظيم وهى أم القرآن، وهى فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطنى بلفظ " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم أنها أم القرآن وام الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " والحديث واضح في أن البسملة من الفاتحة، ولكن الألوسي حاول قلب هذه الدلالة الواضحة فقال ما معناه إن المراد من الرواية الأولى أن الحمد لله رب العالمين إلى آخرها سبع آيات كما يقول الحنفية، وقوله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن " أراد به إزالة توهم كونها ليست من القرآن لعدم تعرضه لها، وقد جاءت عبارته بأسلوب التشبيه البليغ ومراده أنها كإحدى آياتها في كونها من القرآن، وكذلك قوله في الرواية الأخرى " وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " وأنت ترى أن في هذا الكلام صرفا للعبارة عن ظاهرها وخروجا بالحديث عن دلالته الواضحه فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد التأكيد على أن البسملة من الفاتحة، وقوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } علم على هذه السورة، فما الذى يدعو إلى زعم أن البسملة ليست بآية منها مع هذا التصريح في كلامه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنها إحدى آياتها، وما الداعي لتقدير أداة التشبيه، ولو كان المراد التشبيه لذكرت أداته لدفع اللبس فإن حذفها لا يكون إلا مع الأمن منه، وفي هذا ما يكفي المستفيد دلالة على طريقة الألوسي في الرد على خصمه الرازى في هذه المسألة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها ما رواه الشافعي عن ابن جريح عن أبي مليكه عن أم سلمة أنها قالت: **" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيـمِ } آية، { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } آية، { الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ } آية، { مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } آية، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } آية، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } آية، { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } آية "** وهذا نص صريح، وجاء هذا الحديث عند أحمد وأبي داود بلفظ: **" سُئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، "** وفي لفظ ابن الأنباري والبيهقي: **" كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية، يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف، ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف، ثم يقول مالك يوم الدين "** وفي رواية الدار قطني عن ابن أبي مليكه عن أم سلمة رضى الله عنها أيضا **" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقطعها آية آية، وعدها عد الأعراب، وعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية، ولم يعد { عليهم } "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال اليعمرى: رواته موثقون، وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم، وفي إسناده عمر بن هارون البلخى: ضعفه الحافظ لكنه وثق عند غيره، وغاية ما تشبث به الألوسي في الاعتراض على هذا الدليل أمران أحدهما عدم ثبوت سماع أبي مليكه عن أم سلمه رضي الله عنها، ثانيهما أن غاية ما في الروايات قراءة النبي صلى الله عليه وسلم البسملة مع الفاتحة وهو دليل قرآنيتها لا دليل كونها من الفاتحة والجواب عن الاعتراض الأول بأن الذين أعلوا الحديث بالانقطاع كالطحاوى استدلوا برواية الليث عن ابن أبى مليكه عن يعلى بن مالك عن أم سلمه، ورد عليهم الحافظ بأن هذا الذى أُعل به ليس بعله فقد رواه الترمذى من طريق ابن أبى مليكه عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإِسناد الذى فيه يعلى بن مُملّك، ويريد الحافظ بذلك رواية الترمذى للحديث وتصحيحه له في باب فضائل القرآن مع العلم أن الترمذى ذكر في باب القراءة أن إسناده ليس بمتصل، ولعل التصحيح لأجل الاتصال وعدم التصحيح في الرواية غير المتصلة كما يقول الشوكاني في " نيل الأوطار ". والجواب عن الاعتراض الثاني أن دعوى كون البسملة آية من القرآن بانفراد ليست من الفاتحة محتاجة إلى دليل، إذ لو كانت كذلك لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومداومته قراءتها مع الفاتحة باستمرار من غير أن يبين للناس استقلالها عنها دليل على أنها جزء منها، وهذه الروايات عن أم سلمة تدل على جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة وإلا فمن أين لها أن تصف قراءته لها لو أنه كان يخفيها؟. ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي قال نعيم المجمر صليت وراء أبي هريرة فقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ثم قرأ بأم القرآن - وفيه - ويقول إذا سلم: والذى نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي صحيح الإِسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه إليه تعليل. ومنها حديث أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات، وقال الشوكاني إن في إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه. ومنها حديث علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أخرجه الدارقطني وقال هذا إسناد علوى لا بأس به، وهو وإن أعله الحافظ بأنه بين ضعيف ومجهول يعتضد بالروايات الأخرى التي في معناه، على أن الدارقطني أخرج عنه بإسناد رجاله كلهم ثقات أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين قيل إنما هي ست فقال بسم الله الرحمن الرحيم.. وأخرج الدارقطني عنه وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو مع ضعف إسناده يعتضد متنه ببقية المتون. ومنها حديث سمره قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان. سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة.. فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمره. أخرجه الدارقطني بإسناد جيّد ولا ينافيه ما أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما عنه بلفظ سكتة حين يفتتح، وسكتة إذا فرغ من السورة لأن المبين مقدم على المجمل. ومنها حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الحاكم وقال رواته كلهم ثقات. وأخرجه الدارقطني عنه بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه. ونحوه عن عائشة رضى الله تعالى عنها من طرق يشد بعضها بعضا. ومن العجيب أن يزعم القرطبي أن هذه الروايات ليست فيها حجة لأنها آحادية والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه، وقد فات القرطبي أن هذه الروايات إنما هي حجة تثبت كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وتؤكد من ناحية أخرى حجية قرآنيتها، وكونها جزءاً من سورة الفاتحة، أما أصل ثبوت قرآنيتها وكونها من الفاتحة فمن النقل للتواتر لها في المصاحف التي نقلتها هذه الأمة جيلا بعد جيل مجمعة على صحتها ولو كان ثبوت قرآنية البسملة متوقفا على تواتر أحاديث تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تنص على أنها من الفاتحة أو من القرآن لتوقف ثبوت قرآنية أية آية من أية سورة على مثل ذلك وأنّي لأحد بذلك؟ وإنما ثبتت قرآنية البسملة بنفس ما ثبتت به قرآنية بقية الآيات وهو إثباتها في المصحف الإِمام بإجماع الصحابة رضى الله عنهم، وتواتر النقل جيلا بعد جيل لكل ما اشتمل عليه ذلك المصحف من سور وآيات بما في ذلك البسملة، وأعجب من كلام القرطبي قول ابن العربي: " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يُختلف فيه، وهو مقال في منتهى الخطورة لمصادمته الإجماع القطعي، فإن البسملة مجمع على أنها جزء آية من سورة النمل، ولا يصح سلب شيء من سور القرآن صفة القرآنية بحال، ولو جاز ذلك لجاز أن تسلب آية الكرسي أو غيرها صفة القرآنية في بعض المواضع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولعل من أحسن ما قيل في هذا الموضوع ما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسيره " المنار ": إن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوى، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جداً جداً، وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإِمام القطعي المتواتر، والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات آحادية أو بنظريات جدلية، وأصحاب الجدل يجمعون بين الخث والسمين، وبين الضدين والنقيضين، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره وربما يظهر عليه المبطل بخلابته إذا كان الحن بحجته " وهو كلام نفيس جداً، وقد قال قبله: " ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يُكفر، فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي تقدمت وبيّنا ضعفها وسنزيده بيانا والشبهة تدر أحد الرده " وأنكر على الألوسي دعواه أن ثبوت البسملة بخط المصحف المتواتر دليل على كونها من القرآن دون كونها من الفاتحة وقال: هو من تمحل الجدل فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحتها التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها، إنه لقول واهٍ تبطله عباداتهم وسيرتهم، وينبذه ذوقهم لولا فتنة الروايات والتقليد. فتعارض الروايات اغتربه أفراد مستقلون، وبالتقليد فتن كثيرون " ولله في خلقه شئون " وابدى السيد رشيد رضا استغرابه من اضطراب الألوسي في هذه المسألة، فقد حكم وجدانه، واستفتى قلبه في بعض فروعها فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة وخالفه في كونها آية منها، وقال لا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول، وإن أمكنني بفضل الله توجيهه، كيف وكتب الحديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإِمام - يعني إمامه أبا حنيفة - وأبدى الألوسي استشكالا في حاشيته على تفسيره ووصفه بأنه إشكال كالجبل العظيم، وأجاب عنه بما لا يروي من ظمأ ولا يشبع من مسغبه، ووجه الإِشكال أن القرآن لا يثبت بالظن ولا يُنفي به، فكيف يمكن الجمع بين إثبات المثبتين ونفي النافعين للبسملة، وحكى إجابة ارتضاها عن هذا الإشكال ملخصها أن حكم البسملة كحكم الحروف المختلف فيها بين القرّاء السبعة، فهي قطعية الإِثبات والنفي معاً، ولهذا اختلف القرّاء فأثبتها بعض وأسقطها آخرون وإن اجتمعت المصاحف على الإِثبات ومثل لذلك بالصراط ومصيطر فقد قُرِءا بالسين ولم يُكتبا إلا بالصاد، وبقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ }** [سورة التكوير: 24] فإنه كتب بالضاد وقٌرىء بها وبالظاء، وأطال السيد محمد رشيد رضا في الرّد عليه وتفنيد كلامه ومما قاله " إن الإِشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم هو في نفسه صغير حقير، ضئيل قميء، خفي كالذرة من الهباء، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يُرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض أو كالعدم المحض، ثم أخذ يجيب عن الإِشكال الذي فرضه الألوسي وملخص جوابه أنه لم ينفِ أحد من القرّاء كون البسملة من الفاتحة نفيا صريحا تعضده رواية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كل ما يتعلق به النافون شبهة عدم رواية بعض القرّاء لها وشبهة تعارض الروايات الآحادية السالفة الذكر، وثبوتها قطعي بالروايات المتواترة تواتر سائر آيات الفاتحة، وعدم نقل الإِثبات للشيء ليس نفيا له رواية ولا دراية، وقد فرق العلماء بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه كما هو معلوم بالضرورة، ولو فُرض أنه رُوى التصريح بالنفي لكان الواجب الجزم ببطلان هذه الرّواية، ومنشؤه التباس نفي الإِثبات بإثبات النفي لاستحالة كون المتناقضين قطعيين معاً، ورواية الإِثبات لا يمكن فيها الطعن، كيف وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية، وأعصى على التأويل والاحتمال، ثم ردّ السيد محمد رشيد رضا على القائلين بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة، وملخص رده أنه مجرد رأي أريد به الجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة، والجمع بغيره مما لا إشكال فيه ممكن، فلو كان المراد بها الفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة وهي أول القرآن ترتيبا، ولم تحذف من أول براءة لوجود العلة المقتضية للإِثبات، ثم تعقب الجواب الذي نقله الألوسي وقال: لا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين، ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال، ثم قال عن الخلاف بين القرّاء في مثل السراط والصراط ومسيطر ومصيطر وضنين وظنين إنه ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أُبَى وهو الذي وُزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ولكل منهما معنى، وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج ثم قال عن السراط والصراط ومسيطر ومصيطر لا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب، وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة وتسهيلها، ومن الإِمالة وعدمها فلا تنافي بين هذه القراءات فيعد إثبات إحداهما نفيا لمقابلتها كما هو بديهي على أن خط المصحف أقوى الحجج، فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ولكن لا تعارض ولله الحمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا ما قاله السيد رشيد رضا في هذه المسألة وهو ناتج عن عمق فهمه وتوقد ذكائه ولعل الذين يقولون أن البسملة أنزلت للفصل بين السور يستدلون بما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انتهاء السورة - حتى ينزل عليه { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. ولكن ليس في الحديث ما يدل على أنها تنزل استقلالا للفصل وإنما غاية ما فيه أن كل سورة تنزل كانت تصدر بالبسملة فيستدل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاء السورة التي قبلها واستقباله سورة جديدة تنزل بعدها، ولو كانت لمجرد الفصل لما أثبتت في أول الفاتحة - كما ذكرناه عن صاحب المنارْ - لعدم تقدمها بسورة قبلها. هذا ويرى جماعة من العلماء الجمع بين روايات الجهر والإِخفاء بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى " رحمن " - فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم.. وقد قال في مجمع الزوائد إن رجاله موثقون، وقال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، واعتمده القرطبي والنيسابوري في الجمع بين الروايات، ويرى السيد محمد رشيد رضا أن ترك الجهر كان في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة، والجهر فيما بعده، وفي نفسي من هذه الرواية ما يجعلني غير واثق من صحتها وذلك لأمرين: أولهما أن مسيلمة الكذاب لم يشتهر قبل الهجرة ولا فى أوائلها، وإنما اشتهر بالتنبؤ بعد ذلك، وعندئذ لقب برحمن اليمامة فيبعد أن يستخف المشركون بمكة المكرمة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمعونه يذكر الرحمن، معلقين عليه بأنه يقصد مسيلمة. ثانيهما: لو كان صنيع المشركين هذا داعيا إلى إخفاء البسملة لئلا يسمعوا اسم " الرحمن " فيهزأوا به لكان ذلك يستدعى إخفاء هذا الاسم في كل آية من الكتاب بما في ذلك قول الحق تعالى في الفاتحة { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنب إعلان اسم الرحمن خشية استخفاف المشركين على أن هذا الاسم الكريم كثيرا ما كان يرد في القرآن المكي كقوله تعالى في سورة الإسراء: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** وقوله في " طه "**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** وقوله في الفرقان**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }** [الفرقان: 59 - 60] وقوله في سورة الرحمن**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ }** [الرحمن: 1- 2]. وإذا اتضح لك أن الراجح كون البسملة آية من الفاتحة ومن سائر السور إلا براءة، ووجوب تلاوتها في الصلاة مع الجهر بها في القراءة الجهرية فاعلم أنه لم يقل أحد من أصحابنا ولا من غيرهم بتكفير أو تفسيق المخالف في هذه المسألة، والذين يقولون بخلاف قولنا يتفقون معنا على عدم تكفير أو تفسيق من يخالفهم اللّهم إلا ما يذكر عن أبي بكر الرازي من أن أقل ما في المسألة تفسيق المخالف وقد رد عليه العلامة أبو مسلم رحمه الله في (نثاره) بما يكفي حجة للمستبصر. من فوائد افتتاح الأعمال باسم الله والافتتاح ببسم الله الرحمن الرحيم فيه تعليم للناس بأن يفتتحوا أعمالهم ببسم الله، وهذا يعني أن تكون أفعالهم في حدود شرع الله لا تتجاوزه فتبقى دائرة في حدود الواجب والمندوب والمباح، كما أن في ذلك تعليما للناس بأن أعمالهم كلها لازنة لها في كفة الدين ما لم يقصد بها وجه الله سبحانه، والعبد عندما يفتتح أي عمل باسم الله يشعر أن عمله محكوم بشرع الله فليس له أن يتصرف كما يملى عليه هواه، وقد شهر عند الناس الافتتاح بأسماء الأشخاص والمؤسسات لقصد التنويه بها والإِشادة بذكرها والإِشعار بأن العَمل المفتتح ذو صلة بالمؤسسات أو الأشخاص المذكورة أسماؤهم، والمسلم عندما يفتتح باسم الله يعلن شرعيه عمله وهذا يتضح في مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح، لأن ذبح الحيوان إيلام له وهو قبيح في العقل، لولا أن الله سبحانه خالق الحيوان ومالكه أباح في شرعه ذبح بعض الحيوانات والانتفاع بلحومها، فالذابح عندما يذكر اسم الله يعلن أن ذبحه تعديا من قبل نفسه وإنما هو بمقتضى الإِباحة الشرعية ممن خلقه وخلق ذلك الحيوان. مباحث العلماء في البسملة وفي قول الحق سبحانه { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } مباحث كثيرة عني بها المفسرون في تفاسيرهم بحسب اختلافهم في العلوم التي يعنون بها، فالنحويون تهمهم المباحث الإِعرابية، والبلاغيون يعتنون بالمباحث البيانية، والفقهاء يعتنون بمسائل الفقه، وأول ما بدىء به " الباء " وهي تأتي لمعان ليست كلها سائغة هنا وإنما يسوغ منها معنيان وهما الاستعانة والمصاحبة.. أما الاستعانة فقد رجحها طائفة من المفسرين والنحويين منهم الزمخشري وعولوا على مجموعة من الحجج منها حديث | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء "** ، وتكلف الألوسي رد جميع حجج هؤلاء حجة حجة والانتصار لقول الفريق الأول ولست أجد كبير فائدة في هذا الاختلاف حتى أبحث ما هو الراجح من الرأيين؟ وإنما أتعجب من القرطبي في زعمه أن الباء للقسم، وأن المقسم عليه أن كل ما جاءت به السورة التي تلى البسملة هو حق من عند الله، وأعجب منه نسبة القرطبي هذا القول إلى العلماء مع أنه نفسه حكى الاختلاف في متعلق الباء هل هو خاص أو عام وهو مما ينافي كونها للقسم على أنه يتبادر للإِنسان حالما يتلو بسم الله الرحمن الرحيم أن المراد بها غير القسم، وحاصل الاختلاف في متعلق الباء أن بعض العلماء يراه خاصا توحى به قرائن الأحوال فالقارىء عنما يتلو { بسم الله } يقصد أقرأ بسم الله، والذابح يقصد كذلك أذبح باسم الله، والداخل يقصد أدخل باسمه، والخارج يقصد أخرج باسمه، وهكذا في الكتاب، والمسافر، وكل من يعمل عملا يبتدئه باسم الله تعالى، وبعضهم يراه عامًّا ويقدره " أبتدىء " سواء في القراءة أو الكتابة أو الذبح أو أي شىء آخر، والذين يقدرونه خاصًّا يستدلون له بالتصريح به في قول الله تعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }** [العلق: 1- 2] وأنت ترى أن كلا الوجهين ينافيان ما ذكره القرطبي أن الباء للقسم، ولو كانت للقسم لقُدر المتعلق إما أُقسم أو أحلف، ولم يذكر شيئا من ذلك القرطبي، ولم ينسبه إلى أحد، ومن العلماء من يرى أن المتعلق فعل أمر تقديره اقرأ وهو خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كل قارىء، والظاهر من كلام الإمام ابن جرير أنه يميل إلى هذا الرأى، فقد ذكر بعد إيراده عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والبسملة، وهذا يُفهم منه أن مراده اقرأ باسم الله، والاختلاف في جعل المتعلق خاصا أو عاما يرجع إلى الاختلاف في وجهات نظر العلماء المختلفين، فالذين قدروه خاصا راعوا ضرورة استحضار العمل الذي يقترن البدء فيه بالبسملة، ويقول ابن جرير:- " إن ذلك يجري مجرى الأشياء التي تعرف من غير أن تذكر، كقول القائل:- خبزا في جواب ماذا أكلت؟ فإنه يُعْلم بالضرورة أنّ مراده أكلت خبزا، وكقول المهنئين بالزواج: " بالرفاء والبنين " فإن المراد واضح وهو تزوجت أو اقترنت بالرفاء والبنين، وكذلك عندما يقرأ القارىء ويتلو { بسم الله } يعرف بالضرورة أن مراده باسم الله أقرأ، وعندما يصنع الصانع ويتلو { بسم الله } يعلم بالضرورة أن مراده باسم الله أصنع.. وهكذا، والذين قدروه عامٌّا نظروا إلى مجيء البسملة في أول الأقوال والأفعال وجعلوه دليلا على أن المراد التبرك بها في الافتتاح، وللفريقين نقاش طويل وبحوث واسعة لا نجد جدوى في إيرادها هنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما كثر الخلاف فيه الاسم والمسمى، هل هما شىء واحد أو شيئان؟ وقبل التعرض لخلافهم يجدر بنا أن نحدد معنى الاسم. يرى ابن سيده أن الاسم هو اللفظ الموضوع على الجواهر أو العرض، ويقول الراغب: هو ما يعرف به ذات الشيء وأصله، ويرى أبو حيان أن الاسم هو اللفظ الذي يدل بمقتضى الوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير أن يقترن جوهره بزمان، ويرى السيد رشيد رضا أن الاسم هو اللفظ الذى يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح، وتخصيص ابن سيده للإسم بما وُضع على الجواهر والأعراض يمنع من شمول تعريفه لأسماء الله الحسنى لأن ذات الله تعالى ليست جوهرا ولا عرضا، وكذلك تعريف الراغب له بأنه ما يعرف به ذات الشيء وأصله لا يصح اعتباره منطبقا على أسماء الله، فإن ذات الله - وهي حقيقته الخاصة - لا يعرفها أحد من خلقه كما هي، وإنما غاية ما يمكن التوصل إليه معرفة صفاتها، أما تعريف أبي حيان والسيد رشيد رضا فهما خاليان من الاعتراض، ومن خلال تأملنا لجميع هذه التعريفات يمكننا أن ندرك أن الاسم هو غير المسمى ذلك لأن الاسم لفظ يدل نطقا أو كتابة على المسمى، والمسمى حقيقة سواءا أكانت محسوسة أو معقولة، ومما يؤسف له أن كثيرا من العلماء أضاعوا جهودهم في بحث هذه المسالة ورد بعضهم على بعض بما لا طائل تحته، وقد تعجب الإِمام أبو حيان من هذا الاختلاف وهو جدير بأن يُتعجب منه، ولولا خشية اللّبس لضربت صفحا عن بحث هذه المسألة من أصلها، وإليك من تلخيصها وتحريرها ما يكفيك دليلا لتستبصر في مثل هذه المقامات التي كثيرا ما تنزلق فيها الأفهام. لا ريب أنك تدرك إذا أدرت لسانك على ذكر اسم شيء لا يحضر ذلك الشيء بعينه فلو ذكرت زيدا أو محمدا أو عامرا أو سعيدا لحصل لك ذكر الإسم دون المسمى وإلا للزم أن تروى غلتك إذا ذكرت اسم ماء بلسانك وأنت ظمآن، وأن تحترق لسانك بمجرد ذكرك لاسم النّار، ومع ظهور ذلك بداهة فإن جماعة من العلماء أصروا على أن الاسم هو عين المسمى ومن هؤلاء ابن الحصار والقرطبي والألوسي ونسبه الرازي إلى الأشعرية والكرامية والحشوية ولم يكتفوا بالوقوف عند هذا الحد، بل أخذوا يشنعون على مخالفيهم، فالقرطبي ينسب قولهم إلى أهل الحق ومفهومه أن قول مخالفيهم هو قول أهل الباطل، بل صرح ابن الحصّار بأن القول الآخر هو قول أهل البدعة، ولم يأُل الألوسي جهدا في الانتصار لقولهم هذا مستندا إلى فلسفات متنوعة ليست من القرآن ولا من السنة في شيء، وفي مقابل هؤلاء نجد الإمام ابن جرير الطبري والفخر الرازي وابن القيم والسيد محمد رشيد رضا يخالفونهم تمام المخالفة ويعدون القول بأن الاسم هو عين المسمى من الأخطاء التي أوقع أصحابها فيها قلة فهمهم لمقاصد النصوص، ولقطب الأئمة رحمه الله كلام في (هيميانه) يفيد تعذر كون الإسم هو المسمى، وحمل كلام أصحابنا بأن أسماء الله هي ذاته على أن مرادهم بذلك مدلول أسمائه، ونحوه مَا أفاده نور الدين السالمي رحمه الله في مشارقه، ومنشأ اللبس الذي سبب الخلاف أن القائلين بأن الإِسم هو عين المسمى رأوا أن الله تعالى أمر بذكره وتسبيحه في آيات من الكتاب وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى فقد قال عز من قائل: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }** [المزمل: 8]**{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }** [الإنسان: 25]**{ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً }** [الحج: 40]**{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }** [الأنعام: 118]**{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ }** [الأنعام: 119]**{ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ }** [الحج: 36] وقال سبحانه:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً.. }** [الأحزاب: 41- 42]**{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ }** [البقرة: 198]**{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }** [البقرة: 200]**{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. }** [آل عمران: 191]**{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلاَةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }** [النساء: 103] ونحوه قوله في التسبيح:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }** [الأعراف: 206] وقوله:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ }** [الأعلى: 1]**{ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }** [الواقعة: 74] وقال تعالى:**{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }** [المؤمنون: 14]**{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ }** [الفرقان: 1]**{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }** [الرحمن: 78] وقد دعاهم هذا إلى الجمع بين هذه الآيات بأن يجعلوا الاسم عين المسمى، وأن يجعلوا ذكر الله وتسبيحه وذكر اسمه وتسبيح اسمه واحدا لأن اسمه عين ذاته، والصواب - كما يقول صاحب المنار - أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه الله بالتفكر في سورة آل عمران حيث قال:**{ ٱلَّذِينَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. }** وقال:**{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }** [الكهف: 24] كما يطلق الذكر على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان له، وذكر اللسان للاسم دون المسمى كما هو الشأن في سائر الأسماء فإذا قال قائل نار، لا تقع النار على لسانه فتحرقه، وإذا قال الظمآن ماء لا يجري الماء على فيه فيروي ظمأه - كما ذكرنا من قبل، فالمراد من ذكر الله بالقلب تذكر جلاله وعظمته وكبريائه ونعمه والمراد من ذكره باللسان ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها، وهكذا يقال في التسبيح فالقلب واللسان يشتركان في التسبيح وإنما تسبيح القلب اعتقاد كما له وتنزهه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، وتسبيح اللسان إضافة التسبيح إلى أسمائه، ولو لم ينطق بكلمة اسم، ويدل على ذلك ما أخرجه الإِمام الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه لما نزل قول الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }** [الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم: **" اجعلوها في ركوعكم "** ولما نزل قوله:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ }** قال: **" اجعلوها في سجودكم "** ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حيان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه **" سبحان ربي العظيم "** وفي سجوده **" سبحان ربي الأعلى "** فظهر من هذا كله أن الاسم غير المسمى وأن ذكر كل منهما مشروع والفرق بينهما ظاهر وكذلك يقال في التسبيح والتبارك فكما يعظم الحق سبحانه يعظم اسمه الكريم فلا يذكر إلا مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس، وقد صرحوا أن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر، لأنه لا يمكن أن يصدر ذلك من مؤمن. وهذا ملخص تحرير صاحب المنار لهذه المسألة وهو منتهى الوضوح وفي غاية التحقيق. ومما تعلق به القائلون بأن الاسم عين المسمى قول لبيد: | **إلى الحق ثم اسم السلام عليكما** | | **ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر** | | --- | --- | --- | فقد قال القرطبي: استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى، واستدل أبو عبيدة معمر بن مثنى بالبيت على أن اسم صلة زائدة أقحمت في بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الأصل بالله الرحمن الرحيم، وهو كلام مردود، فإن اعتبار شيء من كلمات القرآن مقحما أمر لا يخلو من سوء أدب مع كلام الله تعالى، أما البيت فقد أجاب عنه ابن جرير بجوابين: أولهما أن مراد لبيد به: عليكما اسم الله أي ألزمناه فقدم المفعول على اسم الفعل فرفعه كما هي القاعدة ألا ينصب اسم الفعل المفعول به إن تقدمه. ثانيهما أن مراده بقوله: ثم اسم السلام عليكما ثم بركة اسم السلام عليكما، كما يقال في ما يقصد تعويذه اسم الله عليه، والقول باتحاد الاسم والمسمى نسبه غير واحد إلي سيبويه من أئمة اللغة العربية وخطَّأ صاحب صاحب المنار هذه النسبة معولا على ما قاله ابن القيم في (بدائع الفوائد) ما قال نحوي قط ولا عربي أن الاسم عين المسمى، وللفخر الرازي في تفسيره نقاش طويل يدحض به شبه القائلين باتحادهما نرى الاستغناء عنه بما ذكرناه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكلمة اسم على وزن فعل حسب أصلها وأصلها عند البصريين سمُوٌ مأخوذة من السمو لأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه، وقيل لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به، وقيل بأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره، وأصله عند الكوفيين وسِمٌ، مأخوذ من السَّمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، وعلى الرأي الأول هو محذوف اللام على وزن إفعٌ سكنت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل في ابتداء الكلام، وعلى الثاني هو واوى الفاء حذفت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل ووزنه إعلٌ، ويدل للأول تصريفه فإنه يصغر على سُمي لا على وُسيم ويجمع على أسماء لا على أوسام، والتصريف يرد الكلمات إلى أصولها، وإنما كانت نظرة الكوفيين مبنية على أن المراد من وضع الأسماء للمُسميات أن تكون علامة ودليلا عليها، ولم ينظروا إلى تصريف الكلمة بينما البصريون عولوا على التصريف مع نظرهم إلى أن الاسم يظهر بمسماه والظهور في حقيقته سمو وارتفاع. وفي إضافة اسم إلى لفظ الجلالة خلاف، هل هي للعهد أو للجنس الذي يُحمل على الاستغراق؟ وهو مبني على أن الإِضافة تأتي لما تأتي له أل من المعاني، وعلى الأول فالمقصود اسم معهود من أسماء الله، والأجدر أن يكون اسم الجلالة لشيوعه وذيوعه، وعلى الثاني فالمراد الافتتاح بجميع أسماء الله الحسنى، والأولى أن تكون الإِضافة هنا البيان، ووصف اسم الجلالة هنا بالرحمن الرحيم يؤكد ذلك، وإنما كان الافتتاح باسم الجلالة دون غيره لأن جميع الأسماء تابعة له فلذلك يوصف بها ولا توصف به، وفي افتتاح الكلام باسمه تعالى تفخيم له وتعظيم من شأنه، وهذا مما جرت به العادة عند الناس كما أشرنا من قبل، فهم عندما يريدون أن يفتتحوا مشروعا جديرًا بالعناية يفتتحونه باسم شخص مشهور كسلطان أو أمير أو باسم مؤسسة ذات شأن.. ويعني ذلك أنه لولا صاحب الاسم لم يفتتح المشروع، وبما أن القرآن الكريم جاء لتطهير العقيدة من جميع أدران الشرك ولوثات الزيغ فإنه علمنا كيف نخص اسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح الأقوال والأعمال، وهذا لأن العبد عندما يقول { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يعلن براءته من الحول والطول وعدم قدرته على أى عمل إلا بعون الله كما يعلن أن قيمة العمل تكون يقدر الإِخلاص لله سبحانه، وفي الافتتاح باسمه تعالى إضفاء صفة شرعية على العمل المفتتح، ومن ثم قال العلماء " إن الأعمال غير المشروعة لا تفتتح باسم الله، ولأجل ذلك كرهوا افتتاح دواوين الأشعار بالبسملة لما يكون فيها من المجون والأقوال المجانبة للحق، فالشعراء هم كما وصفهم الله بقوله:**{ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ }** [الشعراء: 224 - 227] وفي هذا الاستثناء مَا يدل على أن الشعر إن كان خالصا من الشوائب، بَعِيدا عن المنكرات، لا يمنع من افتتاح ديوانه بالبسملة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { ٱلله } اسم خاص لا يُطلق إلا على رب العالمين، وقالوا في تعريفه: هو علم على ذات واجب المستحق لجميع المحامد لذاته، واختلف في أصله، فالجمهور يرون أن أصله إله، فحذفت الهمزة وعُوض عنها الألف واللام وأُدغمت اللام في اللام ثم فُخمت، ولأجل أن الألف واللام للتعويض اجتمعتا مع حرف النداء ولا تجتمع أداة التعريف في غير هذا الاسم مع يا إلا مقرونة بأي، وأصل إله ألَه بمعنى عبد عند ابن جرير وجماعة من علماء العربية والتفسير وعضده ابن جرير بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ**{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ }** [الأعراف: 127] وفسره بمعنى عبادتك، وذكر علماء العربية أن ألَه كعبد وزنا ومعنى، يقال ألَهَ إلهَةً وألوهةّ وأُلوهية كعبد عبادة وعبودية وعبودة، وقيل أصله ألِه على وزن سمع بمعنى تحير لأن العقول تتحير في معرفته سبحانه، ويرد على هذا أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى في المشتق والحيرة إنما هي في العباد، وقبل أصله من ألِهَ بمعنى فزع لأن الخلق يفزعون إلى الله سبحانه**{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }** [المؤمنون: 88] وقيل من ألِهَ بمعنى سكن لأن النفوس تسكن إليه تعالى**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** [الرعد: 28] وقيل هو مأخوذ من وَلِهَ بمعنى تجبر فيكون على هذا أصل إله ولاه وإنما أُبدلت الهمزة واواً كما قيل في وشاح إشاح، وقيل غير ذلك، وهذه الأقوال كلها مبنية على التخمين الذي لا يشفي غليلا، والظاهر أن اسم الجلالة غير مشتق والألف واللام فيه ليستا للتعريف فإن هذا الاسم الكريم هو أعرف المعارف فليس بحاجة إلى أن تجتلب له أدّاه تعريف والقول بعدم اشتقاقه محكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي مع حكاية القول الآخر عنه وذكر بعض المؤلفين أن الخليل رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال رحمني بقولي إن اسم الجلالة غير مشتق، ولابن مالك النحوي الشهير في المقام تحرير " ما أظن أنَّ شبهة تبقى معه لمدعى اشتقاق هذا الاسم الكريم وأن أصله إله، وحاصل ما يقوله أنه يكفي في رد دعوى القائلين بالاشتقاق أنهم ادعوا ما لا دليل عليه، لأن الله والإِله مختلفان لفظا ومعنى أما لفظا فلأن الله عينه حرف علة والإِله صحيح العين واللام وإنما فاؤه همزة فهما من مادتين، وردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف، وأما معنى فلأن الله لم يطلق في جاهلية ولا إسلام على غير الحق تبارك وتعالى وأما الإِله فأصل وضعه لمطلق المعبود ولكنه خص بالمعبود بحق، ومن قال أصله الإِله لا يخلو من أمرين، إما أن يقول أن حذف الهمزة كان ابتداء ثم اُدغمت اللام، أو يقول إن حركتها أُزيلت وأُلقيت إلى اللام قبلها ثم حذفت على القياس، والأمران باطلان أما الأول فبطلانه لأجل دعوى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من اسم ثلاثي ولا يصح أن يقاس هذا الحذف على الحذف في يد وما شابهه لأن الحذف في باب يد في الأواخر، ويترخص فيها ما لا يترخص في فاء الكلمة ثم لا يقاس على الحذف في باب عدة لأن الحذف فيه محمول على الحذف في المضارع من بابه وهو يعد، ولا على رِقة بمعنى ورق لمشابهته عدة وزنا وإعلالاً، ولولا أنه بمعناه لأُلحق بباب لثه وهو الثنائي المحذوف اللام، وأما (ناس) فأصله أُناس، فالناس من نَوسْ والأناس من الأنس، ولو سُلِّمَ أن أصلهما واحد فالحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا داعٍ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الثاني فبطلانه لاستلزامه مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له، (الثاني) نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، (الثالث) الرجوع إلى تسكين المنقول إليه الحركة وهو يبطل النقل لأنه يعود عملاً كلا عمل، وهو مستقبح في كلمة فكيف بالكلمتين، (الرابع) إدغام المنقول إليه في ما بعد الهمزة وهو مجانب للقياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت، فإدغام ما قبلها في ما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في الإِدغام الكبير الفصل بواجب الحذف كالياء في نحو (يَبْتَغِ غَيْرَ) فلم يدغم. فاعتبار غير واجب الحذف أولى والذين يزعمون أن أصله إله يقولون: إن الألف واللام عوض من الهمزة، ويرده أن المعوض والمعوض عنه لا يحذفان معا وقد حذفت الألف في قول الشاعر: | **لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب** | | **عنى ولا أنت ديّاني فتخزوني** | | --- | --- | --- | وقالوا: (لهي أبوك) فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء، وهذا يدل أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي، ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عند ابن مالك، هذا ملخص كلامه وهو منتهى الجودة ولكن لعل خصومه يجدون في قول الله تعالى:**{ لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }** [الكهف: 38] حجة يستندون إليها في الرد عليه في إنكاره إدغام ما قبل الهمزة فيما بعدها، اعتبارا للمحذوف في حكم الثابت سواء كان واجب الحذف أو جائزه فإن كثيرا من أئمة التفسير والعربية نصوا على أن الأصل { لَكِنَّ انا هو الله ربي } فحذفت ألف أنا وأدغمت نون لكن في نونها، وممن نص على ذلك ابن جرير والزمخشري غير أن لابن مالك أن يقول كما يقول أبو حيان في (البحر المحيط) بأن ذلك غير متعين لإِمكان أن تكون (لَكنَّ) مشددة هنا وحذف اسمها وهو ضمير وهو ضمير المتكلم أي (لكنني أنا هو الله ربي) كما حذف اسمها ضميرا في قول الشاعر: - | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **وترمينني بالطرف أي أنت مذنب** | | **وتقلينني لكن إياك لا أقلي** | | --- | --- | --- | فأصله (لكنني)، وفي قول الآخر:- | **فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي** | | **ولكن زنجيٌّ عظيم المشافر** | | --- | --- | --- | على رفع زنجي وتقديره (ولكنك زنجي). واختلفوا في الفرق بين الإِله والله، فالسيد السند يرى أنهما علم لذاته تعالى، ولكن إله يطلق على غيره تعالى، والله لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال السعد: " إن الإِله اسم لمفهوم كلى هو المعبود بحق، والله علم لذاته، وقال الرضى هما قبل الإِدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإِدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وأنت تدري أنه إذا أُطلق اسم الجلالة لم يتبادر إلى ذهن أي أحد من أي ملة كان إلا أنَّ المراد به الحي الدائم خالق كل شيء، وأما الإِله فهو يطلق على المعبود وإنما خص في الإِسلام بالمعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولذلك إذا أطلقه غير المسلم قد يتبادر أن المراد به غير الله تعالى والله سبحانه قد حكى في كتابه عن المشركين قولهم**{ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }** [ص: 5] كما حكى عنهم قولهم**{ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ }** [ص: 6] وقولهم**{ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا }** [الفرقان: 42] ولم يحك عنهم ما يدل على أنهم يطلقون اسم الجلالة على غيره تعالى بل حكى عنهم ما يدل على أنهم يخصونه به سبحانه فقد قال تعالى:**{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }** [لقمان: 25] وفي هذا ما يدل على اختلاف مفهوم الكلمتين عندهم فالإِله هو المعبود والله هو الخالق القادر على كل شيء، وإنما انحصر معنى الإِله عند المسلمين في الله سبحانه لأنه المعبود بحق، وكل ما يعبد سواه فهو معبود بباطل، وبهذا يتضح أن الإِله معناه كلي ينحصر في فرد، ولو لم يكن كذلك لما كان قول الموحد " لا إله إلا الله " توحيداً إذ لو كان المعنى المتبادر من اللفظين واحدا من أول الأمر لكان ذلك بمثابة قول القائل " لا إله إلا إله " وفي هذا ما يؤيد رأي ابن مالك في أن كل واحد من اللفظين مستقل وضعا. ومن أغرب ما قيل أن هذا الاسم الكريم ليس بعربي الأصل وهو رأي لا يلتفت إليه ولعل من قال به حيره اختلاف العلماء فيه هل هو مشتق أو غير مشتق؟ وما هو أصل اشتقاقه فلم يستطع أن يخلص من ذلك إلا إلى القول بأنه أعجمي الأصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما علمية هذا الاسم فقد استُدل عليها بوجوه: - أولها: أنه يوصف ولا يوصف به، قال الله تعالى:**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }** [البقرة: 255] وقال:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }** [الحشر: 22- 24] وأما قراءة { صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱللَّهِ } في سورة إبراهيم بالجرّ فمحمولة على البيان. ثانيهما: أنه لا بد من اسم تُجرى عليه صفاته، فإن كل ما تتوجه إليه الأذهان ويُحتاج إلى التعبير عنه وقد وُضِعَ له اسم، سواء كان توفيقا أو اصطلاحيا، فمن المستحيل أن يُهمل الخالق تعالى الذي هو مصدر الأشياء جميعا، فلا يكون له اسم يجري عليه ما يُعزى إليه، وأسماء غيره لا تصلح له لانفراده تعالى بكونه واجب الوجود لذاته غير مماثل لشيء من مخلوقاته، ولا يصح أن يكون اسم جنس معرَّفا لأنه غير خاص وضعا، وكذلك لا يصح أن يكون علما منقولا من الوصفية، لأنه يستدعى أن لا يكون في الأصل مما تجري عليه الصفات. ثالثهما: أنه لو كان وصفا لجاز اتصاف غيره بأصل ذلك الوصف ولو كان مجازا إن كان من الصفات التي تجري على المخلوقين كالعلم والقدرة والمشيئة والحياة والسمع والبصر، وذلك يمنع الاكتفاء به في التوحيد نحو (لا إله إلا العالم القدير السميع العليم) لإِمكان أن يراد غير الله تعالى بهذه الصفات لعدم تعذر إطلاقها على غيره بخلاف اسم الجلالة لاختصاصه به سبحانه. ولسبب اختصاص الله تعالى بهذا الاسم الكريم وكونه علما على ذاته صرف جميع خلقه عن التسمى به، ولم تحدث أحدا نفسه - وإن كان من أعتى العتاه - أن يتسمى به أو يسمى به غيره، فلو سُئل أحد من أهل الجاهلية: هل اللات هي الله؟ أو العُزّى أو مناة؟ لأنكر ذلك، ومن ثم قال غير واحد من أئمة التفسير وغيرهم إنَّ هذا الاسم هو المراد في قوله سبحانه:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] أما الإِله فلم يكن الناس في جاهليتهم يتورعون من وصف غير الله به، لأن أصله لمطلق المعبود، والإِسلام حصره في المعبود بحق كما ذكرنا فمن وصف به أي شيء غير الله تعالى فقد جعل لله ندّا، ولذلك أنكر القرآن تسمية المشركين أصنامهم آلهة، ويرى السيد محمد رشيد رضا أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها لا مجرد تسميتها، فقد سماها هو آلهة في قوله:**{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [هود: 101] قال ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية، وفي كلامه هذا نظر فإن الإِله لو لم يمنع شرعا إطلاقه على غير الله لما كان قول " لا إله إلا الله " توحيداً، ونجد في القرآن الكريم الإِنكار الذي يلي الإنكار على من يصف غير الله بالألوهية وقد تكرر ذلك في سورة النمل قال تعالى:**{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }** [النمل: 60]**{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }** [النمل: 62]**{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }** [النمل:61]**{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }** [النمل:64] وأما قوله:**{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ }** [هود:101] فليس فيه ما يدل على إقرار هذه التسمية لأنه مسوق مساق التهكم والاستخفاف بهم، وهؤلاء المشركون وإن استجابوا عبادة هذه الأشياء فإنما يعتبرون العبادة وسيلة إلى الله فإنهم يقولون:**{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ }** [الزمر: 3] أما لو سئلوا هل خلق شيء من هذه الأصنام التي يعبدونها شيئا من هذه الكائنات لأجابوا بالنفي، بدليل قوله تعالى:**{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }** [لقمان:25]. { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } صفتان لله تعالى اشتقاقهما من الرحمة وهي انفعال نفسي يحمل صاحبه على الإِحسان إلى غيره وهو محال على الله بحسب المعنى المعروف في البشر لأنه في البشر ألم يلم بالنفس لا يشفيه إلا الإِحسان، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، وإنما يحمل وصف الله تعالى بالرحمة على أثرها وهو الإِحسان ومثل هذا مألوف عند العرب، وكون صفتي " الرحمن الرحيم " مشتقتين من الرحمة هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن " الرحمن " اسم وليس بصفة وأنه غير مشتق لأنه لو كان مشتقا من الرحمة لجاز اتصاله بالمرحوم فيقال: الله رحمن بعباده كما يقال رحيم بعباده، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعته إذ لم يكونوا ينكرون رحمة بهم، وقد قال الله عنهم:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }** [الفرقان: 60] واستدل ابن العربي بقولهم " وما الرحمن " ولم يقولوا ومن الرحمن على أنهم جهلوا الصفة دون الموصوف واعترضه ابن الحصار محتجا عليه بقوله تعالى:**{ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ }** [الرعد: 30] ويؤيد رأي الجمهور ما رواه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "** وليس في عدم اتصاله بذكر المرحوم ما يدل على عدم الاشتقاق فإنه استدلال سلبي قي مقابلة الدليل الثبوتي، وإنكار العرب للرحمن ناشيء عن تعنتهم في الكفر وإصرارهم على التكذيب وإلا فقد كانوا غير جاهلين به، كيف! وقد ورد في أشعارهم كما ذكره ابن جرير، ومنه قول أحد الجاهلية الجهلاء: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **ألا ضربت تلك الفتاة هجينها** | | **ألا قضب الرحمن ربي يمينها** | | --- | --- | --- | وقول سلامة بن جندب الطهوي: - | **عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم** | | **وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق** | | --- | --- | --- | ومما يستغرب ما نسبه ابن الأنباري إلى المبرد وأبو إسحاق الزجّاج إلى أحمد بن يحيى أن اسم الرحمن عبراني وليس بعربي، واستدل لذلك بقول جرير: | **لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم** | | **بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا** | | --- | --- | --- | | **أو تتركون إلى القسين هجكرتكم** | | **ومسحكم صلبهم رحمان قربانا** | وليس في ذلك ما يدل على عبرانيته، إذ لا يلزم من استعمال أهل الكتاب له - لوصح - ألا يكون عربيا ولعل القائلين باسمية " الرحمن " يستدلون بالإِسناد إليه في نحو قوله تعالى:**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** [طه: 5]**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ }** [الرحمن: 1- 2] وهذا لا ينافي وصفيته لأنه وإن كان صفة مشتقة فهو مختص بالله تعالى والصفات يسند إليها كثيرا وإن لم تكن مختصة فما بالك بالمختص؟ واختصاصه بالله هو رأي الجمهور وحملوا قول الشاعر بني حنيفة في مسيلمة: - | **سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا** | | **وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا** | | --- | --- | --- | على التعنت بالكفر. واختلف في الفرق بين { الرحمن } و { الرحيم } فالجمهور على أن { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } وهو مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وأورد الزمخشرى من هذا الباب نكتة لطيفة وذلك أنه ذكر أنه كان في طريقه إلى الحجار فوجد محملا أكبر بقليل عن محامل تستعمل في العراق يسمى الواحد منها " الشقدف " فسأل أعْرابيا عن اسم المحمل الذي رآه فقال له أليس ذلك يدعى الشقدف؟ قال له: بلى.. قال: فهذا الشقنداف، واستظهر منه الزمخشري أن طول الإسم لكبر المسمى، وهذه القاعدة غير مطرده، فإن حَذِرا أبلغ من حاذر وحروفه أقل، وبناء على ما يقوله الجمهور قيل: إن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم و { الرحيم } هو المنعم بدقائقها وقيل أن { الرحمن } هو المنعم بنعم شاملة تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر و { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة، ومتعلق هذا القول قوله تعالى { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } وانتقد الأستاذ الشيخ محمد عبده هذين القولين وقال: " كل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة { الرحمن } تدل على كثرة الإِحسان الذي يعطيه سواءً كان جليلا أم رقيقا وأما كون أفراد الإِحسان التي يدل عليه اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإِحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معنى ولا مراد، وقد قارب من قال: إن { الرحمن } المحسن بالإِحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول { الرحيم } بالمؤمنين. وقيل { الرحمن } رحمن الدنيا والآخرة " والرحيم " رحيم الآخرة، وهو كسابقيه لا يستند إلى دليل، ولعل عدم ظهور الحجة في التفرقة التي زعموها كان هو السبب في قول جماعة من المفسرين كالمحلِّي والصَّبَان: إن الاسمين الكريمين بمعنى، وإنما جيىء بالثاني تأكيداً للأول، وانتقد الإِمام محمد عبده هذا الرأي قائلا: " ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة، نسأل الله أن يسامح صاحبها " ثم قال: " وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وُضع لذلك ومعناه هو التأكيد، وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها، فالباء في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }** [النساء: 79، 166] تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها وهو معناها الذي وُضعت له، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإِعراب وكذلك معنى من في قوله:**{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }** [البقرة: 102] ونحو ذلك، أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه، كتكرار جملة**{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }** [الرحمن] ونحوها عقب ذكر كل نعمة وهي عند التأمل ليست مكررة، فإن معناها عند ذكر كل نعمة " أفبهذه النعمة تكذبان " ، وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو ويخلص الإِمام بعد هذا الرّد إلى اختيار القول باستقلال كلٍّ من لفظيّ { الرحمن } و { الرحيم } بمعنى، ويردّ استخراج المعنى الذي تدل عليه كل واحدة من اللفظتين إلى بنائها الحرفي، فالرحمن على وزن فعلان، وهذه الصّيغة تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال وهو مستمعل لغة في الصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان وشعبان، و { الرحيم } على وزن فعيل، وهذه الصيغة تستعمل لغة في المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا نحو سميع وبصير وعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن الكريم عندما يخبر عن صفات الله لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ، وإنما تعلو صفات الله عن مماثلة صفات المخلوقين، ومن هنا يرى الأستاذ أن " الرحمن " يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النعم على الخلق والإِحسان إليهم، وأن { الرحيم } يدلّ على مصدر هذه الرحمة ومنشأ هذا الإِحسان، وهو بهذا يثبت أن { الرحمن } صفة فعلية، و { الرحيم } صفة ذاتية ثابتة له تعالى، ويؤكد بهذه التفرقة أنه لا يُسْتَغْنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون مجيء الثاني لمجرد تأكيد الأول، ويرى أن العربي إذا سمع وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه مفيض النعم، وواهب الإِحسان بالفعل لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن صادرا عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، ولكن عندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بجلال الله ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفة ثابتة، وهي الرحمة التي يكون عنها أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليكون برهانا عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ورأي الإِمام في التفرقة بين الرحمن والرحيم يتفق مع الجويني الذي حكى عنه الألوسي بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر، وفعيلاً لمن ثبت منه الفعل ودام، وابن القيم يرى عكس ذلك فهو يرى أن الرحمن صفة ذاتية لله تعالى، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، ويستدل لذلك بقول الله تعالى:**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43]، إنه بهم رحيم، وعدم مجيء " الرحمان بهم " وأكّد رأيه بقوله: (فعلمت أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وعلى كلا الرأيين فإن اجتماع الوصفين الكريمين يؤدي إلى ما لا يحصل لو أُفرد أحدهما بالذكر) وللمفسرين أقوال في { الرحمن الرحيم } غير التي ذكرنا نرى الاستغناء عن ذكرها لعدم اعتضادها بحجة مقبولة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
البسملة اسم لكلمة باسم الله، صيغ هذا الاسم على مادَّةٍ مؤلفة من حروف الكلمتين باسم و الله على طريقة تسمى النَّحْت، وهو صوغ فعلِ مُضِيٍ على زنة " فَعْلَل " مؤلفةٍ مادِّتُه من حروف جملة أو حروفِ مركَّب إِضَافِيَ، مما ينطق به الناس اختصاراً عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. وقد استعمل العرب النحت في النَّسَب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسبِ إلى صدر ذلك أو إلى عَجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس - عَبْشَمِيّ - خشية الالتباس بالنسب إلى عبدٍ أو إلى شمس، وفي النسبة إلى عبد الدار - عَبْدَرِيّ - كذلك وإلى حضرموت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة أي النسَب إلى المضاف من الأسماء «وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسماً بمنزلة جَعْفَري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليُعْرَف» ا هـ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي | **قَومٌ على الإسلام لَمَّا يمنعوا ما عونَهم ويُضيِّعوا التَهْلِيلا** | | | | --- | --- | --- | أي لم يتركوا قول لا إلٰه إلا الله. وقال عُمر بن أبي ربيعة | **لقد بسملت ليلَى غداةَ لقيتُها ألا حَبَّذا ذاك الحبيبُ المُبَسْمِلُ** | | | | --- | --- | --- | أي قالت بسم الله فَرَقاً منه، فأصل بسمل قال بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول بسم الله الرحمٰن الرحيم، اكتفاء واعتماداً على الشهرة وإن كان هذا المنحوتُ خِليَّاً من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمٰن الرحيم، واشتق من فعل بسمل مصدر هو " البسملة " كما اشتق من هَلَّل مصدر هو " الهيللة " وهو مصدر قياسي لفعلل. واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول. ورأيت في «شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب» في باب الأذان عن المطرز في كتاب «اليواقيت» الأفعالُ التي نحتت من أسمائها سبعة بَسْمَلَ في بسم الله، وسَبْحَلَ في سبحان الله، وحَيْعَلَ في حي على الصلاة، وحَوْقَلَ في لا حول ولا قوة إلا بالله، وحَمْدَلَ في الحمدُ لله، وهَلَّل في لا إلٰه إلا الله، وجَيْعَل إذا قال جُعلت فِداك، وزاد الطَّيْقَلَة في أَطال الله بقاءك، والدَّمْعَزَةَ في أدام الله عزك. ولَما كان كثير من أيمة الدين قائلاً بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث. الأول في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا؟. الثاني في حكم الابتداء بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها. فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى**{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمٰن الرحيم }** النمل 30 كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام، وروي فيه حديث **" كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمٰن الرحيم فهو أقطع "** لم يروه أصحاب «السنن» ولا «المستدركات»، وقد وصف بأنه حسن، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان، وقد مضت في المقدمة الثامنة، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآناً، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في «البداية»، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة - وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة - إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة، وذهب عبد الله بن مبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، وأخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعَدَّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. وأَزِيدُ فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئاً عن القراءة. أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك أحدها من طريق النظر، والثاني من طريق الأثر، والثالث من طريق الذوق العربي. فأما المسلك الأول فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابَعَه أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» والقاضي عبد الوهاب في كتاب «الإشراف»، قال الباقلاني «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، والأول باطل لأنه لوثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأُمَّة، والثاني أيضاً باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولصار ذلك ظنياً، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف» ا هـ وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلافُ فيها، والقرآن لا يُختلف فيه ا هـ. وزاد عبد الوهاب فقال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن بياناً واحداً متساوياً ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمَل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بياناً شافياً» ا هـ. وقال ابن العربي في «العارضة» إن القاضي أبا بكر بن الطيب، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول. وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال «نُفي كون البسملة من القرآن أيضاً إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف أي وهو ظاهر البطلان وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنياً، قال ولا يقال إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فهٰهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا هـ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. وتعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به. وأما المسلك الثاني وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة الدليل الأول ما روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمٰن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول حمدني عبدي "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الخ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم الله الرحمٰن الرحيم. الثاني حديث أُبيّ بن كعب في «الموطأ» و«الصحيحين» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له **" ألا أعلمك سورة لم يُنْزَل في التوراة ولا في الإنجيل مثُلها قبل أن تخرج من المسجد "** قال بلى، فلما قارب الخروج قال له كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيٌّ فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة. الثالث ما في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» و«سنن النسائي» عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمٰن الرحيم، لا في أول قراءة ولا في آخرها. الرابع حديث عائشة في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» قالت كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءةَ بالحمد لله رب العالمين. الخامس ما في «سنن الترمذي والنسائي» عن عبد الله بن مغفل قال صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقول بسم الله الرحمٰن الرحيم، إذا أنت صليت فقل { الحمد لله رب العالمين }. السادس - وهو الحاسم - عمل أهل المدينة، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ بسم الله الرحمٰن الرحيم في الصلاة الجهرية، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر وبعضها سر، فقد حصل التواتر بأن النبي والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها. وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتبر مرفوعاً إلى النبي، وذلك قوله «ففَجِئَه الملَك فقال اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارىء ــــ إلى أن قال ــــ فغطني الثالثة ثم قال**{ اقرأ باسم ربك الذي خلق }** العلق 1 الحديث. فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمٰن الرحيم { اقرأ بسم ربك } ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي. وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما { الرحمٰن الرحيم } في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» وأجاب عنه بقوله إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأَنَا أَدْفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحماناً رحيماً، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرَّرَيْن بُعداً يقصيه عن السمع، وقد علمتَ أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، والقربُ بين الرحمٰن والرحيم حين كررا يمنع ذلك. وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد، فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضياً بذكر صفتي { الرحمٰن الرحيم } فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا بسم الله الحمد لله الخ. وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القولِ أَنْ تكون فواتح سور القرآن كلُّها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عد علماء البلاغة أَهَمَّ مواضع التأنق فاتحةَ الكلام وخاتمتَه، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يُدَّعَى أَن فواتح سوره جملةٌ واحدة، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام. وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال **" فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن { بسم الله الرحمٰن الرحيم } "** وقول أم سلمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعدَّ { بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين } آية. الثاني الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله. والجواب أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي، وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة، يعني أنه مقطوع، على أنه روى عنها ما يخالفه، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن { بسم الله } آية وحدها، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لانزاع فيه، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة. وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي»، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذٍ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحِبْر القرآن، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشياً. وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي؟ فقال كانت مدًّا ثم قرأ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } يمد { بسم الله } ويمد بالرحمٰن ويمد بالرحيم، ا هـ، ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة. وحجةُ عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال «بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذْ أغفَى إِغفَاءَةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال أنزلت عليَّ سورة آنفاً فقرأ بسم الله الرحمٰن الرحيم**{ إنا أعطيناك الكوثر }** الكوثر 1 السورة، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة. والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقديرَ أستعيذ باسم الله وحذَفَ متعلق الفعل، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنساً بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطراباً يوجب سقوطها. والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون الفصل مناسباً لابتداء المصحف، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن، وقد روى أبو داود في «سننه» والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال قلت لعثمان بن عفان «ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطراً بسم الله الرحمٰن الرحيم»، قال عثمان كان النبي لما تنزل عليه الآياتُ فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقُبِض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فظننتُ أنها منها، فمن هناك وضعتُها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمٰن الرحيم». وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غيرِ الأنفال وبراءةَ إلا حينَ جُمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير. وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غيرِ براءة، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط، أو ليست بآية من أول شيء من السور فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. ورووا ذلك عمن تلقَّوْا، فأما الذين منهم يروون اجتهاداً أو تقليداً أن البسملة آية من أول كل سورة غيرِ براءة، فأمرهم ظاهر، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تُعلَّل بالتيمن باقتفاء أثر كُتَّاب المصحف، أي قصد التشبُه في مجرد ابتداء فعل تشبيهاً لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمراً مستحباً للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطْق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور مِن آخر المفصَّل، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة، وهؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قولٌ لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب «الكشاف» والبيضاوي. واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورةٍ من أولها، أي في قراءة البسملة بين السورتين. فورد عن نافع في أشهر الروايات عنه وابنُ عامر، وأبو عمرو، وحمزة، ويعقوبُ، وخلف، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبُّه بفعل كتَّاب المصحف خاص بالابتداء، وبحملهم رسمَ البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة، فكان صنيعُهم وجيهاً لأنهم جمعوا بين ما روَوه عن سلفهم وبين دليلِ قصد التيمن، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة. وقالون عن نافع وابنُ كثير وعاصمٌ والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة، وعدوه من سنة القراءة، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كُتَّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها. واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفاً، ووجَّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة، وذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أن مُؤرِّجاً السَّدُوسي البصري سمع رجلاً يقول «أميرُ المؤمنين يَرُدُّ على المظلوم» فرجع مؤرج إلى مُصحفه فردَّ على براءة بسم الله الرحمٰن الرحيم، ويحمل هذا الذي صنعه مُؤَرج - إن صح عنه - نما هو على التمليح والهزل وليس على الجد. وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلاً كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة، وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير، فالقارىء يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء، كما يوضح تسامح صاحب «الكشاف» في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء. وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالباً في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشائخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سَبْق نافِعِ بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها لأن مالكاً تلقى أدلة نفيِ الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقاً علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل 30 | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمٰن الرحيم }** غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين. واعلم أن متعلق المجرور في { بسم الله } محذوف تقديره هنا أقرأ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فَحُذف متعلق المجرور فيها حذفاً ملتزماً إيجازاً اعتماداً على القرينة، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله**{ فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون }** الشعراء 44 وذكر صاحب «الكشاف» أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم «باسم اللاتِ باسم العُزَّى» فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفاً مستقراً مثل الظروف التي تقع أخباراً، وَدليل المتعلق ينبىء عنه العمل الذي شُرع فيه فتعين أن يكون فعلاً خاصاً من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلِّق العام مثل أبتَدِىء لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل، ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسماً نحو كائن أو مُستقر أم فعلاً نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخباراً أو أحوالاً بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها، ولأن مقصد المبتدىء بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارناً لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظاً دالاً على الفعل المشروع فيه. وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموماً، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به. وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمُعَرِّس «بالرفاء والبنين» وقول المسافر عند حلوله وترحاله «باسم الله والبركات» وقول نساء العرب عندما يَزفُفْنَ العروس «باليُمْنِ والبركة وعلَى الطائر الميمون» ولذلك كان تقدير الفعل هٰهنا واضحاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه، والحذف هنا من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله | **فإنك كالليل الذي هو مُدركي** | | | | --- | --- | --- | من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق. وإذ قد كان المتعلق محذوفاً تعين أن يقدر في موضعه متقدِّماً على المتعلِّق به كما هو أصل الكلام إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحَصر، ودعوى صاحب «الكشاف» تقديره مُؤخراً تعمق غير مقبول، لا سيما عند حالة الحذف، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل. والباء باء الملابسة والملابسة، هي المصاحبة، وهي الإلصاق أيضاً فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى**{ تنبت بالدهن }** المؤمنون 20 وقولهم «بالرفاء والبنين» وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها، قال سيبويه الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب «الكشاف» «وهذا الوجه أي الملابسة أعْرَبُ وأحسن» أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى. والاسم لفظ جُعِل دالاً على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها، وجعله أئمة البصرة مشتقاً من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به، وهذا اعتداد بالأصل والغالب، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فَجَارِ علم للفَجْرة. فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سِمْو بوزن حِمْل، أو سُمْو بوزن قفل فحذفت اللام حذفاً لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدراً على الحرف المحذوف كما في نحو قاضٍ وجَوارٍ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكناً نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطراً ثانياً من التخفيف وهوعود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيدٍ ودمٍ لا تخلو من ثِقل، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يدٍ ودمٍ وغدٍ. وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافِي وأَماني، وبأنه صُغِّر على سُمَي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأن الفعل منه سمَّيْت، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سُمىً كهدى لأنهم صاغوه على فُعَل كرُطَب فتنقلب الواو المتحركة ألفاً إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القَنَاني الراجز | **واللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبارَكاً آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكا** | | | | --- | --- | --- | وقال ابن يعيش لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سُم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصوراً، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورَأْيُ البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وِسْم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العَلامة، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمتَ وجه الجواب، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاماً ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة، وقد قال تعالى**{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }** النحل 43. وإنما أقحم لفظ اسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل بسم الله ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإلٰه الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى**{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }** الأنعام 118 وقال**{ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه }** الأنعام 119 وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ اقرأ باسم ربك }** العلق 1 فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى**{ فسبح باسم ربك العظيم }** الواقعة 74 أَمْرٌ بأن يقول سبحان الله، وقوله**{ وسبحه }** الإنسان 26 أمْرٌ بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله**{ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها }** هود 41 وفي الحديث في دعاء الاضطجاع **" باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه "** وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان الله**{ سبح اسم ربك الأعلى }** الأعلى 1 وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى**{ فاسجد له }** الإنسان 26 وقوله في الحديث **" اللهم بك نصبح وبك نمسي "** أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى { فاسجد له } { وسبحه } أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى بسم الله الرحمٰن الرحيم أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك. هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة | **نبئتُ زُرعة والسفاهةُ كاسمها يُهدى إليَّ غرائبَ الأَشعار** | | | | --- | --- | --- | يعني أن السفاهة هي لا تُعرَّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى**{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }** البقرة 143. أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحماً زائداً كما في قول لبيد | **إلى الحولِ ثم اسم السلام عليكُما** | | | | --- | --- | --- | يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصاً بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى**{ وألزمهم كلمة التقوى }** الفتح 26 وكذلك «لفظ» في قول بشار هاجياً | **وكذاك، كان أبوك يؤثر بالهُنَى ويظل في لَفْظِ النَّدى يتَرَدَّد** | | | | --- | --- | --- | وقد يطلق الاسم وما في معناه كنايةً عن وجود المسمى، ومنه قوله تعالى**{ وجعلوا لله شركاء قل سموهم }** الرعد 33 والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضعَ أسماء لهم. فهذه اطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحاً ليكون نظركم فيها فسيحاً فشدوا بها يداً ولا تتبعوا طرائق قدداً. وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى**{ الحمد لله رب العالمين الرحمٰن الرحيم }** الفاتحة 2، 3. ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمٰن الرحيم، قال البيضاوي إن المُسمِّي إذا قصَد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مُولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر عَلَم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمٰن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمٰن. وقال الأستاذ الإمام محمد عبده إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتابِ الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإلٰه الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك - إذ الناقل أمين - فهي نكتة لطيفة. وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه**{ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمٰن }** مريم 45، وقال**{ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً }** مريم 47 ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم. وحُكِي عنه قوله**{ وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم }** البقرة 128. وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ**{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمٰن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين }** النمل 30، 31. والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى**{ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل }** الحج 78. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
البَسْملة شرح الكلمات: البسملة: قول العبد: بسم الله الرحمن الرحيم. الإسم: لفظ جُعل علامة على مُسَمَّى يعرف به ويتميّز عن غيره. الله: إسم علم على ذات الربّ تبارك وتعالى يُعرف به. الرحمن: اسم من أسماء الله تعالى مشتق من الرحمة دال على كثرتها فيه تعالى. الرحيم: إسم وصفة لله تعالى مشتق من الرحمة ومعناه ذو الرحمة بعباده المفيضها عليهم في الدنيا والآخرة. معنى البسملة: ابتدىء قراءتي متبركا باسم الله الرحمن الرحيم مستعينا به عز وجل. حكم البسملة: مشروع للعبد مطلوبٌ منه أن يُبَسْمِل عند قراءة كل سورة من كتاب الله تعالى الا عند قراءة سورة التوبة فإنه لا يبسمل وان كان في الصلاة المفروضة يبسمل سراً إن كانت الصلاة جهرية. ويسن للعبد أن يقول باسم الله. عند الأكل والشرب، ولبس الثوب. وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الركوب. وعند كل أمر ذي بال. كما يجب عليه أن يقول بسم الله والله أكبر عند الذبح والنحر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
(1) - { بِسْمِ الله } الَّذِي لاَ مَعْبُودَ بِحقٍّ سِوَاهُ، المُتَّصِفِ بِكلِّ كَمَالٍ، المُنَزَّهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَهُوَ صَاحِبُ الرَّحْمَةِ الَّذِي يُفِيضُ بِالنِّعَم الجَلِيلَةِ عَامِّهَا وَخَاصِّهَا عَلَى خَلْقِه، وَهُوَ المُتَّصِفُ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ الدَّائِمَةِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ)
قوله: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } اعلم أنّ هذه الباء زائدة، وهي تسمّى باء التضمين أو باء الإلصاق، كقولك: كتبت بالقلم، فالكتابة لاصقة بالقلم. وهي مكسورة أبداً؛ والعلة في ذلك أن الباء حرف ناقص ممال. والإمالة من دلائل الكسر، قال سيبويه: لما لم يكن للباء عمل إلاّ الكسر كسرت. وقال المبرّد: العلّة في كسرها ردّها إلى الأصل، ألا ترى أنك إذا أخبرت عن نفسك فإنك قلت: بَيْبَيْت، فرددتها إلى الياء والياء أُخت الكسرة كما أن الواو أُخت الضمة والألف أُخت الفتحة، وهي خافضة لما بعدها فلذلك كسرت ميم الاسم. وطوّلت هاهنا وشبهت بالألف واللام؛ لأنهم لم يريدوا أن يفتتحوا كتاب الله إلاّ بحرف مفخّم معظّم. قاله القيسي. قال: وكان عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يقول لكتّابه: (طوّلوا الباء، وأظهروا السين، وفرّجوا بينهما، ودوّروا الميم تعظيماً لكلام الله تعالى). وقال أبو...... خالد بن يزيد المرادي: العلّة فيها إسقاط الألف من الاسم، فلما أسقطوا الألف ردّوا طول الألف الى الباء ليكون دالاًّ على سقوط الألف منها. ألا ترى أنهم لمّا كتبوا:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 1] بالألف ردّوا الباء إلى صيغتها، فإنما حذفوا الألف من (اسم) هنا فالكثرة دورها على الألسن عملا بالخفّة، ولمّا لم يكثر أضرابها كثرتها أثبتوا الألف بها. وفي الكلام إضمار واختصار تقديره: قل، أو ابدأ بسم الله. وقال آدم: الاسم فيه صلة، مجازهُ: بالله الرَّحْمن الرحيم هو، واحتجوا بقول لبيد: | **تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما** | | **وهل أنا إلاّ من ربيعةَ أو مضرْ** | | --- | --- | --- | | **إلى الحول ثم اسم السلام عليكما** | | **ومن يبكِ حولا كاملا فقد اعتذرْ** | أي ثم السلام عليكما. ومعناه: بالله تكوّنت الموجودات، وبه قامت المخلوقات. وأدخلوا الاسم فيه ليكون فرقاً بين المتيمِّن والمتيمَّن به. فأمّا معنى الاسم، فهو المسمى وحقيقة الموجود، وذات الشيء وعينه ونفسه واسمه، وكلها تفيد معنىً واحداً. والدليل على أن الاسم عين المسمّى قوله تعالى:**{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ }** [مريم: 7]، فأخبر أنّ اسمه يحيى، ثمّ نادى الاسم وخاطبه فقال:**{ يٰيَحْيَىٰ }** [مريم: 12]. فيحيى هو الاسم، والإسم هو يحيى. وقوله تعالى:**{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ }** [يوسف: 40] وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمّيات. وقوله تعالى:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ }** [الأعلى: 1]، و**{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ }** [الرَّحمن: 78]. وقوله صلى الله عليه وسلم: **" لَتَضْرِبَنَّ مُضَرُ عِبادَ اللهِ حتّى لا يُعبَد له إسمٌ "** أي حتى لا يعبد هو. ثم يقال: رأينا للتسمية اسم، واستعمالها في التسمية أشهر وأكثر من استعمالها في المسمّى، ولعل الاسم أشهر، وجمعه: أسماء، مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء، فحذفت الواو للاستثقال، ونقلت حركة الواو إلى الميم فأُعربت الميم، ونقل سكون الميم إلى السين فسكنت، ثم أُدخلت ألف مهموزة لسكون السين؛ لأجل الابتداء يدلّك عليه التصغير والتصريف يقال: سُميّ وسميّة؛ لأن كل ما سقط في التصغير والتصريف فهو غير أصلي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واشتقاقه من (سما) (يسمو)، فكأن المخبر عنه بأنه معدوم ما دام معدوماً فهو في درجة يرتفع عنها إذ وجد، ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه. والإسم الذي هو العبارة والتسمية للمخبر والصفة للمنظر. وأصل الصفة ظهور الشيء وبروزه، والله أعلم. فأمّا ما ورد في تفسيرها بتفصيلها فكثير، ذكرت جلّ أقاويلها في حديث وحكاية. أخبرنا الأستاذ أبو القاسم بن محمد بن الحسن المفسّر، حدّثنا أبو الطيّب محمد بن أحمد ابن حمدون المذكر، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، حدّثنا أحمد بن هشام الأنطاكي، حدّثنا الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عبّاس عن إسماعيل عن يحيى عن أبي مليكة عن مسعود بن عطيّة العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن عيسى بن مريم أسلمته أمّه إلى الكُتّاب ليتعلّم، فقال له المعلّم: قل باسم الله. قال عيسى: وما باسم الله؟ فقال له المعلّم: ما أدري. قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مملكة الله ".** وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا إسحاق بن ميثم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو يقول: سمعت أبا عبد الله ختن أبي بكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول في { بسم ٱلله }: إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة: فالباء على ستة أوجه: بارىء خلقه من العَرش الى الثرى، ببيان قوله:**{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }** [الطور: 28]. بصير بعباده من العرش الى الثرى، بيانه:**{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }** [الملك: 19]. باسط الرزق من العرش الى الثرى، بيانه:**{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ }** [الرعد: 26]. وباق بعد فناء خلقه من العرش إلى الثرى: بيانه:**{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ \* وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }** [الرَّحمن: 26-27]. باعث الخلق بعد الموت للثواب والعقاب، بيانه:**{ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ }** [الحج: 7]. بارّ بالمؤمنين من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:**{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }** [الطور: 28]. والسين على خمسة أوجه: سميع لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله تعالى:**{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }** [الزخرف: 80]. سيّد قد بلغ سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ }** [الإخلاص: 2]. سريع الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }** [البقرة: 202]. سلم خلقه من ظلمه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ }** [الحشر: 23]. غافر ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:**{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ }** [غافر: 3]. والميم على اثني عشر وجهاً: ملك الخلق من العرش إلى الثرى، بيانه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ }** [الحشر: 23]. مالك خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ }** [آل عمران: 26]. منّان على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ }** [الحجرات: 17]. مجيد على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ }** [البروج: 15]. مؤمّن آمن خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:**{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }** [سورة قريش: 4]. مهيمن اطّلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ }** [الحشر: 23]. مقتدر على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }** [القمر: 55]. مقيت على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً }** [النساء: 85]. متكرّم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ }** [الإسراء: 70]. منعم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:**{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }** [لقمان: 20]. متفضّل على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }** [البقرة: 251]. مصوّر خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:**{ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ }** [الحشر: 24]. وقال أهل الحقائق:..... في { بسم ٱلله } التيمّن والتبرّك وحثّ الناس على الابتداء في أقوالهم وأفعالهم بـ { بسم ٱلله } لمّا افتتح الله عزّ وجلّ كتابه به، والله أعلم. { ٱلله } ، اعلم أن أصل هذه الكلمة (إله) في قول أهل الكوفة، فأُدخلت الألف واللام فيها تفخيماً وتعظيماً لما كان اسم الله عزّ وجلّ، فصار (الإله)، فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسن، وحوّلت هويتها إلى لام التعظيم فالتقى لامان، فأُدغمت الأولى في الثانية، فقالوا (الله). وقال أهل البصرة: أصلها (لاه)، فأُلحقت بها الألف واللام، فقالوا: (الله). وأنشدوا: | **كحلفة من أبي رباح** | | **يسمعها الآهه الكبار** | | --- | --- | --- | فأخرجه على الأصل. وقال بعضهم: أُدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة المحذوفة في (إله)، فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة لو أُجريت على الأصل، ولهذا لم يدخل عليه في النداء ما يدخل على الأسماء المعرّفة من حروف التشبيه، فلم يقولوا: يا أيها الله. دفع أقاويل أهل التأويل في هذا الاسم مبنيّة على هذين القولين... ثمة، واختلفوا فيه؛ فقال الخليل بن أحمد وجماعة: (الله) اسم علم موضوع غير مشتق بوجه، ولو كان مشتقّاً من صفة كما لو كان موصوفاً بتلك الصفة أو بعضها، قال الله:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65]. (الله): اسم موضوع لله تعالى لا يشركه فيه أحد، قال الله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ، يعني: أن كل اسم مشترك بينه وبين غيره؛ له على الحقيقة ولغيره على المجاز إلاّ هذا الاسم فإنه مختص به لأن فيه معنى الربوبيّة. والمعاني كلها تحته، ألا ترى أنك إذا أسقطت منه الألف بقي لله، وإذا أسقطت من لله اللام الأولى بقي (له)، وإذا أسقطت من (له) اللام بقي هو. قالوا: وإذا أُطلق هذا الاسم على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: لاه كذا أو ينكر فيقال: لله كما قال تعالى إخباراً عن قوم موسى عليه السلام: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }** [الأعراف: 138]. وأما (الله)، و (الإله) فمخصوصان لله تعالى. وقال قوم: أصله (لاها) بالسريانية، وذلك أن في آخر أسمائهم مدّة، كقولهم للروح: (روحا)، وللقدس: (قدسا)، وللمسيح: (مسيحا)، وللابن: (ابنا)، فلما طرحوا المدّة بقي (لاه)، فعرّبه العرب وأقرّوه. ولا اشتقاق له، وأكثر العلماء على أنه مشتق؛ واختلفوا في اشتقاقه، فقال النضر بن إسماعيل: هو من التألّه، وهو التنسّك والتعبّد، قال رؤبة: | **لله در الغانيات المدّهِ** | | **سبحن واسترجعن من تألهي** | | --- | --- | --- | ويقال: أله إلاهة، كما يقال: عبد عبادة. وقرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) أي عبادتك؛ فمعناه عبادتك المعبود الذي تحقّ له العبادة. وقال قوم هو من (الإله)، وهو الاعتماد، يقال: ألهت إلى فلان، آلَهُ إلهاً، أي فزعت إليه واعتمدت عليه، قال الشاعر: | **ألهت إليها والركائب وقّف** | | | | --- | --- | --- | ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج، فهو يألههم، أي يجيرهم، فسمي إلهاً، كما يقال: إمام للذي يؤتم به، ولحاف ورداء وإزار وكساء للثوب الذي يلتحف به، ويرتدى به، وهذا معنى قول ابن عباس والضحّاك. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من (ألهت في الشيء) إذا تحيّرت فيه فلم تهتدِ إليه، قال زهير: | **..... يأله العين وسطها** | | | | --- | --- | --- | مخفّفة وقال الأخطل: | **ونحن قسمنا الأرض نصفين نصفها** | | **لنا ونرامي أن تكون لنا معا** | | --- | --- | --- | | **بتسعين ألفاً تأله العين وسطها** | | **متى ترَها عين الطرامة تدمعا** | ومعناه: أن العقول تتحيّر في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته، فهو إله كما قيل للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب. وقال المبرّد: هو من قول العرب: (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه، قال الشاعر: | **ألهت إليها والحوادث جمّة** | | | | --- | --- | --- | فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، قال الله تعالى:**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** [الرعد: 28]. وسمعت أبا القاسم الحسن: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القناد يقول: أصله من (الوله)، وهو ذهاب العقل لفقدان من يعزّ عليك. وأصله (أله) - بالهمزة - فأُبدل من الألف واو فقيل الوله، مثل (إشاح، ووشاح) و (وكاف، وإكاف) و (أرّخت الكتاب، وورّخته) و (ووقّتت، وأُقّتت). قال الكميت: | **ولهت نفسي الطروب إليهم** | | **ولها حال دون طعم الطعام** | | --- | --- | --- | فكأنه سمّي بذلك؛ لأن القلوب تولّه لمحبّته وتضطرب وتشتاق عند ذكره. وقيل: معناه: محتجب؛ لأن العرب إذا عرفت شيئاً، ثم حجب عن أبصارها سمّته إلهاً، قال: لاهت العروس تلوه لوهاً، إذ حجُبت. قال الشاعر: | **لاهت فما عرفت يوماً بخارجة** | | **يا ليتها خرجت حتّى رأيناها** | | --- | --- | --- | والله تعالى هو الظاهر بالربوبيّة [بالدلائل والأعلام] وهو المحتجب من جهة الكيفيّة عن الأوهام. وقيل: معناه المتعالي، يقال: (لاه) أي ارتفع. وقد قيل: من (إلا هتك)، فهو كما قال الشاعر: | **تروّحنا من اللعباء قصراً** | | **وأعجلنا الألاهة أن تؤوبا** | | --- | --- | --- | وقيل: هو مأخوذ من قول العرب: ألهت بالمكان، إذا أقمت فيه، قال الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **ألهنا بدار ما تبين رسومها** | | **كأن بقاياها وشام على اليدِ** | | --- | --- | --- | فكأن معناه: الدائم الثابت الباقي. وقال قوم: (ان يقال) ذاته وهي قدرته على الإخضاع. وقال الحارث بن أسد المجلسي، أبو عبد الله البغدادي: الله من (ألههم) أي أحوجهم، فالعباد مولوهون إلى بارئهم أي محتاجون إليه في المنافع والمضارّ، كالواله المضطرّ المغلوب. وقال شهر بن حوشب: الله خالق كل شيء، وقال أبو بكر الوراق: هو. وغلّظ بعض بقراءة اللام من قوله: (الله) حتى طبقوا اللسان به الحنك لفخامة ذكره، وليصرف عند الابتداء بذكره وهو الرب. { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، قال قوم: هما بمعنىً واحد مثل (ندمان، ونديم) و (سلمان، وسليم)، وهوان وهوين. ومعناهما: ذو الرحمة، والرحمة: إرادة الله الخير بأهله، وهي على هذا القول صفة ذات. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقوبة، (وفعل) الخير إلى من لم يستحق، وعلى هذا القول صفة فعل، يجمع بينهما للاتّساع، كقول العرب: جاد مجد. قال طرفة: | **فما لي أراني وابن عمي مالكاً** | | **متى أدنُ منه ينأ عني ويبعدِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **وألفى قولها كذباً ومينا** | | | | --- | --- | --- | وفرّق الآخرون بينهما فقال: بعضهم الرَّحْمن على زنة فعلان، وهو لا يقع إلاّ على مبالغة القول. وقولك: رجل غضبان للممتلئ غضباً، وسكران لمن غلب عليه الشراب. فمعنى (الرَّحْمن): الذي وسعت رحمته كل شيء. وقال بعضهم: (الرَّحْمن) العاطف على جميع خلقه؛ كافرهم ومؤمنهم، برّهم وفاجرهم بأن خلقهم ورزقهم، قال الله تعالى:**{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }** [الأعراف: 156]، و(الرحيم) بالمؤمنين خاصّة بالهداية والتوفيق في الدنيا، والجنة والرؤية في العقبى، قال تعالى:**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43]. فـ (الرَّحْمن) خاصّ اللفظ عامّ المعنى، و (الرحيم) عامّ اللفظ خاصّ المعنى. و (الرَّحْمن) خاص من حيث إنه لا يجوز أن يسمى به أحد إلاّ الله تعالى، عامّ من حيث إنه يشمل الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع والدفع. و (الرحيم) عامّ من حيث اشتراك المخلوقين في المسمّى به، خاص من طريق المعنى؛ لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق. وهذا قول جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه). الرَّحْمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة، وقول ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الدّقاق، حدّثنا الحسن بن محمد بن جابر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، أخبرنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: الرَّحْمن بأهل الدنيا، والرحيم بأهل الآخرة. وجاء في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وقال الضحّاك: الرَّحْمن بأهل السماء حين أسكنهم السماوات، وطوّقهم الطاعات، وجنّبهم الآفات، وقطع عنهم المطاعم واللذات. والرحيم بأهل الأرض حين أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وأعذر إليهم في النصيحة وصرف عنهم البلايا. وقال عكرمة: الرَّحْمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقتبسه من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي حدّثناه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، حدّثنا أبو هريرة وأحمد بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود ابن معاذ، أخبرنا عمير بن مروان عن عبد الملك أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة ".** وفي رواية أخرى: **" إن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فمكملها مائة يوم القيامة، يرحم بها عباده ".** وقال ابن المبارك: (الرَّحْمن: الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل غضب. يدلّ عليه ما حدّثنا أبو القاسم المفسّر، حدّثنا أبو يوسف رافع بن عبد الله بمرو الروذ، حدّثنا خلف ابن موسى: حدّثنا محمود بن خداش، حدّثنا هارون بن معاوية، حدّثنا أبو الملج وليس الرقّي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" من لم يسأل الله يغضب عليه "** ، نضمه الشاعر فقال: | **إن الله يغضب إن تركت سؤاله** | | **وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضب** | | --- | --- | --- | وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن محمد النسفي يقول: سمعت أبا عبد الله ـ وهو ختن أبي بكر الوراق ـ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول: (الرَّحْمن: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا، والرحيم بالآلاء وهي ما صرف وزوى). وقال محمد بن علي المزيدي: الرَّحْمن بالإنقاذ من النيران، وبيانه قوله تعالى:**{ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا }** [آل عمران: 103]، والرحيم بإدخالهم الجنان، بيانه:**{ ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ }** [الحجر: 46]. وقال المحاسبي: (الرَّحْمن: برحمة النفوس، والرحيم برحمة القلوب). وقال السريّ بن مغلس: (الرَّحْمن بكشف الكروب، والرحيم بغفران الذنوب). وقال عبد الله بن الجرّاح: (الرَّحْمن بـ..... الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق). وقال مطهر بن الوراق: (الرَّحْمن بغفران السيّئات وإن كن عظيمات، والرحيم بقبول الطاعات وإن كنّ [قليلات]). وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الرَّحْمن بمصالح معاشهم، والرحيم بمصالح معادهم). وقال الحسين بن الفضل: (الرَّحْمن الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر، والرحيم الذي يرقّ وربما لا يقدر على الكشف). وقال أبو بكر الوراق أيضاً: (الرَّحْمن بمن جحده والرحيم بمن وحّده، والرَّحْمن بمن كفر والرحيم بمن شكر، والرَّحْمن بن قال ندّاً والرحيم بمن قال فردا). في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟ واختلف الناس في أنّ التسمية؛ هل هي من الفاتحة؟ فقال قرّاء المدينة والبصرة وقرّاء الكوفة: إنها افتتاح التيمّن والتبرّك بذكره، وليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور، ولا تجب قراءتها وأن الآية السادسة قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة - رحمهم الله - ورووا ذلك عن أبي هريرة. أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن النيسابوري، حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكابلي، أخبرنا علي بن عبد العزيز الحلّي، حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، حدّثنا الحجاج عن أبي سعيد الهذلي عن..... عن أبي هريرة قال (أنعمت عليهم) الآية السادسة، فزعمت فرقة أنها آية من أمّ القرآن، وفي سائر السور فصل، فليست هاهنا أنها يجب قراءتها. [وقال قوم: إنها آية من فاتحة الكتاب] رووا ذلك عن سعيد بن المسيب، وبه قال قرّاء مكة والكوفة وأكثر قرّاء الحجاز، ولم يعدّوا { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية. وقال الشافعي والشعبي وهو رأي عبد الله أنها نزلت في الآية الأُولى من فاتحة الكتاب، وهي من كل سورة آية إلاّ التوبة. والدليل عليه الكتاب والسنة؛ أمّا الكتاب سمعت أبا عثمان بن أبي بكر الزعفراني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن موسى يقول: سمعت الحسن بن المفضّل يقول: رأيت الناس....... في النمل أن { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فيها من القرآن فوجدتها بخطها ولو أنها مكرّرات في القرآن، فعرفنا أماكنها منه بل حتى**{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }** [الرَّحمن: 13]،**{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }** [المرسلات: 15] لما كانا في القرآن كانت مكرّراتهما من القرآن. وبلغنا **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في بدء الأمر على رسم قريش: " باسمك اللهم " حتى نزلت: { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } [سورة هود: 41] فكتب: { بِسْمِ ٱللَّهِ } حتى نزلت: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [سورة الإسراء: 110] فكتب: " بسم الله الرَّحْمن " ، حتى نزلت: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [سورة النمل: 30]، فكتب مثلها فلمّا كانت..... هذه.... وحيث أن يكون.... منه ثم افتخر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية "** ، وحقّ له ذلك. حدّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوراق: أخبرنا أبو بكر أحمد بن اسحاق الفقيه حدّثنا محمد ابن يحيى بن سهل، حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا سلمة بن الأحمر عن يزيد بن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن أبي بريدة عن أبيه قال: **" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ ". فقلت: بلى. قال: " بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن؟ ". قلت: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فقال: " هي هي ".** وفي هذا الحديث دلّ دليل على كون التسمية آية تامّة من الفاتحة وفواتح السور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين لفظ الآية كلها، والتي في سورة النمل ليست بآية وإنما هي بعض الآية، وبالله التوفيق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأمّا الأخبار الواردة فيه، فأخبرنا أبو القاسم السدوسي، حدّثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا أبو سفيان المعمري عن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إن الفضل الرقاشي زعم أن { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ليس من القرآن؟ قال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } علم أن السورة قد ختمت وفتح غيرها ".** وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي: حدّثنا أبو محمد إسماعيل ابن عيسى الواسطي: حدّثنا عبد الله بن نافع عن جهم بن عثمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ " قال: أقول: الحمد لله رب العالمين. قال: " قل: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ".** وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو الحسين...، حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا أبو عبيد، حدّثنا عمر بن هارون البلخي عن أبي صالح عن أبي مليكة عن مسلمة **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ \* ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ \* ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ \* مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } "** يعني يقطّعها آية آية حتّى عدّ سبع آيات عدّ الأعراب. أخبرنا أبو الحسين محمّد بن أحمد، حدّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدّثنا محمد ابن جعفر، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدّثنا الحسين بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وكان يقول: " من ترك قراءتها فقد نقص ". وكان يقول: " هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم ". وأخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، حدّثنا جعفر بن حيّان عن عبد الملك بن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب. وقيل لابن عباس: أين السابعة؟ قال: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } وعدّها في يديه ثم قال: أُخرجها لكم، وما أجد فيها أمركم. أخبرنا [محمّد بن الحسين] حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدّثنا يزيد بن سنان، حدّثنا أبو بكر الحنفي، حدّثنا نوح بن أبي بلال قال: سمعت المقبري عن أبي هريرة أنه قال: إذا قرأتم أمّ القرآن فلا تبرحوا { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فإنها إحدى آياتها وإنها السبع المثاني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، حدّثنا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ، حدّثنا أحمد بن نصر، حدّثنا آدم بن إياس عن أبي سمعان عن العلا، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال الله: مجّدني عبدي، وإذا قال العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قال الله: فوّض إليّ أمره عبدي، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".** وأخبرنا علي بن محمد بن الحسن المقري، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد القصّار، حدّثنا محمد بن بكر البصري، حدّثنا محمد بن علي الجوهري، حدّثنا... حدثني أبو إسماعيل بن يحيى...، حدّثنا سفيان الثوري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: **" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه؛ إذ دخل رجل يصلّي، وافتتح الصلاة، وتعوّذ، ثم قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة، أما علمت أن { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته "** لا تكون الصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، ومن ترك آية فقد بطلت صلاته. وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد الجرجاني، حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن هشام، أخبرنا محمد بن يحيى، حدّثنا حكيم بن الحسين، حدّثنا سليمان بن مسلم المكّي عن نافع عن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من ترك { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فقد ترك آية من كتاب الله ".** وقد عدّها علي عليه السلام فيما عدّ من أمّ الكتاب. وأما الإجماع، فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الورّاق، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا علي بن المديني، حدّثنا عبدالوهّاب بن فليح،عن عبدالله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة يجهر فيها، ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } وقضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية: أنسيت أين { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الكلام في جزئية البسملة من باقي السور هذا في الفاتحة، فأما في غيرها من السور، فأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، أن أبا بكر بن حفص بن عاصم قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، وقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها. وما... النظر بآيات [السور] مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة. والمتشاكلة نحو ما في سورة القمر والرَّحْمن وأمثالهما، والمتقاربة قيل: في سورة**{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ \* بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ }** [ق: 1-2]، وما ضاهاها. ثم نظرنا في قوله: { قبلهم } ، فلم يكن من المتشاكلة ولا من المتقاربة، ووجدنا أواخر آي القرآن على حرفين: ميم ونون أو حرف صحيح قبلها نا مكسورة فأوّلها، أو واو مضموم ما قبلها، أو ألف مفتوح ما قبلها، ووجدنا سبيلهم هو هو مخالف لنظم الكتاب. هذا ولم نرَ غير مبتدأ آية في كتاب الله.... إذ يقول أيضاً: إن التسمية لا [تخلو]؛ إما أن تكون مكتوبة للفصل بين السور، أو في آخر السور، أو في أوائلها أو حين نزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، فلو كتبت للفصل لكتبت... وتراخ، ولو كتبت في الابتدا لكتبت في (براءة)، ولو كتبت في الانتهاء لكتبت في آخر**{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ }** [الناس: 1]. فلمّا أبطلت هذه الوجوه علمنا أنها كتبت حيث نزلت، وحيث لم تنزل لم تكتب. يقول أيضاً: إنا وجدناهم كتبوا ما كان غير قرآن من الآي والأخرى، أو خضرة، وكتبوا التسمية بالسواد فعلمنا أنها قرآن، وبالله التوفيق. حكم الجهر بالبسملة في الصلاة ثم الجهر بها في الصلاة سنّة لقول الله تعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 2] (فأمر) رسوله أن يقرأ القرآن بالتسمية، وقال:**{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ \* وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ }** [الأعلى: 14 و 15] فأوجب الفلاح لمن صلّى بالتسمية. وأخبرنا أبو القاسم [الحسن بن محمّد بن جعفر] حدّثنا أبو صخر محمد بن مالك السعدي بمرو، حدّثنا عبد الصمد بن الفضل الآملي، حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي بغوطة [دمشق] قال: صليت خلف المهديّ أمير المؤمنين فجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، فقلت: ما هذه القراءة يا أمير المؤمنين؟ [فقال: ] حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } "** ، قلت: أآثرها عنك؟ قال: نعم. وحدّثنا الحسن بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا أبو أحمد محمد بن قريش بن حابس بمرو الروذ إملاءً، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدّيري، حدّثنا عبد الرزاق عن عمر بن دينار، أن ابن عمر وابن عباس كانا يجهران بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. وحدّثنا الحسن بن محمد بن زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام، حدّثنا إسحاق ابن إبراهيم، أخبرنا خَيْثَمة بن سليمان قال: سمعت ليثاً قال: كان عطاء وطاووس ومجاهد يجهرون بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرَّحْمن المروزي، حدّثنا الحسن ابن علي بن نصير الطوسي، حدّثنا أبو ميثم سهل بن محمد، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي، عن عمّار بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة بـ بسم { ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يجهرون بها: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن صفوان. وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو نصر منصور بن عبد الله الاصفهاني، حدّثنا أبو القاسم الاسكندراني، حدّثنا أبو جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه قال: " اجتمع آل محمد على الجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل بالنهار، وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول وفي صاحبهما ". وبهذا الإسناد قال: سئل الصادق عن الجهر بالتسمية، فقال: " الحق الجهر به، وهي التي التي ذكر الله عزّ وجلّ:**{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }** [الإسراء: 46] ". وحدّثنا الحسن، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل، حدّثنا الحسين ابن أحمد بن الليث، حدّثنا محمد بن المعلّى المرادي، حدّثنا أبو نعيم عن خالد بن إياس عن سعيد ابن أبي سعيد المقرىء عن أبي هريرة قال: **" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل فعلمني الصلاة " ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبّر فجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ".** وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو الطيب محمد بن أحمد بن حمدون، حدّثنا الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن أيوب قالا: حدّثنا عقيل عن الزهري قال: من سنّة الصلاة أن تقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } في فاتحة الكتاب (فإن) لم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } لم يقرأ السورة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقال: إن أوّل من ترك { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } عمرو ابن سعيد بن العاص بالمدينة، واحتجّ من أنّ إتيان التسمية أنها من الفاتحة، والجهر بها في الصلاة بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطّان، حدّثنا محمد بن إبراهيم الجرجاني، حدّثنا إبراهيم بن عمّار عن سعيد بن أبي عروبة عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن إسماعيل العماريّ، حدّثنا يزيد بن أحمد بن يزيد، حدّثنا أبو عمرو، حدّثنا محمد بن عثمان، حدّثنا سعيد بن بشير، عن قتادة عن أنس، **" أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون، ويخفون { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ".** فعلم بهذا الحديث أنه لم ينفِ كون هذه الآية من جملة السورة، لكنه تعرّض لترك الجهر فقط، على أنه أراد بقوله: (لا يجهرون): أنهم لا يتكلفون في رفع الصوت ولم يرد الإسراء والتخافت أو تركها أصلا. ويدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام الوراق وعبد الله بن محمد بن عبد الرَّحْمن قالا: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا شريك، عن ياسر، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي ليلى، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } جهر بها صوته، فكان المشركون يهزؤون بمكّة ويقولون: يذكر إله اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، ويسمونه الرَّحْمن، فأنزل الله: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فيسمع المشركون فيهزؤون، { وَلاَ تُخَافِتْ } عن أمتك ولا تسمعهم { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } [الإسراء: 110] ".** واحتجّوا أيضاً بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا بشر ابن مطر [عن سفيان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة] عن أبيه عن قتادة عن أنس **" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } "** ، وإنما عنى بها أنهم كانوا يستفتحون الصلاة بسورة (الحمد)، فعبّر بهذه الآية عن جميع السورة كما يقول: قرأت { الحمد لله } و (البقرة)، أي سورة { الحمد لله } وسورة (البقرة). | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | .. أي رويناها نحكم على هذين الحديثين وأمثالهما وبالله التوفيق. قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ... على نفسه، نعيماً منه على خلقه. ولفظه خبر ومعناه أمر، تقريره: قولوا: الحمد لله. قال ابن عباس: يعني: الشكر منه، وهو من الحمد.... والحمد لله نقيض الذم. وقال ابن الأنباري: هو مقلوب عن المدح كقوله: جبل وجلب، و: بض وضبّ. واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر، فقال بعضهم: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة، تقول: حمدت الرجل، إذا أثنيت عليه بكرم أو [حلم] أو شجاعة أو سخاوة، ونحو ذلك. والشكر له: الثناء عليه أو لآله. فالحمد: الثناء عليه بما هو به، والشكر: الثناء عليه بما هو منه. وقد يوضع الحمد موضع الشكر، فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرته، ولا يوضع الشكر موضع الحمد، [فـ] لا يقال: شكرته على علمه وحلمه. والحمد أعمّ من الشكر؛ لذلك ذكره الله فأمر به، فمعنى الآية: الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: الحمد باللسان قولاً، قال الله:**{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً }** [الإسراء: 111]، وقال:**{ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ }** [النمل: 59] والشكر بالأركان فعلاً، قال الله تعالى:**{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }** [سبأ: 13]. وقيل: الحمد لله على ما حبا وهو النعماء، والشكر على ما زوى وهو اللأواء. وقيل: الحمد لله على النعماء الظاهرة، والشكر على النعماء الباطنة، قال الله تعالى:**{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }** [لقمان: 20]. وقيل: الحمد ابتداء والشكر.... حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظاً، حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي، حدّثنا محمد بن علي الترمذي، حدّثنا عبد الله بن العباس الهاشمي، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو (بن العاص) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده ".** وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه، حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي، حدّثنا علي بن حجر، حدّثنا شعيب بن صفوان عن مفضّل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن { الحمد لله } قال: كلمة شكر أهل الجنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى - ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ البداية نفسها التي أرادها الله تبارك وتعالى - وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }** [العلق: 1]. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية. ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن.. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: { ٱقْرَأْ }. واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان.. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه.. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه.. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب. وعندما قال جبريل: { ٱقْرَأْ }.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات.. جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول: { ٱقْرَأْ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أنا بقارئ.. ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة.. وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ. نقول إن الله تبارك وتعالى.. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلماً للبشرية كلها إلى يوم القيامة.. لأن كل البشر يعلمهم بشر.. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر.. يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ \* خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }** [العلق: 1-2]. أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله.. وسيكون ما تقرؤه وأنت النبي الأميّ إعجازا.. ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله:**{ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ \* ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [العلق: 3-4]. أي أن الذي ستقرؤه يا محمد.. سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض.. ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال:**{ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ }** [العلق: 3] مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم.. فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله.. لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك.. أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك.. يكون " أكرم ".. لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى. والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرؤه بسم الله، ومادام بسم الله.. فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله.. وعلمه فوق مستوى البشرية كلها. على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله.. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا.. ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه.. فالأمر لله علماً وقدرة ومعرفة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:**{ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }** [يونس: 16]. لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاماً وتنزيلاً وقراءة.. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله.. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزرع الأرض مثلا.. لابد أن نبدأ بسم الله.. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها.. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع. إن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع.. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله.. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع. والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار.. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء.. فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله، يبدؤه بسم الله الذي سخر له الأرض.. وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها.. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته.. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له.. والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك.. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها. الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي انسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا.. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:**{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ \* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }** [يس: 71-72]. وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا. يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون.. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمَنْ الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل.. إذن فكل شيء في الكون بسم الله.. هو الذي سخر وأعطى.. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار.. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى:**{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ \* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }** [الشورى: 49-50]. والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى.. هذا هو القانون.. ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله.. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق.. ولكنها إرادة خالق القانون.. إن شاء جعله يعمل.. وإن شاء يبطل عمله.. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها. وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل.. فهو قادر على أن يخرق القوانين.. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام.. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاج إليه.. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها.. وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها..**{ قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا }** [آل عمران: 37]. الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات.. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون.. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات مَنْ يحصل عليها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه.. وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها.. ولو سألت الأم الأب أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع.. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام. بماذا ردت مريم عليها السلام؟**{ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }** [آل عمران: 37]. إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون.. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة.. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها الا طلاقة القدرة.. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا.. هذه قضية ضد قوانين الكون.. لأن الإنجاب لا يتم الا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان.. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا.. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب.. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز.. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر.. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده.. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان.. ورزق زكريا بابنه يحيى. إذن كل شيء في هذا الكون بسم الله.. يتم باسم الله وبإذن من الله.. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.. أنت حين تبدأ كل شيء بسم الله.. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك.. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء بسم الله.. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى.. والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة.. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى قوته وإلى عونه وإلى رحمته.. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات.. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول بسم الله القوي وبسم الله الرازق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع.. إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها.. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله بسم الله بسم الله الجامع لكل هذه الصفات. على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده.. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله باسم الله.. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله.. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع.. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة.. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . بل الحياة الحقيقية هي الآخرة.. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية.. بقدر عطاء الله في الدنيا.. والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ }** [سبأ: 1]. لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا.. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة.. فلله الحمد في الدنيا والآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع ".** ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل.. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع.. لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك.. وحين لا تبدأ العمل بسم الله.. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا.. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة.. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. فأقبل على كل عمل بسم الله.. قبل أن تأكل قل بسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به.. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح.. عندما تدخل إلى بيتك قل بسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت.. عندما تتزوج قل باسم الله لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك.. في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله.. لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى.. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملاً يغضب الله بسم الله.. إذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر.. أو أن تفعل عملاً يغضب الله.. وتذكرت بسم الله.. فإنك ستمتنع عنه.. ستستحي أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله.. وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله. الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه باسم الله.. فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله.. والله هو الإله المعبود في كونه.. ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به.. ولا نقدم على ما نهى عنه.. فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة.. وبطاعته في افعل ولا تفعل.. وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به رباً وإلهاً.. والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى.. والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيها.. والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت.. فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله.. وقد عصيت وقد خالفت.. نقول اياك أن تستحي أن تقرأ القرآن.. وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت.. ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه بسم الله الرحمن الرحيم.. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي.. بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها.. ويطلب منه أن يتوب وأن يعود الي الله.. فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم.. فلا تقل أنني أستحي أن أبدأ بسم الله لأنني عصيته.. فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود إلى حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم.. فإذا قلت كيف أقول بسم الله وقد وقعت في معصية أمس.. نقول لك قل بسم الله الرحمن الرحيم.. فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه.. وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا. والرحمة والرحمن والرحيم.. مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه.. هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق.. بلا حول ولا قوة.. ويجد فيه كل ما يحتاج إليه نموه ميسرا.. رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل.. انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه.. وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته إليها.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي. **" أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمَنْ وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "** الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا.. ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر.. ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه.. ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم.. لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا.. نرفع أيدينا إلى السماء.. ونقول يا رب رحمتك.. تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا. وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله.. كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه.. فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا. على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة.. يقال راحم ورحمن ورحيم.. إذا قيل راحم فيه صفة الرحمة.. وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة.. وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة.. والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
مصدر بَسْمَلَ، أي قال: بسم الله، نحو: حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ، أي: قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، والحمد لله. وهذا شَبيه بباب النحت في النسب، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً، فينسِبون إليه كقولهم: حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس. قال: | **6ـ وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة** | | **كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً** | | --- | --- | --- | وهو غيرُ مقيس، فلا جرم أن بعضهم قال في: بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة، [قال الماوردي: يقال لمَنْ قال: بسم الله: مُبَسْمِل وهي] لغةٌ مُوَلَّدة وقد جاءَتْ في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة: | **7ـ لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها** | | **ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ** | | --- | --- | --- | وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة كـ ثعلب والمطرِّز. وبِسْم: جارٌّ ومجرور، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم، لأنَّ المعنى: أقرأ مستعيناً بالله، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها، وهي: الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً، نحو: مَسَحْتُ برأسي، مررْتُ بزيدٍ، والسببية: [نحو]**{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ }** [النساء: 160]، أي بسببِ ظلمهم، والمصاحبة نحو: خرج زيدٌ بثيابه، أي مصاحباً لها، والبدلُ كقوله عليه السلام: **" ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم "** أي بدلها، وكقول الآخر: | **8ـ فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا** | | **شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا** | | --- | --- | --- | أي: بَدَلَهم، والقسم: أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ، والظرفية نحو: زيد بمكة أي فيها، والتعدية نحو:**{ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }** [البقرة: 17]، والتبعيض كقول الشاعر: | **9ـ شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ** | | **متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ** | | --- | --- | --- | أي من مائه، والمقابلة: " اشتريتهُ بألف " أي: قابلتُه بهذا الثمنِ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى:**{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ }** [الفرقان: 25] أي عن الغمام، ومنهم مَنْ قال: لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو:**{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }** [الفرقان: 59] أي عنه، وقول علقمة: | **10ـ فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني** | | **خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ** | | --- | --- | --- | | **إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه** | | **فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ** | | --- | --- | --- | والاستعلاء كقوله تعالى:**{ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ }** [آل عمران: 75]. والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال. وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة، فالمطَّردةُ في فاعل " كفى " نحو:**{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ }** [النساء: 6]/ أي: كفى اللهُ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر: | **11ـ................................** | | **كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً** | | --- | --- | --- | وفي خبرِ ليس و " ما " أختِها غيرَ موجَبٍ بـ إلاَّ، كقوله تعالى:**{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ [عَبْدَهُ] }** [الزمر: 36]،**{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ }** [الأنعام: 132] وفي: بحَسْبكِ زيدٌ. وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ " كفَى " ، كقوله: | **12ـ فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا** | | **حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا** | | --- | --- | --- | أي: كَفانا، وفي البيت كلامٌ آخرُ، وفي المبتدأ غيرَ " حَسْب " ومنه في أحدِ القولين: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ }** [القلم: 6] وقيل: المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور، فعلى هذا ليست زائدةً، وفي خبر " لا " أختِ ليس، كقوله: | **13ـ فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ** | | **بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ** | | --- | --- | --- | أي: مُغْنياً، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو: | **14ـ وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ** | | **بِأعجلِهم، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ** | | --- | --- | --- | أي: لم أكنْ أعجلَهم، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله: | **15ـ فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ** | | **حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها** | | --- | --- | --- | وقولِ الآخر: | **16ـ دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه** | | **فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ** | | --- | --- | --- | أي: ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً، ولم يَجِدْني قُعْدَداً، وفي خبر " إنَّ " كقول امرئ القيس: | **17ـ فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها** | | **فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ** | | --- | --- | --- | أي: فإنك المجرِّب، وفي:**{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ }** [الأحقاف: 33] وشبهه. والاسمُ لغةً: ما أبانَ عن مُسَمَّى، واصطلاحاً: ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ، والتسميةُ: جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى. واختلف الناسُ: هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة، أجودُها: أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسميةُ غيرُ الاسم، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: باسم مُسَمَّى اللهِ. الثالث: أن لفظَ " اسم " زائدٌ كقولِه: | **18ـ إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما** | | **ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ** | | --- | --- | --- | أي: السلام عليكما، وقول ذي الرمة: | **19ـ لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ** | | **داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ** | | --- | --- | --- | وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب. واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش: ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك ". وقال قطرب: " زيد للإِجلال والتعظيم " ، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما. ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ، نحو: سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ، فتقديرُه: جاءني مسمَّى هذا اللفظِ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ: بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ، ومسجدُ الجامعِ: مسجدُ المكانِ الجامعِ. واختلف النحويون في اشتقاقه: فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على " أَسْماء " وتصغيرهم له على سُمَيّ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها، وتقولُ العَربُ: فلانٌ سَمِيُّك، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا، وأَسْمَيْتُه بكذا، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير: أَوْسام، وفي التصغير: وُسَيْم، ولقالوا: وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك. وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء. فإن قيل: قولُهم " أسماء " في التكسير و " سُمَيّ " في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ: أَوْسَاماً ووُسَيْماً، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام: أَسْماواً، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو. فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ. وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا؟ والجوابُ أن له فائدةً، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول: إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم، لا تأثيرَ لهم في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ. وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً وصفاتٍ وهو قول المعتزلة، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى. وفي الاسم خمسُ لغاتٍ: " اسم " بضم الهمزة وكسرها، و " سُِم " بكسر السين وضمها. وقال أحمد بن يحيى: " سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي، وعلى اللغتين قوله: | **20ـ وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ** | | **يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ** | | --- | --- | --- | | **مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ** | | | | --- | --- | --- | يُنْشَدُ بالوجهين، وأنشدوا على الكسر: | **21ـ باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ** | | | | --- | --- | --- | [فعلى هذا يكون في لام " اسم " وجهان، أحدُهما: أنها واو، والثاني: أنها ياء وهو غريبٌ، ولكنَّ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل. و " سُمَىً " مثل هُدَىً. واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر: | **22ـ واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً** | | **آثرك اللهُ به إيثارَكَا** | | --- | --- | --- | ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل: سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله: | **23ـ وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ** | | **ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما** | | --- | --- | --- | وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي: اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم. والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال. وقيل: ليوافقَ الخطُّ اللفظَ. وقيل لا حذفَ أصلاً، وذلك لأن الأصل: " سِمٌ " أو " سُم " بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ، [وهذا حكاه النحاس وهو حسن]، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ، نحو: باسم الرحمن، هذا هو المشهور، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو: بسمِ ربِّك، بسمِ الخالق. واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به، فعلٍ أو ما في معناه، إلا في ثلاثِ صور: حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما، وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه، وليس بشيء فإنها تتعلَّق. إذا تقرر ذلك فـ " بسم الله " لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف. واختلف النحويون في ذلك، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين: فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه، تقديره: ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة. وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ. وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه، والتقدير: ابتدائي كائنٌ باسمِ الله، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو: زيدٌ بمكةَ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر. وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله، قال: لأنَّ الأصلَ التقديمُ، والتقدير: أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله. ومنهم مَنْ قدَّر بعده: والتقدير: باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو، وإلى هذا نحا الزمخشري قال: " ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم: باسم اللات، باسم العُزَّى " وهذا حسنٌ جداً، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [القلم: 1]، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ ". وأجاب غيرُه بأنَّ بـ " اسم ربك " ليس متعلقاً بـ " اقرأ " الذي قبله، بل بـ " اقرأ " الذي بعده، فجاء على القاعدة المتقدمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون " اقرأ " الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل. واختلفوا أيضاً: هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه: اقرأ أنت باسم الله، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره: اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ. و " الله " في " بسم الله " مضافٌ إليه، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها. وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق، لاَ يُطلق على غيره، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ. قال الزمخشري: " كأنه صار عَلَماً بالغلَبة " ، وأمّا " إله " المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره، قال تعالى:**{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }** [الأنبياء: 22]،**{ وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ }** [المؤمنون: 117]،**{ [أَرَأَيْتَ] مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }** [الفرقان: 43]. واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟، والصوابُ الأولُ، وهو أعرفُ المعارف. يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [له]: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: خيراً كثيراً، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ. ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها، وقيل: لاتخاذِهِم إياها معبوداً، وعلى هذا قيل: " لَهْيَ أبوك " يريدونَ: للهِ أبوك، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام. وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ. وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر: | **24ـ ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى** | | **لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ** | | --- | --- | --- | قال: الأصلُ: لله إنك كريمٌ عليَّ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، فصار اللفظ: لَهْ، ثم أَلقى حركة همزة " إنَّ " على الهاء فبقي: لَهِنَّك كما ترى، وهذا سماجَةٌ من قائلِه. وفي البيت قولان أيسرُ من هذا. ومنهمَ مَنْ قال: " هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً. أي احتجَبَ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام، وفُخِّمت لامُه. ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا: فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها، وعلى كل تقدير: فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً، وكان الأصلَ: لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي: العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع، فمعنى " إله " أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه. ومنه قولُ رؤبة: | **25ـ لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ** | | **سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي** | | --- | --- | --- | أي: من عبادتِه، ومنه**{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ }** [الأعراف: 127] أي عبادتك. وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله: " كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات " وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر، ولهذا/ رُوي: " تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله " وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ، فأصلُ الجلالة الكريمة: الإِله، كقولِ الشاعر: | **26ـ معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ** | | **ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ** | | --- | --- | --- | ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس، والأصل أُناس كقوله: | **27ـ إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ** | | **ـنَ على الأُناس الآمِنينا** | | --- | --- | --- | فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم. أو نقول: إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه، وعلى ذلك قال بعض الحكماء: " الله محبوب للأشياءِ كلها، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى:**{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ }** [الإسراء: 44]، فأصله: وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء، والأصلُ: وِشاح ووِعاء، فصار الفظُ به: إلاهاً، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام، ويُعْزَى هذا القول للخليل، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه: فِعال، وهو بمعنى مَفْعول أي: مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب. وُردَّ قولُ الخليل بوجهين، أحدهما: أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ، ولم يَقُلْه أحد، ويقولون: إشاح ووشاح وإعاء ووعاء. والثاني: أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها، ولم يُجْمع " إله " إلا على آلهة. وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه، كما ستقف عليه، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل. وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً. وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم " لاهِ أبوك " ، والأصل: للهِ أبوك كما تقدم، قالوا: وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط " اللات " اسم الصنم، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: لئلا يُشَبَّه بخط " اللاه " اسمَ فاعل من لها يلهو، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ. وقيل: حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله، قال الشاعر: | **28ـ أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ** | | **يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ** | | --- | --- | --- | وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ، ولكنه يريد ما قلته. ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال. وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري. ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة: فمنهم مَنْ يُرَقِّقها، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه: " حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً ". ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو: لآَّل وسَآَّل، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ. ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله: " لاها " فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا: الله، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر: | **29ـ كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ** | | **يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ** | | --- | --- | --- | فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي. [ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب] قالوا: وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ: " لَهُ " ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة. ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه، إنما تُعَرِّفه صفاتُه، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه. وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به، فتقول: إله عظيم واحد، كما تقول: شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم، ولا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب. الرحمن الرحيم: صفتان مشتقتان من الرحمة، وقيل: الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم:**{ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }** [الفرقان: 60] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ، ولذلك لم يقولوا: وَمَنْ الرحمن؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة. وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن " الرحمن " بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة. واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ، كقوله تعالى:**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ }** [الرحمن: 1-2]**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** [طه: 5]. وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ، ألا تراهم قالوا:**{ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }** [الفرقان: 60] ولم يقولوا: وما اللهُ. انتهى. أمَّا قوله: " جاء غيرَ تابع " فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه، كقولِه تعالى:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ }** [فاطر: 28] أي نوع مختلف، وكقول الشاعر: | **30ـ كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها** | | **فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ** | | --- | --- | --- | أي: كوعلٍ ناطح، وهو كثير. والرحمة لغةً: الرقةُ والانعطافُ، ومنه اشتقاق الرَّحِم، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه. هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري. ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ، وقيل: الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ، وهذا القولُ هو الظاهرُ. وقيل: الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ، وعلى هذا رُوي: " الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف ". [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي: أكثرُ رحمة ". قال الخطَّابي: وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ. وقال الحسين بن الفضل: " هذا وَهْمٌ من الراوي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته " وقال عليه الصلاة والسلام: **" إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف "** ، ويؤيِّده الحديثُ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة. واختلف أهلُ العلمِ في " الرحمن الرحيم " بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم، ثم اختلف هؤلاء على قولين، فمنهم مَنْ قال: جُمِع بينهما تأكيداً، ومنهم مَنْ قال: لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه: الرحمنُ الرحيم، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط. وهذا ضعيفٌ جداً، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ. ومنهم مَنْ قال: لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال: " رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة " ، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط، ويُروَى: رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى. وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان، ثم اختلف هؤلاء أيضاً: فمنهم مَنْ قال: الرحمن أبلغُ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى، واختاره الزمخشري، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً، ولذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط، قال الزمخشري: " فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى، إلى الأعلى، كما يُقال: شُجاع باسل ولا يقال: باسِلٌ شجاع. ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف. ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال: " رحيم الدنيا وحمان الآخرة " لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن. لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ، وأثرُها فيها أظهرُ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة. والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ، فمبالغةُ " فَعْلان " من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ " فعيل " من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة. وقال أبو عبيدة: " وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل، نحو: رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول، قال: | **31ـ فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً** | | **فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ** | | --- | --- | --- | فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل. والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل. حكى ابنُ سِيده: " زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك ". والألفُ واللام في " الرحمن " للغلَبة كهي في " الصَّعِق " ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء، لقوله تعالى:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110]، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه، بخلاف " رحيم " فإنه يُطلق على غيره تعالى، قال [تعالى] في حَقَّه عليه السلام: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ بالمؤمنين رؤوف رحيم }** [التوبة: 128]، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى-: | **32ـ...................................** | | **وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا** | | --- | --- | --- | فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً، ولا يُلتفت لقوله: " لا زِلْتَ رَحْمانا " لشذوذه. ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب، ليس بعربيِّ الأصل، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [والمبرد وأنشد]: | **33ـ لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ** | | **بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا** | | --- | --- | --- | | **أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ** | | **ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا** | | --- | --- | --- | وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ، الذي عليه الجمهور: الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد. وفي هذه الكسرة احتمالان: أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ إعرابٍ، وقيل: يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر. والثاني من وَجْهَي الوصل: سكونُ الميمِ والوقفُ عليها، والابتداءُ بقطع ألف " الحمد " ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه عليه السلام. الثالث: حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ: الرحيمَ الحمدُ " بفتح الميم ووصل ألف الحمد، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة. قال ابن عطية: " ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [فيما علمت، " وهذا فيه نظرٌ يجيئ في:**{ الۤمۤ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 1-2] قلت: يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع]، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. وقد افتتح بها الصحابة كتاب الله، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام: **" كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمٰن الرحيم فهو أجذم "** فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: **" لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "** وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون، وتستحب عند الأكل لقوله عليه السلام: **" قل: بسم الله، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك "** ، وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: **" لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إنْ يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً ".** والمتعلق بالباء في قوله: { بِسمِ ٱلله } منهم من قدّره باسم تقديره: باسم الله ابتدائي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره: أبدأ باسم الله، أو ابتدأت باسم الله، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، فالمشروعُ ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى:**{ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا }** [هود: 41] ويدل للثاني في قوله تعالى:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }** [العلق: 1]. و { ٱلله } علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه (الاسم الأعظم) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى:**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }** [الحشر: 22] الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى:**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** [الأعراف: 180]، وقال تعالى:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ }** [الإسراء: 110]. وفي الصحيحين: **" إنّ لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة ".** وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم (الشافعي) و (الغزالي) و (إمام الحرمين) وقيل: إنه مشتقٌّ من أله يأله لاهةً، وقد قرأ ابن عباس { ويذرك وإلاهتك } أي عبادتك، وقيل: مشتقٌّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقٌّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلاّ إلى ذكره، الأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى:**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** [الرعد: 28]، قد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و { رحمٰن } أشد مبالغة من { رحيم } وزعم بعضهم أنه غير مشتق، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: **" أنا الرحمٰن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "** قال القرطبي: وهذا نصٌ في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب لاسم { الرَّحْمٰنِ } لجهلهم بالله وبما وجب له، وبناء فعلان ليس كفعيل، فإن (فعلان) لا يقع إلاّ على مبالغة الفعل نحو قولك (رجلٌ غضبان) للممتلىء غضباً، و (فعيل) قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال ابن جرير: { الرَّحْمٰنِ } لجميع الخلق، { الرَّحِيـمِ } بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى:**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمٰن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال:**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه الرحيم. فدلّ على أن { الرَّحْمٰنِ } أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و { الرَّحِيـمِ } خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى { الرَّحْمٰنِ } خاص لم يسم به غيره، قال تعالى:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110]، وقال تعالى:**{ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }** [الزخرف: 45] ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمٰن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا (مسيلمة الكذّاب) فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر. وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمٰن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فإن قيل: فإذا كان الرحمٰن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل: إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمٰن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بـ { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجّهه بذلك والله أعلم. والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم (الله) و (الرحمن) و (الخالق) و (الرازق) ونحو ذلك، وأما (الرحيم) فإن الله وصف به غيره حيث قال في حق النبي:**{ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }** [التوبة: 128]، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان:**{ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }** [الإنسان: 2]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قَوْلُهُ تَعَالَى { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قوله عَزَّ وَجَلَّ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. تعليمٌ منه سُبْحَانَهُ؛ ليذكُروا اسْمَهُ عند افتتاحِ القراءة وغيرِها؛ تبَرُّكاً به. ومعناهُ أبداً: { بِسمِ ٱلله }؛ لأنَّ حرف الباءِ مع سائرِ حروف الجرِّ لا يستغني عن فعلٍ مُضْمَرٍ أو مُظْْهَرٍ؛ فكان ضميرُ الباء في هذه الآية: الأَمْرُ. واختلفَ الناسُ في معنى اشتقاقِ الاسم؛ وأكثرُ أهلِ اللُّغَةِ على أنهُ مشتقٌّ من السُّمُوِّ؛ وهو الرِّفعةُ. ومعنى الاسمِ التنبيهُ على المسمَّى والدلالةُ عليه. وقال بعضُهم: مشتقٌّ من السِّمَةِ؛ وهي العلامةُ؛ فكان الاسمُ علامة للمسمَّى. وأمَّا { ٱلله } فقال بعضُهم: هو اسمٌ لا اشتقاقَ له؛ مثل قولِكَ: فرسٌ؛ ورجلٌ؛ وجبلٌ؛ ومعناه عند أهل اللِّسان: المستحِقُّ للعبادةِ؛ ولذلك سَمَّتِ العربُ أصنامَهم: آلِهَةً؛ لاعتقادهم استحقاقَها للعبادةِ. وقال بعضُهم: هو من قولِهم: ألَهَ الرجلُ إلى فلان يَأْلَهُ إلاَهَةً؛ إذا فَزِعَ إليه مِنْ أمرٍ نَزَلَ به؛ فآلَهَهُ أي أجَارَهُ وَأمَّنهُ. ويقال للمَأْلُوهِ إلَيْهِ: إلَهاً. كما قالوا للمُؤتَمَّ به: إمَاماً؛ فمعناه أن الخلائقَ يَأْلَهُونَ ويتضرَّعون إليه في الحوائجِ والشدائد. واختلفُوا في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } هل هي آيةٌ من الفاتحةِ؟ فقال قُرَّاءُ الكوفة: هي آيةٌ منها؛ وأبَى ذلك أهلُ المدينة والبصرة. وأما قولهُ { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فهما اسْمان مأخوذان من الرَّحمةِ؛ وزنُهما من الفعلِ نَدِيْمٌ ونَدْمَانٌ من المنادمةِ، وفَعْلاَنُ أبلغُ من فعيلِ، وهو من أبْنِيَةِ المبالغةِ. ولا يكونُ إلا في الصفات؛ كقولكَ: شبعانٌ وغضبان؛ ولِهذا كان اسمُ { الرَّحْمٰنِ } مختصّاً باللهِ لا يوصَفُ به غيره. وأمَّا اسم { الرَّحِيـمِ } فمشتركٌ. وعن عثمان رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: **" الرَّحْمَنُ الْعَاطِفُ عَلَى جَمِيْعِ خَلْقِهِ بإدْرَار الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ "** فالرحمةُ من الله تعالى الإنعامُ على الْمُحتاج؛ ومن الآدميِّين رقَّة القلب؛ وإنَّما جمعَ بين الرَّحْمَنِ والرَّحِيْمِ للنهايةِ في الرَّحمة والإحسان بعد الاحتِنَانِ. وعنِ ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنهُ قال: [هُمَا اسْمَانِ رَقِيْقَانِ أحَدُهُمَا أرَقُّ مِنَ الآخَرِ] ولو قال: لَطِيْفَانِ لكان أحسنَ. وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكتبُ في أوائل الكتب في أوَّل الإسلام: [بسْمِكَ اللَّهُمَّ] حتى نزلَ**{ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا }** [هود: 41]. فكتبَ { بِسْمِ ٱللَّهِ }. ثُم نَزَلَ:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110] فَكَتَبَ: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ }. فنَزَلَ:**{ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30] في سورةِ النَّمل؛ فكتبَ حينئذٍ: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. فإن قيلَ: لِمَ قُدِّمَ اسمُ اللهِ على الرَّحمن؟ قيل: لأنهُ اسم لا ينبغي إلا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل في تفسيرِ قولهِ تعالى:**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] أي هل تعرفُ في السهلِ والجبل والبَرِّ والبحرِ والمشرِق والمغرب أحداً اسْمُهُ اللهُ غيرَ اللهِ؟ وقيل: هو اسْمُهُ الأعظمُ. وقُدِّمَ الرَّحْمَنَ على الرَّحِيْمِ؛ لأن الرحمنَ اسم خُصَّ به اللهُ؛ والرحيمُ مشتركٌ؛ يقال: رجلٌ رحيمٌ، ولا يقال: رجل رحمنٌ. وقيل: الرَّحْمَنُ أمدحُ؛ والرحيمُ أرأفُ. وإنَّما أسقطت الألف من اسمِ الله وأصلهُ باسم الله؛ لأنَّها كثرت على ألسنةِ العرب عند الأكلِ والشُّرب والقيام والقعود؛ فحذفت اختصاراً من الخطِّ وإن ذُكرت اسماً غيرهُ من أسماءِ الله لَم تحذفِ الألفُ لقلَّة الاستعمال؛ نحو قولِكَ: باسمِ الرب، وباسمِ العزيز؛ وإن أتيتَ بحرفٍ سوى الباء لَمْ تحذفِ الألفَ أيضاً؛ نحو قولِكَ: لاسمِ الله حلاوةٌ في القلوب؛ وليس اسمٌ كاسمِ الله. وكذلك باسمِ الرَّحمنِ؛ واسمِ الجليلِ؛ و**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 1]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قال أبو محمد: نذكر في هذا الموضع جملة من علل النحويين في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، ونستقصي إن شاء الله ذلك في سورة النمل إذ هي بعض آية هناك بإجماع. فمن ذلك أن في كسر الباء قولين: - أحدهما: إنها كسرت لتكون حركتها مشبهة لعملها. القول الثاني: إنها كسرت ليفرق بين ما لا يكون إلا " [حرفاً وبين ما] قد يكون اسماً نحو الكاف، وكذلك لام الجر. وأصل الحروف التي تدخل للمعاني أن تكون مفتوحة لخفة الفتحة نحو حروف العطف وألف الاستفهام وشبهه. ولكن خرجت الباء واللام عن الأصل للعلة التي ذكرنا. وقيل: إنما كسرت لام الجر للفرق بينها، وبين لام التأكيد في قولك: " إن هذا لزيد " إذا أردت أن / المشار إليه هو زيد، وإذا أردت أن المشار إليه في / ملك زيد كسرت اللام. ويدل على أن أصلها الفتح أنها تفتح مع المضمر إذ قد أمن اللبس لأن علامة المجرور خلاف علامة المرفوع. تقول: " هذا له وهذا لك " ، وأيضاً فإن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها. هذا أصل مجمع عليه في كلام العرب، وسترى منه أشياء فيما بعد إن شاء الله. ومن ذلك أن " اسما " فيه أربع لغات: " اسم " بكسر الألف وبضمها، و " سِم " بضم السين وبكسرها. فَمن ضَم الألف في الابتداء جعله من " سما يسمو " إذ ارتفع " كدعا يدعو ". ومَن كسرها جعله من [سَميَ يَسْمَى] " كرَضِيَ يَرْضَى ". قال ابن كيسان: " يقال: " سموت وسميت كعلوت وعليت، وأصله سُمْوٌ أو سِمْوٌ على [وزن] فُعْلٌ أو فِعْلٌ، ثم حذفت الواو استخفافاً لكثرة الاستعمال. فلما تغير آخره غير أوله بالسكون، فاحتيج إلى ألف وصل ليوصل بها إلى النطق بالساكن وهو السين المغيرة إلى السكون ". واختلف في كسرة الألف المجتلبة. فقيل: اجتلبت ساكنة وبعدها ساكن فكسرت لالتقاء الساكنين. وقيل: بل اجتلبت مكسورة، وإنما ضمت إذا كان الثالث من الفعل مضموماً لاستثقال الخروج من كسر إلى ضم /، وضمت الألف إذا كان الثالث من الفعل مضموماً ليخرج الناطق من ضم إلى ضم، نحو: " أُقْتل، أُخْرج " ، فذلك أسهل من الخروج من كسر إلى ضم. وقيل: بل أصلها السكون لكن لا بد من حركتها إذ لا يبدأ بساكن فأتبعت ثالث الفعل، فكسرت إذا كان الثالث مكسوراً نحو " إضرب ". وضمت إذا كان الثالث مضموماً نحو " أُقْتُل ". ولم تفتح إذا كان الثالث مفتوحاً لئلا تشبه ألف المتكلم فكسرت، وكان الكسر أولى بها / والثالث مفتوح لأن الخفض والنصب أخوان، وذلك نحو: " اصنع ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و " اسم " عند البصريين مشتق من السمو؛ يدل على ذلك قولهم في التصغير " سمي ". فرجعت اللام المحذوفة إلى أصلها، ورجعت السين إلى حركتها لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقال الكوفيون: " هو مشتق من السمة وهي العلامة لأن صاحبه يعرف به، وليس يسمو به، كما ذكر البصريون أن اشتقاقه من السمو وهو العلو ". قال أبو محمد: وقول الكوفيين قول يساعده المعنى ويبطله التصريف لأنهم يلزمهم أن يقولوا في التصغير " وُسَيْمٌ " ، لأن فاء الفعل واو محذوفة فيجب ردها في التصغير، وذلك لا يقوله أحد. وقد شرحنا هذه المسألة بأشبع من هذا في غير هذا الكتاب. / والباء من { بِسمِ ٱللهِ } متعلقة بمحذوف. ذلك المحذوف خبر ابتداء مضمر قامت الباء وما اتصل بها مقامه، فهي وما بعدها في موضع رفع إذ سدت مسد الخبر للابتداء المحذوف، تقديره: " ابتدائي ثابت بسم الله " أو " مستقر بسم الله " ، ثم حذف الخبر وقامت الباء وما بعدها مقامه، وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: " الباء متعلقة بفعل محذوف، وهي وما بعدها في موضع نصب بذلك الفعل " ، تقديره عندهم: " ابتدأت بسم الله ". والاسم هو المسمى عند أهل السنة. قال أبو / عبيدة: " معنى باسم الله: بالله ". / وقال: " اسم الشيء هو الشيء ". ودل على ذلك قوله "**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ }** [الأعلى: 1] أي سبح ربك، أي نزه ربك. واختلف النحويون في علة حذف الألف من الخط في { بِسمِ ٱلله }؛ فقال الكسائي والفراء: " حذفت لكثرة الاستعمال ". وقال الأخفش " حذفت لعدمها من اللفظ. ويلزمه ذلك في كل ألف وصل لأنها معدومة أبداً في اللفظ في الوصل، لكنه قال: " مع كثرة الاستعمال بجعل حذفها لاجتماع العلتين ". وقيل [بل] حذفت لأن الباء دخلت على سين مكسورة أو مضمومة. حكى ابن زيد أنه يقال: " سِمٌ " و " سُمٌ " ، ثم أسكنت السين إذ ليس في الكلام فعل على مذهب من ضم السين وأسكنت على مذهب مَن كسر السين استخفافاً. وقيل: حذفت الألف للزوم الباء هذا الاسم في الابتداء، فإن كتبت " بسم الرحمٰن " أو " بسم الخالق " و**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 1]، فالأخفش والكسائي يكتبان هذا وما أشبهه بغير ألف " كبسم الله ". والفراء يكتبه بألف إذ لم يكثر استعماله، ككثرة استعمال " بسم الله ". ولا يحسن الحذف للألف من الخط عند جميعهم إلا مع الباء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | لو قلت: " لاسم الله حلاوة " أو قلت: " ليس اسم كاسم الله " ، لم يجز حذف الألف مع غير الباء من حروف الجر، إلا على قول مَن قال: " سِمٌ " أو " سُمٌ " فأما مَن قال " اسم " بألف في الابتداء بكسر الألف أو بضمها فلا يجوز حذف الألف من الخط مع غير الباء عند أحد من النحويين إذ لم يكثر استعماله. والحمد لله معناه الثناء الكامل. والشكر الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة، والحمد أعم من الشكر وأمدح. ورفعه بالابتداء، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره: " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله ". فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه. والنصب جائز في الحمد في الكلام على المصدر، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه: " أحمد الله حمداً " ، فإنما هو حمد منك لله لا غير. فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله، فهو أعم وأكمل، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، إذ لم يكن / قبله عامل فإذا كان " الحمد " مبتدأ، و " لله " خبر، وهو في اللفظ بمنزلة قولك: " المال لزيد " في حكم الإعراب، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت: " الحمد لله " أخبرت بهذا، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله متقرباً بذلك إلى الله، متعرضاً لعفوه مظهراً ما في قلبك بلسانك، شاهداً بذلك لله. ولست تخبر أحداً بشيء يجهله، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك، وليس ذلك العلم عند غيرك. وإذا قلت: " المال لزيد " ، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك. فاعرف الفرق بينهما. فأما علة حذف الألف الثانية / من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف. قال قطرب: " حذف استخفافاً إذ كان طرحها من الخط لا يلبس. وقيل: إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال: " الله / بغير مد، كقول الشاعر: | **أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله** | | | | --- | --- | --- | وقيل: حذفت الثانية لأن الأولى تكتفي عنها، وتدل عليها. وقيل: إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه بالهاء. فأما حذف ألف { الرَّحْمٰنِ } من الخط فلكثرة الاستعمال والاستخفاف، ولأن المعنى لا يشكل بغيره. وقدم { الرَّحْمٰنِ } على { الرَّحِيـمِ } لأن " الرحمٰن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: الرحيم، ولم يقل: الراحم، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمٰن، فقرن بالرحمٰن دون الراحم إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة في عمره، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة. وقيل: إنما قدم الرحمٰن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه " باسمك اللهم " حتى نزل:**{ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا }** [هود: 41] فكتب { بِسمِ ٱلله } ، حتى نزل:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110]، فكتب { بِسمِ ٱلله } ، فسبق نزول الرحمٰن. ثم نزل:**{ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30]. فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود / " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت: { أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } ، فكتبنا " بسم الله الرحمٰن " / فلما نزلت " التي في النمل كتبناها ". ومعنى { الرَّحْمٰنِ }: الرفيق بخلقه، ومعنى: { الرَّحِيـمِ } العاطف على خلقه بالرزق وغيره. وقيل: إنما جيء بالرحيم ليعلم الخلق أن { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } على اجتماعهما لم يتسم بهما غير الله جل ذكره، لأن الرحمٰن على انفراده قد تسمى به مسيلمة الكذاب لعنه الله، و { الرَّحِيـمِ } على انفراده قد يوصف به المخلوق. فكرر الرحيم بعد الرحمٰن، وهما صفتان لله أو اسمان، ليعلم الخلق ما انفرد به الله تعالى ذكره من اجتماعهما له، وما ادعى بعضه بعض خلقه. وهذا القول هو معنى قول عطاء لأنه قال: " لما اختُزِلَ الرحمٰن من أسمائه - أي تسمى به غيره -، صار لله الرحمٰن الرحيم ". والألف واللام في { الرَّحِيـمِ } للتعريف، وإنما اختيرا للتعريف، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ)
التَّسْمِيةُ هِيَ آيةٌ مِنَ الْقُرْآن، وَلَيْسَتْ مِنْ فاتِحةِ الكِتاب. دليل جعلها آية: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيِّ بن كعب: **" لأُعلِّمنَّكَ آيةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي إِلاَّ عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاودَ فأَخْرَجَ إِحْدَى قَدَمَيْهِ، ثمَّ قَالَ له: بأَيِّ آيةٍ تفتتح بها القرآن؟ قال: بـ { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. فَقَالَ: هِيَ هِيَ ".** ففي هذا أنها آية من القرآن، وأنها لو كانت من السور لكان يعلمه نَيِّفاً ومائةَ آيةٍ لا آيةً واحدةً. ولو كانت منها أيضاً؛ لكان لا يجعلها مفتاح القرآن، بل يجعلها من السور. ثم الظاهر أن من لم يتكلف تفسيرها عند ابتداء السورة ثبت أَنها ليست منها. وكذلك تركُ الأُمةِ الجهرَ بها، على العلم بأنه لا يجوز أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجهر بها ثم يخفي ذلك على من معه، وأن يكونوا غفلوا ثم يضيعون سُنَّةً بلا نفع يحصل لهم، حتى توارثت الأُمةُ تركَها فيما يحتمل أن يكون الجهر سنة ثم يخفى، فيكون في فعل الناس دليل واضح أنها ليست من السور. ودليل آخر على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله أنه قال: **" قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَينِ، فإِذَا قَالَ العَبْدُ: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } إلى قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }. فقال: هذا لي "** وهي ثلاث آيات. وقال بعد قوله: { ٱهْدِنَا } إلى آخرها: **" هَذَا لِعَبْدِي "** ، ثبت أنها ثلاثُ آيات؛ لتستويَ القسمة. ثم قال في قوله:**{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحة: 5]: **" هذا بيني وبين عبدي نصفين ".** فثبت أنها آية واحدة؛ فصارت بغير التسمية سبعاً. وذلك قول الجميع: إنها سبع آيات مع ما لم يذكر في خبر القسمة؛ فثبت أنها دونها سبع آيات. وقد روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: **" صَلَّيْتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمان - رضي الله عنهم - فَلمْ يكونوا يَجْهرُونَ بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " ".** وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - وعبد الله بن عمر وجماعة، وهو الأَمر المعروف في الأُمة، مع ما جاءَ في قصة السحر: أن العُقَد كانت إحدى عشرة، وقرأَ عليها المعوذتين دون التسمية؛ فكذا غيرها من السور مع ما إذا جعلت مفتاحاً كانت كالتعوذ، والله الموفق. والأصل عندنا أن المعنى الذي تَضَمنُه فاتحةُ القرآن فرض على جميع البشر؛ إذ فيه الحمد لله والوصف له بالمجد، والتوحيد له، والاستعانة به، وطلب الهداية، وذلك كله يَلزَم كافَّةَ العقلاء من البشر، إذ فيه معرفة الصانع على ما هو معروف، والحمدُ له على ما يستحقه، إذ هو المبتدئ بنعمه على جميع خلقه، وإليه فقر كلِّ عبدٍ، وحاجةُ كلِّ محتاج، فصارت لنفسها - بما جمعت الخصال التي بَيَّنَّا - فريضةً على عباد الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ثم ليست هي في حق الصلاة فريضة، وذلك نحو التسبيحات بما فيها من تَنزيه الله. والتكبيرات بما فيها من تعظيمه فريضة لنفسها؛ إذ ليس لأَحد ألا ينزه ربه، ولا يعظمه من غير أَن يوجب ذلك فرضيتها في حق الصلاة، وفي حق كل مجعولة هي فيه، لا من طريق توضيح الفرضية من غير طريق الذي ذكرت. ثم ليست هي بفريضة في حق القراءة في الصلاة؛ لوجوه: أحدها: أَن فرضية القراءَة عرفنا بقوله:**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [المزمل: 20] وفيها الدلالة من وجهين: أحدهما: أنه قد يكون غيرها أَيسرَ. والثاني: أن فرضيَّة القراءَة في هذه الآية من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير، ولو لم يكن فريضة لم يكن علينا في التخفيف منَّةٌ إذاً بالترك. ثم لا نخير في فاتحة القرآن، والآية التي بها عرفنا الفرضية فيما تخير ما يختار من الأَيسر، ثبت أنها رجعت إلى غيرها، وبالله التوفيق. والثاني: أن نبيَّ الله أخبر عن الله: أنه جعل بها في حق الثناء، وهو ما ذكر في خبر القسمة فصارت تقرأ بذلك الحق، فلم يخلص لها حق القراءَة، بل أَلحق بها حق الدعاء والثناءِ، وليس ذلك من فرائض الصلاة، وبالله التوفيق. والثالث: ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: **" أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَا ليلة بقوله: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية. وبه كان يقوم، وبه كان يركع، وبه يسجد، وبه يقعد "** فثبت أنه لا يتعين قراءَتها في الصلاة مع ما أَيَّده الخبر الذي فيه **" أَنِ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ "** ؛ إذ قال له وقت التعليم: " اقْرَأْ مَا تيسَّرَ عَلَيْكَ " فثبت أَن المفروض ذلك. وأيضاً روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: **" لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".** ثم روي عنه بيان محلها: **" إِنَّ كُلَّ صَلاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فيها بِفَاتِحَةِ الكتابِ فهِيَ خِدَاجٌ، نُقْصَانٌ، غَيْرُ تَمَامٍ ".** والفاسدُ لا يوصف بالنقصان، وإنما الموصوف بمثله ما جاز مع النقصان. وبالله التوفيق. ثم خص فاتحة القرآن بالتأْمين بما سُمِّي بالذي ذكَره خبرُ القسمة. وغير الفاتحة وإن كان فيه الدعاءُ، فإنه لم يخص بهذا الاسم، لذلك لم يجهر به، فالسبيل فيه ما ذكرنا في القسمة، ما كان هو أخلص بمعنى الدعاء منها. ثم السُّنَّة في جميع الدعوات المخافَتةُ. والأَصل: أنَّ كل ذِكر يشترك فيه الإمام والقوم فَسُنتُه المخافتة إلا لحاجة الإعلام، وهذا يعلم من قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }** [الفاتحة: 7] فيزول معناه. وسبيل مثله المخافتة مع ما جاءَ به مرفوعاً ومتوارثاً. وخبرُ الجهر يحتمل: السبق، كما كان يُسْمِعُهُم في صلاة النهار أحياناً. ويحتمل: الإعلام، أنه كان يقرأُ به. وبالله التوفيق. ثم جمعت هذه خصالاً من الخير، ثم كل خصلة منها تجمع جميع خصال الخير. منها: أَن في الحرف الأَول من قوله:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] شكراً لجميع النعم، وتوجيهاً لها إلى الله لا شريك له، ومَدْحاً له بأَعلى ما يحتمل المدح، وهو ما ذكرنا من عموم نعمه وآلائه جميعَ بريَّته. ثم فيه الإقرار بوحدانيته في إنشاءِ البرِيَّة كلها، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله:**{ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] وكل واحد منها يجمع خصال خير الدارين، ويوجب القائل به - عن صدق القلب - درك الدارين. ثم الوصف لله - عز وجل - بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأَحد من معناهما حقيقة، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق نحو " الله " و " الرحمن ". ثم الوصف بالرحمة التي بها نجاة كل ناج، وسعادة كل سعيد، وبها يتقي المهالكَ كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التي بها تعاطف بينهم وتراحمهم. ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى:**{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }** [الفاتحة: 4] مع الوصف له بالمجد، وحسن الثناء عليه. ثم التوحيد، وما يلزم العباد من إخلاص العبادة له، والصدق فيها، مع جعل كل رفعة وشرف منالاً به عز وجل. ثم رفع جميع الحوائج إليه، والاستعانة به على قضائها، والظفر بها على طمأْنينة القلب وسكونه، إذ لا خيبة عند معونته، ولا زيغ عند عصمته. ثم الاستهداء إلى ما يرضيه، والعصمة عما يغويه في حادث الوقت، على العلم بأنه لا ضلال لأَحد مع هدايته في التحقيق. والرجاء والخوف من الله لا من غيره. وعلى ذلك جميع معاملات العباد، ومكاسبهم على الرجاء من الله تعالى أَن يكون جعل ذلك سبباً به يصل إلى مقصوده، ويظفر بمراده. ولا قوة إلا بالله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } لم يتكلم الجلال المحلي ولا تلميذ عليها، ولعلمها اتكالا على شهوته، ونتكلم على شيء منها فنقول: ابتدأ كتابة تعالى بالبسملة، تعليماً لعباده الاقتداء بذلك، والإتيان بها في كل أمر ذي بال إشعاراً بأنها أم الفاتحة كما أن الفاتحة أم القرآن، كما أن القرآن أم لكتب السماوية، والله علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والرحمن المنعم بجلائل النعم، كماً وكيفاً دنيا وأخرى، والرحيم المنعم بدقائقها كذلك. - فائدة - روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب: باسمك اللهم حتى نزل وقال: اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها كتب بسم الله، فلما نزلت**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110] كتب: بسم الله الرحمن، فلما نزلت**{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [النمل: 30] كتبها، وعن عبد الله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كل واحد، وقد فسرها بعض العارفين على مقتضى الحروف فقال: إن كل حرف منها مفتاح كل اسم من اسمائه تعالى، مبدوء بذلك الحرف، فالباء مفتاح اسمه تعالى: بصير وباقي وبر، ونحن ذلك، والسين مفتاح اسمه تعالى: سميع سلام، والميم مفتاح اسمه ملك ونحوه، والألف مفتاح اسمه تعالى ونحوه، واللام مفتاح اسمه لطيف ونحوه، والهاء مفتاح اسمه هادي ونحوه، والراء مفتاح اسمه رزاق ونحوه، والحاء مفتاح اسمه حليم ونحوه، والنون مفتاح اسمه نافع ونحوه، فكأن المفتتح بها مفتتح بجميع أسمائه تعالى: قوله: (جملة) أي مركبة من مبتدأ وخبر، وقوله: (خبرية) أي لفظاً وهي إنشائية معنى بدليل قوله: (قصد الثناء) أي قصد بها إنشاء الثناء، قوله: (من أنه تعالى) الخ، بيان للمضمون، وفي ذلك إشارة إلى أن أل في الحمد جنسية، وهو الأولى من جعلها استغراقية أو عهدية، أما الأول فلأنه ليس في طاقة العبيد حصر أفراد الحمد، وأما الثاني فلقصوره كذا قال النحويون، واختار الصوفية أنها للعدد قائلين: إنه تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده، حمد نفسه بنفسه أو وضعه لهم يحمدونه به، وهذا المعنى هو المناسب للحمد الواقع في القرآن فتدبر. قوله: (ومستحق) الخ، أشار بذلك إلى أن اللام في { للَّهِ } للملك أو للاستحقاق. قوله: (والله علم على المعبود بحق) أي علم شخص عربي مرتجل جامد وهو الصحيح، ومعنى كونه علم شخص، أنه علم على ذات معينة مستجمعة لصفات الكمال، وقال الزمخشري: إنه اسم جنس صار علماً بالغلبة مشتق من أله كعبد وزناً ومعنى أو من أله بمعنى سكت، أو من وله بمعنى تحير ودهش أو طرب، أو من لاه بمعنى احتجب، أو ارتفع أو استنار، ومجموع الأقاويل هو المعبود للخواص والعوام، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المتحجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته الفخام، الذي سكنت إلى عبادته الأجسام، وولعت به نفوس الأنام، وطربت إليه قلوب الكرام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدَّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل - ما أدَّبه به من ذلك، وعلَّمه إياه - منه لجميع خلقه: سنّةً يستنّون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلاً يكون لها جالباً؛ فإذا كان محذوفاً يقدَّر بما جُعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية - كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء - والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى. و { ٱلله } علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كل شيء ويعبده وأصله " إلاه ". بمعنى مألوه أي معبود؛ فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام؛ وبعد الإدغام فخّمت تعظيماً - هذا تحقيق اللغويين. و { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال الجوهري: هما اسمان مشتقان من الرحمة، ونظيرهما في اللغة " نديم وندمان " وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جادّ مجدّ، إلا أن { الرَّحْمٰنِ } اسم متخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا ترى أنه قال:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ }** [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.ا.هـ. وقد ناقش في كون { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } بمعنى واحد، العلامة الشيخ محمد عبده المصري في بعض مباحثه التفسيرية قائلاً: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها - ثم قال: - وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن: المنعم بجلائل النعم؛ ومعنى الرحيم: المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن: هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم؛ والرحيم: المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقاً؛ فصيغة { الرَّحْمٰنِ } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلاً أو دقيقاً. وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفاً أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفاً، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى { الرَّحْمٰنِ } المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين؛ ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول - على قوله هذا - هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطن لما هو أحسن منه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ثم قال: والذي أقول: إن لفظ { رَّحْمٰنِ } وصفٌ فعليّ فيه معنى المبالغة - كفعَّّال - ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة - كعطشان وغرثان وغضبان - وأما لفظ { رَّحِيـمِ } فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس - كعليم وحكيم وحليم وجميل - والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين؛ فلفظ { الرَّحْمٰنِ } يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان؛ ولفظ { الرَّحِيـمِ } يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكداً للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جل ثناؤه بـ { الرَّحْمٰنِ } ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائماً - لأن الفعل قد ينقطع إذا كان عارضاً لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة - فعندما يسمع لفظ { الرَّحِيـمِ } يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه. انتهى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }: اختصار المعنى: أبدأ بسم الله، وبدأت باسم الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
256/ [1]- علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى ابن جعفر (عليه السلام). قال: حدثني أبي، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبدالله (عليه السلام). قال: و حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن حماد، و عبد الرحمن بن أبي نجران، و ابن فضال، عن علي بن عقبة. قال: و حدثني أبي، عن النضر بن سويد، و أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام). قال: و حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، و هشام بن سالم، و عن كلثوم بن الهرم، عن عبدالله بن سنان، و عبدالله بن مسكان، و عن صفوان، و سيف بن عميرة، و أبي حمزة الثمالي، و عن عبدالله بن جندب، و الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام). قال: و حدثني أبي، عن حنان، و عبدالله بن ميمون القداح، و أبان بن عثمان، عن عبدالله بن شريك العامري، عن المفضل بن عمر، و أبي بصير، عن أبي جعفر و أبي عبدالله (عليهما السلام)، قالا في تفسير { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }. قال: و حدثني أبي، عن عمرو بن إبراهيم الراشدي، و صالح بن سعيد، و يحيى بن أبي عمران الحلبي، و إسماعيل بن مرار، و أبي طالب عبدالله بن الصلت، عن علي بن يحيى، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: سألته عن تفسير { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } قال: " الباء بهاء الله، و السين سناء الله، و الميم ملك الله، و الله إله كل شيء، و الرحمن بجميع خلقه، و الرحيم بالمؤمنين خاصة ". 257/ [2]- محمد بن يعقوب: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبدالله بن سنان، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن تفسير { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } ، قال: " الباء بهاء الله، و السين سناء الله، و الميم مجد الله- و روى بعضهم: الميم ملك الله- و الله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، و الرحيم بالمؤمنين خاصة ". 258/ [3]- و عنه: عن علي بن إبراهيم، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن أسماء الله و اشتقاقها، و الله مم هو مشتق؟ فقال: " يا هشام، الله مشتق من إله، و الإله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئا، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أ فهمت يا هشام؟ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال: قلت زدني. قال: " لله تسعة و تسعون اسماء، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، و لكن لله معنى يدل عليه بهذه الأسماء، و كلها غيره. يا هشام، الخبز اسم للمأكول، و الماء اسم للمشروب، و الثوب اسم للملبوس، و النار اسم للمحرق، أ فهمت- يا هشام- فهما تدفع به و تناضل به أعداء الله، المتخذين مع الله عز و جل غيره؟ ". قلت: نعم، فقال: " نفعك الله به و ثبتك، يا هشام ". قال هشام: فو الله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا. 259/ [4]- و عنه: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن ابن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله، فقال: " استولى على ما دق و جل ". 260/ [5]- ابن بابويه: عن أبيه، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبدالله، عن محمد بن عبد الله، و موسى بن عمر، و الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن ابن سنان، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاسم، ما هو؟ فقال: " صفة لموصوف ". 261/ [6]- و عنه، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن صفوان بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه سئل عن { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } ، فقال: " الباء بهاء الله، و السين سناء الله، و الميم ملك الله ". قال: قلت: الله؟ قال: " الألف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا، و اللام إلزام الله خلقه ولايتنا ". قلت: فالهاء؟ قال: " هوان لمن خالف محمدا و آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) ". قلت: الرحمن؟ قال: " بجميع العالم ". قلت: الرحيم؟ قال: " بالمؤمنين خاصة ". 262/ [7]- و عنه، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)، قال: أخبرنا أحمد بن محمد ابن سعيد مولى بني هاشم، عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، قال: سألت الرضا علي بن موسى (عليه السلام) عن { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فقال: " معنى قول القائل: بسم الله، أي: أسمي على نفسي سمة من سمات الله عز و جل و هي العبادة ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال: فقلت له: و ما السمة؟ قال: " العلامة ". 263/ [8]- و عنه، قال: حدثنا محمد بن القاسم الجرجاني المفسر (رحمه الله)، قال: حدثنا أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، و أبو الحسن علي بن محمد بن سيار، و كانا من الشيعة الإمامية، عن أبويهما، عن الحسن بن علي بن محمد (عليهم السلام) في قول الله عز و جل: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } ، فقال: " هو الله الذي يتأله إليه عند الحوائج و الشدائد كل مخلوق، عند انقطاع الرجاء عن كل من هو دونه، و تقطع الأسباب من جميع من سواه، تقول: بسم الله، أي استعين على أموري كلها بالله، الذي لا تحق العبادة إلا له، و المغيث إذا استغيث، و المجيب إذا دعي. و هو ما قال رجل للصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله، دلني على الله ما هو، فقد أكثر علي المجادلون و حيروني؟ فقال له: يا عبدالله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم. فقال: هل كسرت بك، حيث لا سفينة تنجيك، و لا سباحة تغنيك؟ قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو الله، القادر على الإنجاء حيث لا منجي، و على الإغاثة حيث لا مغيث. ثم قال الصادق (عليه السلام): و لربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فيمتحنه الله عز و جل بمكروه، لينبهه على شكر الله تبارك و تعالى و الثناء عليه، و يمحق عنه وصمة تقصيره، عند تركه قول: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }. قال: و قام رجل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: أخبرني ما معنى { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }؟ فقال علي بن الحسين (عليه السلام): حدثني أبي، عن أخيه الحسن، عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): أن رجلا قام إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } ما معناه؟ فقال: إن قولك: الله، أعظم اسم من أسماء الله عز و جل، و هو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمى به غير الله، و لم يتسم به مخلوق. فقال الرجل: فما تفسير قول الله؟ قال: هو الذي يتأله إليه عند الحوائج و الشدائد كل مخلوق، عند انقطاع الرجاء من جميع من [هو] دونه، و تقطع الأسباب من كل ما سواه، و ذلك [أن] كل مترئس في هذه الدنيا، و متعظم فيها، و إن عظم غناه و طغيانه، و كثرت حوائج من دونه إليه، فإنهم سيحتاجون حوائج [لا يقدر عليها هذا المتعاظم، و كذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج] لا يقدر عليها، فينقطع إلى الله عند ضرورته و فاقته، حتى إذا كفى همه، عاد إلى شركه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما تسمع الله عز و جل يقول:**{ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ \* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }** " 1 " [الأنعام: 40-41] فقال الله جل و عز لعباده: أيها الفقراء إلى رحمتي، إني قد ألزمتكم الحاجة إلي في كل حال، و ذلة العبودية في كل وقت، فإلي فافزعوا في كل أمر تأخذون و ترجون تمامه و بلوغ غايته، فإني إن أردت أن أعطيكم، لم يقدر غيري على منعكم، و إن أردت أن أمنعكم، لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحق من يسأل، و أولى من تضرع إليه. فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } أي: استعين على هذا الأمر، الذي لا تحق العبادة لغيره، إلا له، المجيب إذا دعي، المغيث إذا استغيث، الرحمن الذي يرحم يبسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا، و دنيانا، و آخرتنا، خفف علينا الدين، و جعله سهلا خفيفا، و هو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه ". ثم قال: **" قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): من حزنه أمر تعاطاه فقال: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } و هو مخلص لله، و يقبل بقلبه إليه، لم ينفك من إحدى اثنتين: إما بلوغ حاجته في الدنيا، و إما يعد له عند ربه و يدخر له، و ما عند الله خير و أبقى للمؤمنين ".** 264/ [9]- العياشي: عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، في تفسير { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فقال: " الباء بهاء الله، و السين سناء الله، و الميم مجد الله- و رواه غيره عنه: ملك الله- و الله إله الخلق، الرحمن بجميع العالم، الرحيم بالمؤمنين خاصة ". و رواه غيره عنه: " و الله إله كل شيء ". 265/ [10]- عن الحسن بن خرزاذ، قال: كتبت إلى الصادق (عليه السلام) أسأل عن معنى الله. فقال: " استولى على ما دق و جل ". 266/ [11]- تفسير الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: " قال الصادق (عليه السلام): و لربما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فيمتحنه الله بمكروه، لينبهه على شكر الله و الثناء عليه، و يمحو عنه وصمة تقصيره، عند تركه قول: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }. لقد دخل عبدالله بن يحيى على أمير المؤمنين (عليه السلام)، و بين يديه كرسي، فأمره بالجلوس عليه، فجلس عليه، فمال به حتى سقط على رأسه، فأوضح عن عظم رأسه، و سال الدم، فأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بماء، فغسل عنه ذلك الدم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال: ادن مني، [فدنا منه] فوضع يده على موضحته، و قد كان يجد من ألمها ما لا صبر له معه، و مسح يده عليها و تفل فيها، حتى اندمل و صار كأنه لم يصبه شيء قط. و قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا عبدالله، الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنهم، لتسلم لهم طاعاتهم، و يستحقوا عليها ثوابها. فقال عبدالله بن يحيى: يا أمير المؤمنين، و إنا لا نجازى بذنوبنا إلا في الدنيا؟ قال: نعم، أما سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه و آله): **" الدنيا سجن المؤمن، و جنة الكافر "** إن الله تعالى طهر شيعتنا من ذنوبهم في الدنيا بما يبتليهم به من المحن، و بما يغفره لهم، فإن الله تعالى يقول:**{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }** [الشورى: 30] حتى إذا وردوا يوم القيامة، توفرت عليهم طاعاتهم و عباداتهم. و إن أعداءنا يجازيهم عن طاعة تكون في الدنيا منهم- و إن كان لا وزن لها، لأنه لا إخلاص معها- حتى إذا وافوا القيامة، حملت عليهم ذنوبهم، و بغضهم لمحمد و آله (صلوات الله عليهم أجمعين) و خيار أصحابه، فقذفوا في النار. فقال عبدالله بن يحيى: يا أمير المؤمنين، قد أفدتني و علمتني، فإن رأيت أن تعرفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس، حتى لا أعود إلى مثله؟ فقال: تركك حين جلست أن تقول: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فجعل الله ذلك لسهوك عما ندبت إليه تمحيصا بما أصابك، أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) حدثني، عن الله عز و جل أنه قال: **" كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله، فهو أبتر؟ "** فقلت: بلى- بأبي أنت و أمي- لا أتركها بعدها. قال: إذن تحظى و تسعد. قال عبدالله بن يحيى: يا أمير المؤمنين، ما تفسير { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ }؟ قال: إن العبد إذا أراد أن يقرأ، أو يعمل عملا، فيقول: { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } أي بهذا الاسم أعمل هذا العمل، فكل عمل يعمله، يبدأ فيه ب { بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ } فإنه مبارك له فيه ". 267/ [12]- (ربيع الأبرار) للزمخشري: قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليهما السلام): ما الدليل على الله، و لا تذكر لي العالم و العرض و الجواهر؟ فقال له: " هل ركبت البحر؟ " قال: نعم. قال: " فهل عصفت بكم الريح، حتى خفتم الغرق؟ " قال: نعم. قال: [قال: " فهل انقطع رجاؤك من المركب و الملاحين؟ " قال: نعم.] قال: " فهل تتبعت نفسك أن ثم من ينجيك؟ " قال: نعم. قال: " فإن ذاك هو الله سبحانه و تعالى، قال الله: عز و جل:**{ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }** [الإسرا: 67]**{ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }** [النحل: 53] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قد مضى البـيان عن الـمنعوتـين بهذا النعت، وأيّ أجناس الناس هم. غير أنا نذكر ما روي فـي ذلك عمن روي عنه فـي تأويـله قوله: فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي يصدقونك بـما جئت به من الله جل وعز، وما جاء به من قبلك من الـمرسلـين، لا يفرقون بـينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبـالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } هؤلاء الـمؤمنون من أهل الكتاب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وبـالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }. قال أبو جعفر: أما الآخرة، فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه:**{ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }** [العنكبوت: 64] وإنـما وصفت بذلك لـمصيرها آخرة لأولـى كانت قبلها كما تقول للرجل: أنعمت علـيك مرة بعد أخرى فلـم تشكر لـي الأولـى ولا الآخرة. وإنـما صارت الآخرة آخرة للأولـى، لتقدم الأولـى أمامها، فكذلك الدار الآخرة سميت آخرة لتقدم الدار الأولـى أمامها، فصارت التالـية لها آخرة. وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الـخـلق، كما سميت الدنـيا دنـيا لدنوّها من الـخـلق. وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به الـمؤمنـين بـما أنزل إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلـى من قبله من الـمرسلـين من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بـما كان الـمشركون به جاحدين، من البعث والنشر والثواب والعقاب والـحساب والـميزان، وغير ذلك مـما أعدّ الله لـخـلقه يوم القـيامة. كما: حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وبـالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي بـالبعث والقـيامة والـجنة والنار والـحساب والـميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بـما كان قبلك، ويكفرون بـما جاءك من ربك. وهذا التأويـل من ابن عبـاس قد صرّح عن أن السورة من أولها وإن كانت الآيات التـي فـي أولها من نعت الـمؤمنـين تعريض من الله عز وجل بذم الكفـار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم بـما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل مـحمد صلوات الله علـيهم وعلـيه مصدقون وهم بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام مكذبون، ولـما جاء به من التنزيـل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون وأنه لن يدخـل الـجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قـيـلهم بقوله: { الم ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }. وأخبر جل ثناؤه عبـاده أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما جاء به الـمصدقـين بـما أنزل إلـيه وإلـى من قبله من رسله من البـينات والهدى خاصة، دون من كذب بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به، وادعى أنه مصدق بـمن قبل مـحمد علـيه الصلاة والسلام من الرسل وبـما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر الـمؤمنـين من العرب ومن أهل الكتاب الـمصدقـين بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام وبـما أُنزل إلـيه وإلـى من قبله من الرسل بقوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 5] فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والـخسار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
فإن قلت { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد، وفي قوله | **إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهممِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ** | | | | --- | --- | --- | وقوله | **يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّابِحِ فالغَانِم فَالآيِبِ** | | | | --- | --- | --- | قلت يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا، فاشتمل إيمانهم على كل وحي أنزل من عند الله، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، واجتماعهم على الإقرار بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد، ثم افتراقهم فرقتين منهم من قال تجري حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيد والفرح والسرور، واختلافهم في الدوام والانقطاع، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين. ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت فإن أريد بهؤلاء غير أولئك، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟. قلت إن عطفتهم على { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمني أهل الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على { ٱلْمُتَّقِينَ } لم يدخلوا. وكأنه قيل هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك. فإن قلت قوله { بِمَاأُنزِلََ إِلَيْكَ } إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، فلم يكن ذلك منزلاً وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضيّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً، تغليباً للموجود على ما لم يوجد، كما يغلب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب فيقال أنا وأنت فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله، ويدل عليه قوله تعالى**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** الأحقاف 30 ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلاً، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك كل ما خطب به فلان فهو فصيح، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي، لكونه معقوداً بعضه ببعض، ومربوطاً آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على لفظ ما سمي فاعله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وفي تقديم { وَبِٱلاْخِرَةَ } وبناء { يُوقِنُونَ } على { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. و { وَبِٱلاْخِرَةَ } تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأوّل، وهي صفة الدار بدليل قوله**{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ }** القصص 77 وهي من الصفات الغالبة، وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام، كقوله**{ دَابَّةُ الأَرْضِ }** سبأ 14 وقرأ أبو حية النميري «يؤقنون» بالهمز، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه، فقلبها قلب واو «وجوه» و«وقتت». ونحوه | **لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إِلَيَّ مُؤْسَى وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: أهل الحجاز غير ورش وأهل البصرة لا يمدون حرفاً لحرفٍ وهو أن تكون المدة من كلمة والهمزة من أخرى نحو { بما أنزل إليك } ونحوه وأما أهل الكوفة وابن عامر وورش عن نافع فإنهم يمدون ذلك وورش أطولهم مداً ثم حمزة ثم عاصم برواية الأعشى والباقون يمدون مداً وسطاً من غير إفراط فالمد للتحقيق وحذفه للتخفيف وأما السكتة بين المدة والهمزة فعن حمزة ووافقه عاصم والكسائي على اختلاف عنهما وكان يقف حمزة قبل الهمزة أيضاً فيسكت على اللام شيئاً من قولـه بالآخرة ثم يبتدئ بالهمزة وكذلك يقطع على الياء من شيء كأنه يقف ثم يهمز والباقون بغير سكتة. الإعراب: إليك ولديك وعليك الأصل فيها إلاك وعَلاك وَلَداك إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء ليفصل بين الألف في آخر الاسم المتمكن وبينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له ألا ترى أن إلى وعلى ولدى لا تنفرد من الإضافة فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير لأنها لا تنفرد ولا تكون كلاماً إلا بالإضافة وما موصول وأنزل صلته وفيه ضمير يعود إلى ما والموصول مع صلته في موضع جر بالباء والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول يؤمنون ويؤمنون صلة للذين والذين يؤمنون في موضع جر بالعطف والعطف فيه على وجهين أحدهما أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر والآخر أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد. المعنى: ثم بيّن تعالى تمام صفة المتقين فقال { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني القرآن وما أنزل من قبلك يعني الكتب المتقدمة وقولـه وبالآخرة أي بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف وقيل أراد به الكرَّة الآخرة وإنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق وقيل لدناءتها هم يوقنون يعلمون وسمي العلم يقينا لحصول القطع عليه وسكون النفس إليه فكل يقين علم وليس كل علم يقيناً وذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الاستدلال والنظر لغموض المعلوم المنظور فيه أو لإشكال ذلك على الناظر ولهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء وإنما خصهم بالإيقان بالآخرة وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها وجحدهم إياها في نحو حكي عنهم في قولـه:**{ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا }** [الجاثية: 24] فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن قوله:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام، أو ما كان مؤمناً بهما، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله:**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْب }** [البقرة: 2- 3] فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول: كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى:**{ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ }** [البقرة: 98] ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام، ثم نقول. أما قوله: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق، فإذا قلنا فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالأَتفاق لكن لا بدّ معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذباً فهو إلى الذم أقرب. المسألة الثانية: المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلاً، ومنزلاً، ومنزولاً به، أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به، وهذا كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤدي في سفل. وقوله الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر. فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى، وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلفقه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم. المسألة الثالثة: قوله: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } هذا الإيمان واجب، لأنه قال في آخره:**{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 5] فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل، لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملاً إلا إذا علمه على سبيل التفصيل، لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل غير واجب على العامة، وأما قوله: { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد، والإيمان به واجب على الجملة، لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل، بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل، وأما قوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: الآخرة صفة الدار الآخرة، وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | المسألة الثانية: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه، فلذلك لا يقول القائل: تيقنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي لما أن العلم به غير مستدرك، ويقال ذلك في العلم الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً، فيقول القائل: تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء. المسألة الثالثة: أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار. روى عنه عليه السلام أنه قال: **" يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قيل: المراد مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سَلاَم وفيه نزلت، ونزلت الأولى في مؤمني العرب. وقيل: الآيتان جميعاً في المؤمنين، وعليه فإعراب «الذين» خفضٌ على العطف، ويصح أن يكون رفعاً على الاستئناف أي وهم الذين. ومن جعلها في صنفين فإعراب «الذين» رفع بالابتداء، وخبره { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } ويحتمل الخفض عطفاً. قوله تعالى: { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني الكتب السالفة بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا }** [البقرة:91] الآية. ويقال: لما نزلت هذه الآية: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قالت اليهود والنصارى: نحن آمنّا بالغيب، فلما قال: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قالوا: نحن ننفق ونتصدّق، فلما قال: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } نفروا من ذلك، **" وفي حديث أبِي ذَرّ قال قلت: يا رسول الله كم كتاباً أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شِيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» "** الحديث أخرجه الحسين الآجُرّي وأبو حاتم البُسْتِيّ. وهنا مسألة: إن قال قائل: كيف يمكن الإيمان بجميعها مع تنافي أحكامها؟ قيل له فيه جوابان: أحدهما: أن الإيمان بأن جميعها نزل من عند الله وهو قول من أسقط التعبد بما تقدّم من الشرائع. الثاني: أن الإيمان بما لم ينسخ منها وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدّمة، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي وبالبعث والنشر هم عالمون. واليقين: العلم دون الشك يقال منه: يَقْنِتُ الأمرَ بالكسر يَقْناً، وأيقنتُ وٱستيقنتُ وتيقّنتُ كله بمعنىً، وأنا على يقين منه. وإنما صارت الياء واواً في قولك: مُوقِن، للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مُييْقِن. والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع. وربما عبروا باليقين عن الظن، ومنه قول علمائنا في اليمين اللَّغْو: هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شيء عليه قال الشاعر: | **تَحسَّبَ هَواسٌ وأيْقنَ أنّنِي** | | **بها مُفْتدٍ مِن واحِدٍ لا أُغَامِرُهْ** | | --- | --- | --- | يقول: تشمّم الأسد ناقتي، يظنّ أنني مُفْتَدٍ بها منه، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته. فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير وسيأتي. والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها، كما أن الدنيا مشتقة من الدّنو على ما يأتي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه، معطوفون على**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلاً { لّلْمُتَّقِينَ } وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. أو على المتقين وكأنه قال { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك، والذين آمنوا من أهل الملل. ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم، وَوُسِّط العاطف كما وسط في قوله: | **إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام** | | **وليْثِ الكتيبةِ في المزْدَحمْ** | | --- | --- | --- | وقوله: | **يا لهفَ ذؤابةَ للحارثِ الصَـ** | | **ائحِ فالغَانمِ فالآيِبِ** | | --- | --- | --- | على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع. وكرر الموصول تنبيهاً على تغاير القبيلين وتباين السبيلين. أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم. والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول. والمراد { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد. أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع، ونظيره قوله تعالى:**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** [الأحقاف: 30] فإن الجنَّ لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله مُنَزَّلاً حينئذ. وبما { أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة، والإيمان بها جملةً فرض عين، وبالأول دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض، ولكن على الكفاية. لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش. { وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي يوقنون إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، واختلافهم في نعيم الجنة: أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ وفي دوامه وانقطاعه، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان. واليقين: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً، ولذلك لا يوصف به علم البارىء، ولا العلوم الضرورية. والآخرة تأنيث الآخر، صفة الدار بدليل قوله تعالى:**{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ }** [القصص: 83] فغلبت كالدنيا، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام، وقرىء يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره: | **لحبِّ المؤقدان إلى مؤسَى** | | **وجعدةَ إذ أضاءهما الوقودُ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال ابن عباس والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، أي يصدّقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم، وبالآخرة هم يوقنون، أي بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان. وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا. وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا، هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }** البقرة 3 ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير أحدها أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب، ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم. قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة، والثاني هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب. وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات كما قال تعالى**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ }** الأعلى 1 - 5 وكما قال الشاعر | **إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكَتِيْبَةِ في المُزْدَحَمْ** | | | | --- | --- | --- | فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد. والثالث أن الموصوفين أوّلاً مؤمنو العرب، والموصوفون ثانياً بقوله { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } لمؤمني أهل الكتاب. نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس، وابن مسعود، وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويستشهد لما قال بقوله تعالى**{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ }** آل عمران 199 الآية. وبقوله تعالى**{ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** القصص 52 - 54 وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها "** وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين عربي وكتابي قلت والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال أربع آيات من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله من الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة كما أنّ هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال**{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِىۤ أَنَزلَ مِن قَبْلُ }** النساء 136 الآية وقال تعالى**{ وَلاَ تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِىۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ }** العنكبوت 46 الآية وقال تعالى**{ يَـٰأَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ }** النساء 47 وقال تعالى**{ قُلْ يَـٰۤأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ }** المائدة 68 وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى**{ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }** البقرة 285 وقال تعالى**{ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ }** النساء 152 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام، وآمنوا به مفصلاً، كان لهم على ذلك الأجر مرتين. وأما غيرهم، فإنما يحصل له الإيمان بما تقدّم مجملاً كما جاء في الصحيح **" إذا حدّثكم أهل الكتاب، فلا تكذبوهم، ولا تصدّقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم "** ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي القرآن { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي التوراة والإنجيل وغيرهما { وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } يعلمون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
قيل هم مؤمنو أهل الكتاب، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت. وقد رجح هذا ابن جرير، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى**{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ }** آل عمران 119 وبقوله تعالى**{ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ \* أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ }** الآية القصص 52 ــ 54. والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب. وقيل الآيتان جميعاً في المؤمنين على العموم. وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير هدى للمتقين وللذين يؤمنون بما أنزل إليك. والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن. وما أنزل من قبله هو الكتب السالفة. والإيقان إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه، قاله في الكشاف. والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك. والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى**{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً }** القصص 83 وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به، والقطع بوقوعه. وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل تغليباً للموجود على ما لم يوجد، أو تنبيهاً على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي يصدقونك بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } إيماناً بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك. وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية. فمن ذلك قوله تعالى**{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ }** النساء 136 وكقوله**{ وَقُولُواْ ءامَنَّا بِٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ }** العنكبوت 46، وقوله**{ آمن الرسول بما انزل إليه مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ }** البقرة 285، وقال**{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ }** النساء 152. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني بالقرآن قوله: { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب، ويقال: لما نزلت هذه الآية: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب. فلما قال { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } قالوا: نحن نقيم الصلاة. فلما قال: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } قالوا: نحن ننفق ونتصدق. فلما قال: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } نفروا من ذلك. وقوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي يقرُّون [يوم] القيامة والجنة والنار، والبعث، والحساب، والميزان. واليقين على ثلاثة أوجه: يقين عيان، ويقين خبر، ويقين دلالة. فأما يقين العيان: إذا رأى شيئاً زال عنه الشك في ذلك الشيء وأما يقين الدلالة: هو أن يرى دخاناً يرتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك ناراً وإن لم يرها. وأما يقين الخبر: فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد، وإن لم يكن يعاينها. فها هنا يقين خبر، ويقين دلالة، أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية. ثم قال عز وجل { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى أي أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم، وبين لهم طريقهم. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } في الآخرة، أي الناجون. يعني أن الله تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان، وفي الآخرة بالنجاة وقد قيل: الفلاح هو البقاء في النعمة. وقد قيل: الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل. ويقال: معناه قد وجدوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا. وكل ما في القرآن المفلحون فتفسيره هكذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وما بعدها. أما قوله: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن، { وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني به التوراة والإنجيل، وما تقدم من كتب الأنبياء، بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى، في إيمانهم ببعضها دون جميعها. { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } فيه تأويلان: أحدهما: يعني الدار الآخرة. والثاني: يعني النشأة الآخرة وفي تسميتها بالدار الآخرة قولان: أحدهما: لتأخرها عن الدار الأولى. والثاني: لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا لدنِّوها من الخلق. وقوله: { يُوقِنُونَ } أي يعلمون، فسمي العلم يقيناً لوقوعه عن دليل صار به يقيناً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها. فقال قوم: " الآيتان جميعاً في جميع المؤمنين ". وقال آخرون: " هما في مؤمني أهل الكتاب ". وقال آخرون: " الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت ". قال القاضي أبو محمد: فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب و { الذين } خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعاً على الاستنئاف، " أي وهم الذين " ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب " الذين " رفع على الابتداء، وخبره { أولئك على هدى } ويحتمل أن يكون عطفاً. وقوله: { بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب. " بما أنزل... وما أنزل " بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول أظهر وألزم. { وبالآخرة } قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل بالنشأة الآخرة. و { يوقنون } معناه يعلمون علماً متمكناً في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه الله: " فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك " تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين. وقوله تعالى: { أولئك } إشارة إلى المذكورين، و " أولاء " جمع " ذا " ، وهو مبني على الكسرة لأنه ضَعُفَ لإبهامه عن قوة الأسماء، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب، و " الهدى " هنا الإرشاد. و { أولئك } الثاني ابتداء، و { المفلحون } خبره، و { هم } فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون { هم } ابتداء، و { المفلحون } خبره، والجملة خبر { أولئك } ، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد: [الرمل]. | **اعقلي إن كنت لمّا تعقلي** | | **ولقد أفلح من كان عقلْ** | | --- | --- | --- | وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله: [الطويل] | **ونرجو الفلاحَ بَعْدَ عادٍ وحمْيَرِ** | | | | --- | --- | --- | وقول الأضبط: [المنسرح] | **لِكُلّ همٍّ من الهموم سَعَهْ** | | **والصُّبْحُ والمسى لا فلاح معه** | | --- | --- | --- | والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { والذين يؤمنون بما أُنزل إِليك } اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أَحدهما: أَنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل. والثاني: أَنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله. رواه أبو صالح عن ابن عباس، قال المفسرون: الذي أنزل إليه، القرآن. وقال شيخنا علي بين عبيد الله: القرآن وغيره مما أُوحي إِليه. قوله تعالى: { وما أُنزل من قبلك } يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما «الآخرة» فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها: وقيل. سميت آخرة لأنها نهاية الأمر. قوله تعالى: { يوقنون } اليقين: ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } القرآن. { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }: التوراة، والإنجيل وسائر الكتب. { وَبِالأَخِرَةِ }: النشأة الآخرة، أو الدار الآخرة لتأخرها عن الدنيا، أو لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا لدنوها منهم { يُوقِنُونَ }: يعلمون، أو يعلمون بموجب يقيني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أي يصدقون بالقرآن المنزل عليك وبالكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء كلها فيجب الإيمان بذلك كله { وبالآخرة } يعني بالدار الآخرة سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا وكونها بعدها { هم يوقنون } من الإيقان وهو العلم والمعنى يستيقنون ويعلمون أنها كائنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ... } قال الزمخشري: إن قلت إنْ عَنَى بما أنزل إليك كلّ القرآن فليس بماض وإن أراد بما سبق (إنزاله) منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب. (ورده) ابن عرفة: بأنه إنما يجب مع العلم بإنزال ما وسينزل منه. أما مع عدم العلم/ فلاَ يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط. وأمّا ما لمْ يعلم في الحال بأنه سينزل (فلسنا) بمكلفين بالإيمان به. وأجاب الزمخشري: أن المراد بالإيمان بالجميع، وعبر بالماضي تغليا لما أنزل على ما سينزل. قال ابن عرفة: ويلزم على كلام الزمخشري استعمال اللّفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها. وفيه خلاف عند الأصوليين. قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وقد كان (حينئذ) ماضيا. قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا لم أره لأحد وهو هلا قيل: والذينَ يُؤْمِنونَ بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك (فهو) الأَرْتَبُ ليكونَ الأَسْبَقَ في الوجود (متقدما) في اللّفظ؟ قال: وعادتهم يجيبون عنه بأن الإيمان بما أنزل على النّبي صلى الله عليه وسلم سبب في الإيمان بما أنزل من قبله، لأن المكلف إن آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويرى سائر المعجزات، فيطلع (من ذلك) على أخبار الكتب السّابقة وصحتها، فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود وأخبار النصارى عنها: قيل (له): أو يجاب (عنه): بأنه قدم لكونه أشرف وأحد أسباب تقدم الشرف. قال: وهلا أخر ويكون (مترقيا)؟ قوله تعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ... } المنعوت إما النشأة الآخرة أو الدار الآخرة أو الملة (الآخرة)، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة، وعموما (هذا) في نوع الموصوف فلا يمنع الخصوص. قوله تعالى: { هُمْ يُوقِنُونَ } إن قلنا: إن العلوم متفاوتة، فنقول: اليقين أعلاها. وإن قلنا: إنها لا تتفاوت في (أنفسها)، فنقول: اليقين منها هو العلم الذي لا يقبل التشكيك (وغيره هو العلم القابل للتشكيك) وهو قسمان: بديهي، ونظري. فالتشكيك في الأمور الضرورية البديهية غير قادح بوجه، والتشكيك في النظريات ممكن (شائع). وبهذا يفهم اختلاف العلماء الذين هم مجتهدون فيصوب أحدهم قولا ويخطئه الآخر، (وقد) (أَلِفَ) الناس التشكيك على كتاب إقليدس في الهندسة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ)
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّنْ رَّبّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }: اختلف المتأوِّلون من المراد بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم: الآيتان جميعاً في جميع المؤمنينَ، وقال آخرون: هما في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتاب، وقال آخرون: الآية الأولَىٰ في مُؤْمِنِي العربِ، والثانيةُ في مؤمني أهل الكتاب؛ كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ؛ وفيه نزلت. وقوله: { بِمَا أَنْزِلَ إِلَيْكَ }: يعني القرآن، { وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، يعني: الكتب السالفة، و { يُوقِنُونَ } معناه: يعلَمُونَ عِلْماً متمكِّناً في نفوسهم، واليقين أعلَىٰ درجات العلم. وقوله تعالَىٰ: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّنْ رَّبِّهِمْ } إِشارة إِلى المذكورين، والهُدَىٰ هنا: الإِرشاد، والفلاحُ: الظَّفَر بالبغية، وإدراك الأمل. قوله تعالَىٰ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ } إلى { عَظِيمٌ }: اختلف فيمن نزلَتْ هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامَّة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم: هي فيمن سبق في علْمِ اللَّه، أنه لا يؤمِنُ، وقال ابن عَبَّاسٍ: نزَلَتْ في حُيَـــيٍّ بْنِ أَخْطَبَ، وأَبِي ياسِرِ بنِ أَخْطَبَ، وكعب بن الأَشْرَفِ، ونظرائهم. والقولُ الأول هو المعتمد عليه. وقوله: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } معناه: معتدلٌ عندهم، والإِنذار: إعلام بتخويف، هذا حدُّه، وقوله تعالى: { خَتَمَ }: مأخوذ من الخَتْم، وهو الطبعُ، والخاتَمُ: الطابَعُ؛ قال في مختصر الطبريِّ: والصحيح أن هذا الطبع حقيقة.......... لا أنه مجاز؛ فقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: **" إنَّ العَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ وَٱسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زَادَتْ؛ حَتَّىٰ تَغَلَّقَ قَلْبُهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14] "** انتهى. والغِشَاوَةُ: الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالَىٰ: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }: معناه: لِمخالفتِكَ يا محمَّد، وكفرِهِمْ باللَّهِ، و { عَظِيمٌ }: معناه بالإضافة إِلى عذابٍ دونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" والَّذِين " عطف على " الذين " قبلها، ثم لك اعتباران: أحدهما: أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله: [المتقارب] | **128- إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ** | | **وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ** | | --- | --- | --- | وقوله: [السريع] | **129- يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْـ** | | **ـصَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ** | | --- | --- | --- | يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل: إن المراد بها واحد. الثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع " الَّذِين " المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله. ويجوز أن يكون عطفاً على " المتّقين " ، وأن يكون مبتدأ خبره " أولئك " ، وما بعدها إن قيل: إنهم غير " الذين " الأولى. و " يؤمنون " صلة وعائد. و " بما أنزل " متعلّق به و " ما " موصولة اسمية، و " أنزل " صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال: لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل. و " إليك " متعلّق بـ " أنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاء الغاية، ولها معان أخر: المُصَاحبة:**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2]. والتبيين:**{ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ }** [يوسف: 33]. وموافقة اللام و " في " و " من ":**{ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ }** [النمل: 33] أي: لك. وقال النابغة: [الطويل] | **130- فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنَّنِي** | | **إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ** | | --- | --- | --- | وقال الآخر: [الطويل] | **131-.....................** | | **أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا** | | --- | --- | --- | أي: لا يروى منّي، وقد تزاد؛ قرىء: " تَهْوَى إليهم " [إبراهيم: 37] بفتح الواو. و " الكاف " في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً كـ " تاء " المُخَاطب. ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها. و " النزول " الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى:**{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ }** [الصافات: 177] أي حلّ ووصل. قال ابن الخطيب: والمراد من إنزال الوَحْي، وكون القرآن منزلاً، ومنزولاً به - أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القَصْر، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ، فينزل ويؤدي في سفل، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل، ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال: فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر. فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقّفه جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل في معنى فلان آمن بكذا قال ابن الخطيب: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى بـ " الباء " ، فالمراد منه التصديق. فإذا قلنا: فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان - ها هنا - خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب. و " ما " الثانية وَصِلَتُهَا عطف " ما " الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على " ما " التي قبلها، فتأمله. واعلم أن قوله: " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله:**{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }** [البقرة: 4] يعني: التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيدَ تشريف لهم كما في قوله:**{ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ }** [البقرة: 98]، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام. و " من قبلك " متعلّق بـ " أنزل " ، و " من " لابتداء الغاية، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض " بعد " ، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله: [الوافر] | **132- فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً** | | **أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ** | | --- | --- | --- | وقال الآخر: [الطويل] | **133- وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ** | | **فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لَذَّةٍ خَمْراً** | | --- | --- | --- | ومن البناء قوله تعالى:**{ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }** [الروم: 4] وزعم بعضهم أن " قبل " في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً. فإذا قلت: " قمت قبل زيد " فالتقدير: قمت [زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد]، وفيه نظر لا يخفى على متأمله. واعلم أن حكم " فوق وتحت وعلى وأول " حكم " قبل وبعد " فيما تقدّم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرىء: " بِمَا أَنْزلَ إِلَيْكَ " مبنياً للفاعل، وهو الله - تعالى - أو جبريل، وقرىء أيضاً: " بِمَا أُنْزِلّ لَيْك " بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما سكنه الأخر في قوله: [الرمل] | **134- إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطْ بِجُلْجُلاَنِ** | | | | --- | --- | --- | بتسكين " خُلط " ثم حذف همزة " إليك " ، فالتقى مِثْلاَن، فأدغم لامه. و " بالأخرة " متعلّق بـ " يوقنون " ، و " يوقنون " خبر عن " هم " ، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله:**{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلَةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف:**{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** [البقرة: 3]؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل: " ومما رزقناكم هم ينفقون ". والمراد من الآخرة: الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا. والآخرة تأنيث آخر مقابل لـ " أول " ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة، أو النشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى:**{ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ }** [الأنعام: 32] وقال:**{ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ }** [العنكبوت: 20]. و " يوقنون " من أيقن بمعنى: استيقن، وقد تقدّم أن " أفعل " [يأتي] بمعنى: " استفعل " أي: يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم. وقيل: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً. وقيل: الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً، إذ ليس علمه عن استدلال. وقرىء: " يُؤْقِنُون " بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط: منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخفيفها، وألاّ يكون مدغماً فيها، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة " آل عمران " عند قوله:**{ وَلاَ تَلْوُنَ عَلَىٰ أحَدٍ }** [آل عمران: 153]، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ " بالسُّؤْقِ " [ص: 33] و " على سُؤْقِهِ " [الفتح: 29] وقال الشاعر: [الوافر] | **135- أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى** | | **وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ** | | --- | --- | --- | بهمز " المؤقدين ". وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك. وجاء بـ " أنزل " ماضياً، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوعه، فكأنه نزل من باب قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ }** [النحل: 1]، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه. فصل فيما استحق به المؤمنون المدح قال ابن الخطيب: إنه - تعالى- مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب، والسؤال، وإدخال المؤمنين الجَنّة، والكافرين النار. روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: **" يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور، وهو [في] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة، ما فيها من النعيم، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور، وهو يعلم أن أوله نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قَذرة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أي يصدقونك بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم { وبالآخرة هم يوقنون } أي بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربك. واخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } قال: هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل { وما أنزل من قبلك } أي الكتب التي قد خلت قبله { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } قال: استحقوا الهدى والفلاح بحق، فأحقه الله لهم، وهذا نعت أهل الإِيمان ، ثم نعت المشركين فقال**{ إن الذين كفروا سواء عليهم }** [البقرة: 6] الآيتين. وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والحاكم والبيهقي في الدعوات عن أبيّ بن كعب قال **" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء اعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع قال: وما وجعه؟ قال: به لمم قال: فائتني به. فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة، وهاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163] وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [آل عمران: 18] وآية من الأعراف { إن ربكم الله } [الآعراف: 54] وآخر سورة المؤمنين { فتعالى الله الملك الحق } [المؤمنون: 116] وآية من سورة الجن { وأنه تعالى جدُّ ربنا } [الجن: 3] وعشر آيات من أوّل الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و { قل هو الله أحد } و(المعوّذتين) فقام الرجل كأنه لم يشك قط ".** وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه. مثله سواء. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا يقرأن على مجنون إلاَّ أفاق. وأخرج الدارمي وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح. أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتيمها. أولها**{ لله ما في السماوات }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | [البقرة: 284]. وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي في شعب الإِيمان عن المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبد الله قال: من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن. أربع آيات من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث من آخرها. وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول **" إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة، في قبره ".** وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج قال: قال لي أبي: يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله، وعلى ملة رسول الله. ثم سن علي التراب سناً، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها. فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وأخرج ابن النجار في تاريخه من طريق محمد بن علي المطلبي عن خطاب بن سنان عن قيس بن الربيع عن ثابت بن ميمون عن محمد بن سيرين قال: نزلنا يسيري فأتانا أهل ذلك المنزل فقالوا: ارحلوا فانه لم ينزل عندنا هذا المنزل أحد إلا اتخذ متاعه فرحل أصحابي وتخلفت للحديث الذي حدثني ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" من قرأ في ليلة ثلاثاً وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة سبع ضار، ولا لص طار، وعوفي في نفسه، وأهله، وماله حتى يصبح ".** فلما أمسينا لم أنم حتى رأيتهم قد جاءوا أكثر من ثلاثين مرة، مخترطين سيوفهم فما يصلون إلي، فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ منهم فقال: يا هذا إنسي أم جني؟ قلت: بل إنسي! قال: فما بالك..! لقد أتيناك أكثر من سبعين مرة كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد. فذكرت له الحديث، والثلاث وثلاثون آية، أربع آيات من أول البقرة إلى قوله { المفلحون } وآية الكرسي، وآيتان بعدها إلى قوله { خالدون } [البقرة: 257] والثلاث آيات من آخر البقرة**{ لله ما في السماوات وما في الأرض }** [البقرة: 284] إلى آخرها وثلاث آيات من الأعراف { إن ربكم الله } إلى قوله { من المحسنين } [الأعراف: 54ـ57] وآخر بني إسرائيل**{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }** [الإِسراء: 110] إلى آخرها، وعشر آيات من أوّل الصافات إلى قوله { لازب } وآيتان من الرحمن**{ يا معشر الجن والإِنس }** إلى قوله**{ فلا تنتصران }** [الرحمن: 33ـ34] ومن آخر الحشر**{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل }** [الحشر: 21] إلى آخر السورة، وآيتان من**{ قل أوحي }** إلى**{ وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة }** إلى قوله**{ شططاً }** [الجن: 1ـ4]. فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال لي: كنا نسميها آيات الحرب، ويقال: إن فيها شفاء من كل داء. فعدّ عليّ الجنون، والجذام، والبرص، وغير ذلك. قال محمد بن علي: فقرأتها على شيخ لنا قد فلج حتح أذهب الله عنه ذلك. وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة أوّل النهار لا يقربه شيطان حتى يمسي، وإن قرأها حين يمسي لم يقربه حتى يصبح، ولا يرى شيئاً يكرهه في أهله وماله، وإن قرأها على مجنون أفاق. أربع آيات من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } معطوفٌ على الموصول الأول، على تقدير وصلِه بما قبله، وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً، أو من حيث المعنى فقط، اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام، إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبـيرُ عن المؤْمَن به بالغيب، وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلةِ قبله، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابِه، أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة، ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية، لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها، الموجبةِ للاتقاء عنها، بخلاف الآخرين، فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة، بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار، ويجوز أن يُجعلَ كِلا الموصولين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيطُ العاطفِ بـينهما لاختلاف الذوات، بل لاختلاف الصفات كما في قوله: [المتقارب] | **إلى الملِكِ القَرْم وابنِ الهُمام** | | **وليثِ الكتيبةِ في المُزدَحَمْ** | | --- | --- | --- | وقــولِـه: [السريع] | **يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ** | | **الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ** | | --- | --- | --- | للإيذان بأن كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله، له شأنٌ خطير مستتبِعٌ لأحكام جمّة، حقيقٌ بأن يُفردَ له موصوفٌ مستقل، ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر، وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له، فإن كمالَ العلم بالعمل، وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبـيهاً على كمال صِحتِه، وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابـين من الخلل كما سيأتي، هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان، وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف، فإن كلاً من الإيمان الغيبـيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين ــ مع قطع النظر عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن به ــ فضيلةٌ باهرة، مستدعية لما ذكر، والله تعالى أعلم. وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بـين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية، وبـين الإيمانِ لا طريقَ إليه غيرُ السمع. وتكريرُ الموصول للتنبـيه على تغايُر القَبـيلَيْن، وتباينُ السبـيلين فلْيُتأمَّلْ، وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيصَ جبريلَ ومكائيلَ به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل ما لهم من الكمال. [معنى إنزال الكتاب] والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام، والمراد (بما أنزل إليك) هو القرآنُ بأسره، والشريعةُ عن آخرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والتعبـيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ ــ لتحقُّقه ــ منزلةَ الواقع، كما في قوله تعالى:**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** [الأحقاف، الآية30] مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبـياء عليهم السلام، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى:**{ قُولُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ }** [البقرة، الآية 136] الآية. والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ، وبالقرآنِ تفصيلاً - من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله - فرضُ كفاية، فإن في وجوبه على الكل - عَيناً - حَرَجاً بـيناً، وإخلالاً بأمر المعاش، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء، وقد قُرئا على البناء للفاعل. { وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه، ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً، أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ، واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبـيل نعيم الدنيا أو لا، وهل هو دائم أو لا، وفي تقديم الصلة وبناءِ (يوقنون) على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب، فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين. والآخرةُ تأنيثُ الآخِر، كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى، غَلَبتا على الدارين فجرَتا مَجرىٰ الأسماء، وقرىء بحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها على اللام، وقرىء يؤقنون بقلب الواو همزة، إجراءً لضم ما قبلها مُجرىٰ ضمِّها في وجوه ووقتت، ونظيره ما في قوله: [الوافر] | **لحب المؤقدان إلى مؤسى** | | **وجعدة إذ أضاءهما الوقود** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان ها هنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلى الله عليه وسلم في بعض ما أخبر يوجب تصديقه في جميع ما أخبر، فإن دلالة صِدْقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله حقاً، وكأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني بعرش ربي بارزاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبْتَ فالْزَمْ "** وهذا عامر بن عبد القيس يقول: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ والذين يؤمنون } نزلت فى مؤمنى اهل الكتاب وما قبله الى قوله تعالى { ومما رزقناهم ينفقون } نزلت فى مؤمنى العرب { بما انزل اليك } هو القرآن باسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن انزاله بالماضى مع كون بعضه مترقبا حينئذ لتغليب المحقق على المقدر او لتنزيل ما فى شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما فى قوله تعالى**{ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى }** الأَحقاف 30 مع ان الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا ولا كان الجمع اذ ذاك نازلا. وفى الكواشى لان القرآن شئ واحد فى الحكم ولان المؤمن ببعضه مؤمن بكله انتهى ثم معنى ما انزل اليك هو القرآن الذى يتلى والوحى الذى لا يتلى فالمتلو هو هذه الصور والآيات وغير المتلو ما بين النبى عليه السلام من اعداد الركعات ونصب الزكوات وحدود الجنايات قال تعالى**{ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى }** النجم 3-4 ولانزال فى هذا الآية بمعنى الوحى ويكون بمعنى الاعلاء وهو النقل من الاسفل الى الاعلى وان حمل الانزال الذى هو من العلو الى السفل فمعناه انزال جبريل لتبليغه كما قال تعالى**{ نزل به الروح الأمين }** الشعراء 193 يعنى ان الانزال نقل الشئ من اعلى الى اسفل وهو انما يلحق المعانى بتوسط لحقوقه الذوات الحاملة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الآلهية الى الرسل عليهم السلام والله اعلم بان يتلقاها الملك من جنابه عز وجل تلقيا روحانيا او يحفظها من اللوح المحفوظ فينزل بها الى الرسل فيلقيها عليهم { وما انزل من قبلك } التوراة والانجيل وسائر الكتب السالفة والايمان بالكل جملة فرض عين وبالقرآن تفصيلا من حيث انا متعبدون بتفاصيله فرض كفاية فان فى وجوبه على الكل عينا حرجا بينا واخلالا بامر المعاش. قال فى التيسير الايمان بكل الكتب مع تنافى احكامها على وجهين احدهما التصديق ان كلها من عند الله والثانى الايمان بما لم ينسخ من احكامها { وبالاخرة } تأنيث الآخر الذي يقابل الاول وهو فى المعدودات اسم للفرد اللاحق وهى صفة الدار بدليل قوله تعالى**{ تلك الدار الآخرة }** القصص 83 وهى من الصفات الغالبة وكذا الدنيا والآخرة بفتح الخاء الذى يلى الاول وسميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا { هم يوقنون } الايقان اتقان العلم بالشئ بنفى الشك والشبه عنه نظرا واستدلالا ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقينا وكذا العلوم الضرورية اى يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان اهل الكتاب عليه من الشكوك والاوهام التى من جملتها زعمهم ان الجنة لا يدخلها الا من كان هودا او نصارى وان النار لم تمسهم الا اياما معدودات واختلافهم فى ان نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا اولا وهل هو دائم اولا فقال فرقة منهم يجرى حالهم فى التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها فى الدنيا وقال آخرون ان ذلك انما احتيج اليه فى هذه الدار من اجل نماء الاجسام ولمكان التوالد والتناسل واهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون الا بالنسيم والارواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من اهل الكتاب وبما كانوا عليه من اثبات امر الآخرة على خلاف حقيقته فان اعتقادهم فى امور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول الى مرتبة اليقين فدل التقديم على التخصيص بان ايقان من آمن بما انزل اليك وما انزل من قبلك مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز الى ما اثبته الكفار بالاقرار من اهل الكتاب \* قال ابو الليث رحمه الله فى تفسيره اليقين على ثلاثة اوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فاما يقين العيان فهو انه اذا رأى شيأ زال الشك عنه فى ذلك الشئ واما يقين الدلالة فهو ان يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين ان هناك نارا وان لم يرها واما يقين الخبر فهو ان الرجل يعلم باليقين ان فى الدنيا مدينة يقال لها بغداد وان لم ينته اليها فههنا يقين خبر ويقين دلالة لان الآخرة حق ولان الخبر يصير معاينة عند الرؤية انتهى كلامه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ويقال علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الاخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها والعلم اليقين هو العلم الحاصل بالادراك الباطنى بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية الا بمناسبة الارواح القدسية فاذا يكون العلم عينا ولا مرتبة للعين الا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة الا بزوال حجاب الاثنينية فاذا يكون العين حقا وزيادة هذه المرتبه اى حق اليقين عدم ورود الحجاب بعده وعينه للاولياء وحقه للانبياء وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل الا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الا كل والذكر او السكوت بالفكر فى ملكوت السموات والارض وباداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض واكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه الى الله تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة كذا فى شرح النصوص المسمى باسرار السرور بالوصول الى عين النور. ثم ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها فقد قيل عشرة من المغرورين من ايقن ان الله خالقه ولا يعبده ومن ايقن ان الله رازقه ولا يطمئن به ومن ايقن ان الدنيا زائلة ويعتمد عليها ومن ايقن ان الورثة اعداؤه ويجمع لهم | **توباخود ببرتوشة خويشتن كه شفقت نيايد زفرزندوزن** | | | | --- | --- | --- | ومن ايقن ان الموت آت فلا يستعد له ومن ايقن ان القبر منزله فلا يعمره ومن ايقن ان الديان يحاسبه فلا يصحح حجته ومن ايقن ان الصراط ممره فلا يخفف ثقله ومن ايقن ان النار دار الفجار فلا يهرب منها ومن ايقن ان الجنة دار الابرار فلا يعمل لها كما فى التيسير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قال ذو النون المصرى اليقين داع الى قصر الامل وقصر الامل يدعو الى الزهد والزهد يورث الحكمة والحكمة تورث النظر فى العواقب. قال ابو على الدقاق رحمه الله فى قول النبى عليه السلام فى عيسى ابن مريم عليهما السلام **" لو لم يزدد يقينا ما مشى فى الهواء ".** اشار بهذا الحديث الى حال نفسه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لان فى لطائف المعراج انه قال رأيت البراق قد بقى ومشيت \* وقال ابو تراب رأيت غلاما فى البادية يمشى بلا زاد فقلت ان لم يكن معه يقين فقد هلك فقلت يا غلام أيمشى فى مثل هذا الموضع بلا زاد فقال يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله تعالى فقلت الآن فاذهب حيث شئت. قال ابراهيم الخواص طلب المعاش لاكل الحلال فاصطدمت السمك فيوما وقع فى الشبكة سمك فاخرجتها وطرحت الشبكة فى الماء فوقعت اخرى فيها ثم عدت فهتف بى هاتف لم تجد معاشا الا ان تأتى الى من يذكر الله فتقتلهم فكسرت القصبة وتركت كذا فى الرسالة القشيرية وذكر فى التأويلات النجمية ان من تخلص من ذل الحجاب الوجودى يجد عزة الايقان بالامور الاخروية وكان مؤمنا بها من وراء الحجاب فصار موقنا بها بعد رفع الحجاب كما قال امير المؤمنين على كرم الله وجه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا لان من كشف عنه غطاء الوجود لا يحجبه غطاء المحسوسات الدنيوية عن الامور الاخروية فبكشف الحجب يتخلصون من مرتبة الايمان الى مرتبة الايقان كما قال تعالى { وبالآخرة هم يوقنون } ولكن هذا خاص اى يوقنون بالآخرة دون ما انزل على الانبياء من الكتب فانهم لا يتخلصون من مرتبة الايمان بالله وكتبه ابدا وهذا سر عظيم وما رأيت احدا فرق بين هاتين المرتبتين وذلك لانه لا يمكن للانسان ان يشاهد الامور الاخروية كلها بطريق الكشف فى الدنيا واما بطريق المشاهدة فى العقبى فيصير موقنا بها بعد ما كان مؤمنا كما قال تعالى**{ فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد }** ق 22. فاما ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته فلا مكن لاحد ان يشاهده بالكلية لانه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدة وان فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا من مرتبة الايمان بما لم يشاهدوا بعد ولا يحيطون به علما الى ابدا لآباد بل ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: الموصول مبتدأ، و { أولئك } خبره، أو عطف على { المتقين } ، وحذف المنزل عليه في جانب الكتب المتقدمة، فلم يقُلْ: وما أنزل على مَن قبلك إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف، إلا من ورد تعيينُه في الكتاب والسنّة فلا بد من الإيمان به، أما القرآن العظيم فلا بد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع، ولذلك ذكر المتعلق بقوله: { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }. يقول الحقّ جل جلاله: { وَالَّذينَ } يصدقون { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية { ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الكتب السماوية، والأخبار القدسية، وهم { يُوقِنُونَ } بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب، على نعتٍ ما أخبرتُ به في كتابي وأخبار أنبيائي، { أُولَئِكَ } راكبون على مَتْنِ الهداية، مُسْتَعْلون على محمل العناية، محفوفون بجيش النصر والرعاية، { وَأُولَئِكَ هُم } الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف ومرهوب، دون من عداهم ممن سبق له الخذلان، فلم يكن له إيمان ولا إيقان، فلا هداية له ولا نجاح، ولا نجاة له ولا فلاح، نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه. الإشارة: قلت: كأن الآية الأولى في الواصلين، والثانية في السائرين، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون. فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها، فهم يوقنون بوجود الحقيقة، عالمون برسوم الطريقة، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية.دون الفرقة الثالثة التي هي الإنكار موسومة، ومن نيل العناية محرومة، التي أشار إليها الحق تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
قوله: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } قال بما أنزل من القرآن إليك وما أنزل على الأنبياء قبلك من الكتب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة لا يمد القراء الألف من ما إلا حمزة فانه مدها، وقد لحن في ذلك. وكان يقف قبل الهمزة فيقرأ: وبالاخرة تسكيناً على اللام شيئاً ثم يبتدىء بالهمزة، وكذلك الارض وشيء يقطع عند الياء من شيء كأنه يقف ثم يهمز. وموضع (ما) خفض بالباء ويكره الوقف على (ما) لأن الألف حرف منقوص. التفسير وقال قتادة: { ما أنزل إليك } القرآن { وما أنزل من قبلك } الكتب الماضية، وقد بينا أن الأولى حمل الآيه على عمومها في المؤمنين، وذكرنا الخلاف فيه، والآخرة صفة الدار، فحذف الموصوف، قال الله تعالى:**{ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان }** ووصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى قبلها كما يقال: جئت مرة بعد أخرى، ويجوز أن يكون سميت بذلك لتأخيرها عن الخلق، كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق؛ وإيقانهم ما جحده المشركون من البعث والنشور والحساب والعقاب. وروي ذلك عن ابن عباس، والايقان بالشيء هو العلم به؛ وسمي يقينا لحصول القطع عليه وسكون النفس إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
يحتمل أن يراد بهؤلاء الموصوفين بالإيمان بما أُنزل على جميع الأنبياء وباليوم الآخر، أعيانُ المذكورين سابقا، كلاً أو بعضاً وتوسيط العاطف ها هنا كتوسيط بين الصفات في قولك: هو الشجاعُ والجوادُ وقوله: | **الى الملكِ القَرْم وابن الهمام** | | **وليثِ الكتيبة في المزدحَم** | | --- | --- | --- | على معنى انّهم الجامعون بين الإيمان العلمي ولوازمه - من التقوى عن محارم الله، والعملِ بما فرَضه الله عليهم من العبادات البدنية والماليّة - وبين الإيمان الكشفي بما لا يستقلّ العقل بإثباته، من كيفيّة إنزال الوحي على الأنبياء، وأحوال البعْث والحشْر. أو انّهم الجامعون بين المعقول والمسموع من الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح. وكرّر الموصول تنبيهاً على تباين المسلكين وتفاوت المنقبتين. ويحتمل أن يراد بهم طائفة أخرى، وهم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأترابه، من الذين آمنوا بالله لا عن شرك. فاشتمل ايمانهم على كلّ وحي أُنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة ايماناً زالَ معه ما كانوا عليه من أنّه: لا يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارىٰ، وأن النار لن تمسّهم إلاّ أياماً معدودات، ومن اختلافهم في نعيم الجنّة كالتلّذذ بالمطاعم والمناكح؛ أهو على حسب مجراها في الدنيا أم غيره، واختلافهم في الدوام والانقطاع. فعلى هذا، إما أن تكون هذه الجملة معطوفة على: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } فيكون هؤلاء داخلين مع المذكورين أولاً في جملة المتقين، دخول أخصَّين متقابلين تحت أعمّ، وجهة التباين أنّ المراد بأولئك هم الذين آمنوا عقيب شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم ممّن ليس كذلك، وكانت الآيتان تفصيلاً للمتّقين. وإما أن تكون معطوفة على المتّقين، فكأنّه قال: هدىً للمتّقين عن الشرك، وللّذين آمنوا من أهل الملل. والطائفتان هما أهل التزكية وأهل التحلية. وربما قيل: إن قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وإن كان شاملاً لأهل الكتاب وغيرهم، إلا انّ دلالة العامّ على بعض ما دخل تحته، ليس في القوّة كدلالة لفظ مخصوص به، إذ العامّ ممّا يحتمل التخصيص بما سوى هذا البعض، والخاصّ لا يحتمل ذلك، ولمّا كانت السورة مدنيّة وقد شرّف الله المسلمين بقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ذكر بعد ذلك مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونُظرائه في العلم واليقين بقوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } - الى آخره - لأنّ في هذا التخصيص بالذكْر مزيد تشريف لهم، كما في ذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة، وترغيب لأمثالهم في الدين القويم والصراط المستقيم، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاصّ بعد ذلك العامّ. فصل المراد { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } ، صورةُ ألفاظ القرآن السمعيَّة بأسرها، نزولاً سمعيّاً في عالَم الأشخاص والأجسام الغائبة عنّا، وصورة معانيها العقليّة عن آخرها، نزولاً قلبيّا في عالّم الأرواح القدسيّة، وإنّما عبَّر عن إنزالها بلفظ الماضي، وإن كان بعضها ممّا يترقّب إنزاله؛ لأنّ الأشياء المتجدّدة في موطن الدنيا، المتعاقبة في أزمنة كثيرة منها، إنّما هي مجتمعة ثابتة في المواطن العالية في زمان واحد دفعة واحدة، كما أشار اليه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }** [الحج:47]. وقوله:**{ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ }** [القدر:3 - 4]. وقيل: لأنّ القرآن شيء واحد في الحكم، ولأنّ المؤمن ببعضه مؤمن بكله. وقيل: هذا من باب التغليب للموجود على ما لم يوجَد، والتنزيل للمنتظَر المتوقَّع وقوعه منزلة الواقع كما في قوله تعالى:**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** [الأحقاف:30]، إذ الجنُّ لم يسمعوا جميعَ القرآن، ولم يكن الكتاب منزَلاً حينئذ كلّه. والمراد بما { أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }: سائر الكتب السماويّة السابقة، والايمان بها جميعاً على الجملة فرضُ عينٍ، لعدم تحقّق الفلاح بدونه كما يستفاد من قوله:**{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة:5]. وأمّا الإيمان التفصيلي بالمعارف الإلٰهيّة المذكورة فيها، التي لا تتبدّل بتعاقُب الزمانِ من علم التوحيد وعلمِ الملائكة وعلمِ المعاد وعلمِ النفس وعلمِ النبوّة والولاية والآيات وغيرها، فليس بواجبٍ على كل أحدٍ فرض عين، وإلاّ للزم الحرَج وبطَل النظام وتشوّش أمر المعاش المتوقّف عليه أمر المعاد. بل هو واجب على الكفاية، وعلى من هو ميسَّر له وخُلق لأجله، وكذا العلم والإيمان بأحكام الأول دون الثاني تفصيلاً من جهة كوننا متعبّدين بتفاصيل أحكامه فرض على الكفاية لا غير لما ذكرنا. فصل في كيفية إنزال الوحي على الأنبياء (عليهم السلام) كما يجب علينا الإيمان بالكتبِ الإلٰهيّة المنَزلة على الأنبياء (عليهم السلام)، فكذلك يجب على المؤمن ايماناً حقيقيّاً بما أُنزل إليهم من حيث كونه منَزلاً إليهم، أن يعلم كيفيّة الإنزال والإيحاءِ، وكيفيّة إرسال الأنبياء (عليهم السلام)، وفي ذمّة العالِم بتأويل القرآن، أن يحاول هذا العلم ويتعاطاه، فمن الدائر على ألسِنَة جماعة من المفسّرين وغيرهم من المتكلّمين، انّ المراد من إنزال الوحي انّ جبرائيل (عليه السلام) سمع في السماء كلام الله تعالى، فنزَل به على الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهذا كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل، ولكن المستمع سمع الرسالةَ في علوّ فينزل بها ويؤدّيها في سفل. وقول الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمعه ويؤدّي بلفظ نفسه. وربما استشكل بعضهم هذا - أي سماع جبرائيل كلامَ الله - سيّما القائل بأنّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف، فأجابوا عنه: أمّا المعتزلةُ: فبأنّه يخلق الله أصواتاً وحروفاً على لسان جبرائيل. وهذا معنى الكلام عندهم. وأمّا الأشاعرة فتارةً بأنّه يحتمل أن يخلق الله له سماعاً لكلامه، ثمّ أقدَرة على عبارة يعبِّر بها عن ذلك الكلام، وتارةً بأنّه يجوز أن يخلق الله في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص، فقرأ جبرائيلُ (عليه السلام) فحَفِظه، وتارةً بتجويز أن يَخلق أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقّفه جبرائيل، ويخلق له علْماً ضروريّاً بأنّه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم، هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وطائفة استدلّوا على كونِ الملائكة أجساماً متحيّزة؛ بأنّ وصف القرآن بالنزول الذي لا يتّصف به إلاّ المتحيّز بالذات دون الأعراض، وسيّما غير القارّ منها كالأصوات، إنّما هو بتبعيّة محلّه، سواء اخذ حروفاً ملفوظة، أو معاني محفوظة، وهو الملَك الذي يتلقّف الكلام من جانب الملِك العلاّم تلقّفاً سماعياً، أو يتلقّى القرآن تلقّياً قلبيّاً، أو يتحفّظه من اللوح المحفوظ ثمّ ينزل به على الرسول، ولا يتمشّىٰ ذلك إلاّ بالقول بتجسّم الملائكة، وهذا هو مسلك أرباب الجدَل والتخييل، دون أصحاب البصيرة والتحصيل. وأما على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحقّ وما عليه كافّة الحكماء الإلٰهيّين، والربّانيون من الإسلاميّين، وهو انّ الملائكة - كما مرّ - تطلق على قبائل علويّات وسفليّات، سماويّات وأرضيّات، قدسيّات وجسمانيّات، وفي القبائل شعوب بطبقات كالقُوى المنطبعة والطبائع الجوهريّة، والنفوس المفارقة، وأرباب الأنواع والصور المفارقة، والعقول القادسة بطبقات أنواعها. ومنها روح القدس النازل بالوحي النافث في أرواع اولي القوّة القدسيّة بإذن الله وغير ذلك ممّا لا يَعلم أعدادَها ولا أنواعها إلاّ الله كما قال:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر:31]. وقال (صلّى الله عليه وآله): **" اطّت السماء وحقّ لها أن تئِط. ما فيها موضعُ قدمٍ إلاّ وفيه مَلَك ساجد أو راكع ".** فالأمر غير مشتبه على الناهج منهجهم، والماشي ممشاهم، وقد مرّ منّا القول بأنّ كلام الله ليس مقصوراً على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقاً ألفاظاً كانت أو معاني، بل كلامه ومتكلّميّته، يرجع الى ضرب من قدرتِه وقادريّته، وله في كل عالَم من العوالِم العلويّة والسفليّة صورة مخصوصة. وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحاني والظهور العقلاني بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والملَكِ الحامل للوحي، فسمّوا ظهورَه العقلاني لنفوس الأنبياء (عليهم السلام) نزولاً، تشبيهاً للهبوط العقليِّ بالنزول الحسّي، وللاعتلاق الروحاني بالاتّصال المكاني، فيكون قولنا: نزَل الملكُ، استعارة تبعيّة، وقولنا: نزل الفرقان، مجازاً بتبعيّة تلك الاستعارة التبعيّة. وهذا ممّا فيه إسراف في فحوله التنزيه، كما في القول الأول في انوثة التشبيه، وإن في كِلا القولّين زَيغاً عن طريق الصواب، وحيداً عمّا فيه هدى لأولي البصائر والألباب، وشقاً لعصا الأمة لِفرَقها المتفرَقة وأحاديثها النبويّة المتواترة، وخرْقاً للقوانين العقليّة المنضبطة، فالأمّة مطبقة على أن النبي (صلّى الله عليه وآله)، كان يرى جبرائيل وملائكة الله المقرّبين (عليهم السلام)، ببصره الجسماني، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم القدسي، بسمعه الجسدانيّ الشخصي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والبرهان العقلي قائم بالقسط، على أنّ مناطَ الرؤية والسماع الحسيّين في الإنسان، وجودُ الصورة البصريّة، كالألوان والأشكال وغيرهما، والصورة المسموعة كالأصوات والحروف والكلمات عند النفس بقوّتها الباطنة المدركة للجزئيات الصوريّة، ومثولها بين يدي الحسّ الباطن لها، الذي هو مجمع الحواسّ الظاهرة، وإنّما المبصَر بالحقيقة والمسموع بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدي الحسّ الظاهر؛ هو صورته الحاضرة في ساحة النفس النطاقة وصقع ملكوتها. وأمّا وجود ذي الصورة بهويّته الخارجيّة ومادّته الوضعيّة، فهو مدرَك بالعرَض وبالقصد الثاني، وليس المثول الخارجي للمبصَر المادي بنسبته الوضعيّة الماديّة بالقايس الى الآلة الجسمانيّة الداثِرة وجليدتيها اللتين هما مسلكا التأدية، وليستا لوحي الانطباع، من الشرائط الضروية للإبصار، الذي هو قيام الصورة المبصَرَة في حضرة النفس، بل ذلك طريقُ واحد من طرق الحصول للصورة والمثول الإنكشافيّ النوريّ لها عند النفس، ما دام كونها في هذه النشأة الداثرة وعظيمة التعلّق بها وتمكن حصولها بطريق آخر للنفس، كما في النوم، حيث لا يكون وجودُ الصورة في مادّتها المخصوصة شرطاً لانكشافها وحضورها للنفس، وعلى هذا القياس شاكلةُ السمع أيضاً. ومبدأ حضور الصورة مطلقاً، هو واهب الصوَر، والإفاضة من تلقائه. وللنفس في ذاتها سمعاً وبصراً وشمّاً وذوقاً ولَمْساً وإن انسلخت عنها هذه الآلات العنصريّة الداثرة البائدة، وإنّما الحاجة لها الى هذه الداثرات، ما دام كونها الناقص الدنيوي، وعدم خروج قواها وحواسّها الباطنيّة من القوّة الى الفعل. فعند خروجها من ظلمات هذه الحواسّ، وغبار هذا العالَم الداثر، وبروزها لله من زيارة هذه المقابر، تشاهد المحسوسات بقوّتها المتخيّلة. ونحن قد أقمنا البرهان العرشيّ على جوهريّة القوّة الخياليّة وتجرّدها عن المادّة البدنيّة في الشواهد الربوبيّة عند البحث عن تحقيق المعاد الجسماني، فمَن كانت نفسه واغلة الهمّة في الجنبة السافلة، طفيفة الانجذاب الى الجنبة العالية، قليلة التوجّه الى يمين الحقّ وعالَم القدس، لم يكن لجوهر قلبه سبيلٌ الى مطالعة الصوَر الغيبيّة إلاّ من مسلك الحاسّة الظاهرة، والاتّصال بالآلة البدنية، وحضور المادّة الخارجيّة. فأمّا إذا كانت نفسُه قويّة العزيمة، مجموعة الهمّة، قدسيّة الفطرة، نقيّة الجوهر بحسب جِبلّتها المفطورة، أو بحسب ملكتها المكسوبة، وبالجملة، شديدة الاستحقار لعالَم الحسّ، قاهرة القوّة على تسخير القوى وضبطها، ذات سلطنة على خلع البدن ورفْض الحواسّ الظاهرة، والانصراف عنها الى صقع الملكوت بإذن ربّها؛ فهو مستغنٍ بقوة نفسه المتخيّلة اللامنغمسة في قوى البدن عن استعمال الحواسّ الظاهرة. فله أن يتلّقى الصورة الجزئية من معادنها الأصلية من غير استعانة بهذه الآلات، ويقتدر على تصوير المعاني بصوَرها المقداريّة في عالَم الصور الخالصة عن هذه الموادّ متىٰ شاء وحيث شاء. فمهما وجدت نفسُه فرصةً عن هذه الشواغل العارضة في اليقظة، تخلص بقوّتها المتخيّلة عن جانب الطبيعة، راجعة الى عالَمها، متّصلة بأبيها المقدّس وهو روح القدس، وبمَن شاء الله تعالى من الأرواح المقدّسة، ويستفيد من هناك العلْم والحكمة بالانتقاش على سبيل الرشْح، أو العكس، كمرآة مجلوّة حْوذِيَ بها شطْر الشمس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولكن حيث إنّ النفس تكون بعدُ في دار غربتها بالطبع، ولم تنسلخ ولم ترتفع أذيالها بالكليّة عن علاقتها التدبيريّة لقواها البدنيّة وجنودها الحسّية، أو انّها لم تتجرّد عن عالَم التمثّل بالكليّة وإن تجرّدت عن عالَم المادّة بالكليّة، فيكون منالها فيما تناله بحسب ذلك الشأن وتلك الدرجة، تحوّل الملك الحامل للوحي على صورة متمثّلة في شبح شخص بشريّ ناطق بكلمات إلٰهية منظومة مسموعة، كما قال تعالى:**{ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }** [مريم:17] يعني بذلك ارتسام الصورة عنده لا في لوح بنطاسياه - كما زعمه الظاهريّون من الحكماء ممن لا تحقيق له في علم النبوات -، ولا من سبيل الظاهر والأخذ عن مادة خارجيّة، بل بالانحدار إليه من العالم الأعلى، والنزول اليه من جانب اليمين وصقع الإفاضة. فإنّ الشأن في السماع والإبصار المشهورين انّه ترتفع صورة المسموع والمبصَر من الموادّ الخارجيّة الى لوح الانطباع، ثمّ منه الى عالَم الخيال والمتخيّلة. ثمّ يصعد الأمر الى النفس الناطقة، كما هو المعروف عند الجمهور، والمثبَت منهم في الكتب. وعندنا: النفس ترتفع من المحسوس الى المتخيّل، ومنه الى المعقول، والصور ثابتة في أحيازها وعوالمها. وفي إبصار المَلَك وسماعِ الوحي - وهما الإبصار والسماع الصريحان - ينعكس الشأن، فينزل الفيض من عالَم الأمر الى النفْس، فهي تطالع شيئاً من الملكوت مجرّدة غير مستصحبة لقوّة حسّية أو خياليّة أو وهميّة. ثمّ يفيض من النفس الى القوّة الخياليّة فتمثّل لها الصورة بما انضمّ اليها من الكلام في الخيال من معدن الإفاضة وصقْع الرحمة، ثمّ تنحدر الصورة المتمثّلة والعبارة المنظومة من الخيال والمتخيّلة الى الحسّ الشاهد، بل النفْس تنزل من العالَم الأعلى الى الأوسط، ثمّ الى الأدنى، فتشاهد في كل عالَم ما يتعارف لها ويناسبها على عكس الحالة الأولى، لأنّ تلك الحركة عُروجيّة وهذه نزوليّة، فتسمع الكلام وتبصر الصورة في كلّ عالَم من العوالم الثلاثة. وهذا أفضل ضروب الوحي والإيحاء، وله أنحاء مختلفة ومراتب متفاضلة بحسب درجات النفس. وقد يكون في بعض الدرجات لا يتخصّص المسموع والمبصر بجهة من جهات العالَم بخصوصها، بل الأمر يعمّ الجهات بأسرها في حالة واحدة، وقد يكون بخلاف ذلك. وفي الحديث: **" إنّ الحارث بن هاشم سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله): كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرَس، وهو أشدّ عليَّ، فيفصم عنّي وقد وعيتُ عنه ما قال. وأحياناً يمثّل لي المَلَك رجلاً فيكلّمني، فأعِي بالقول ".** وربما تكون صقالة النفس النبويّة أتم، وتجرّدها في بعض الأحايين أقوىٰ، وسلطانها على قهر الصوارف الجسدانيّة والشواغل الهيولانيّة أعظم، فيكون عند الانصراف عن عالم الحسّ والاتّصال بروح القدس، استيناسها بجوهر ذاته المجرّدة، أشدّ منه بالشبح المتمثّل، فتشاهد ببصر ذاتها العاقلة الصائرة عقلاً بالفعل، معلّمَها القدسي ومخرجَها من حدّ القوّة النفسانيّةِ الهيولانية الى حدّ الكمال العلمي والعقل الصوري، وتستفيد منه وهو في صورة القدسيّة، العلومَ والأحوالَ، كما قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }** [النجم:5 - 8]. وربما وصل النبي (صلّى الله عليه وآله) الى مقامٍ أعلى من أن تتوسّط بينه وبين المبدأ الأول والمُفيض على الكلّ واسطة، فسمع كلام الله بلا واسطة، كما قال تعالى:**{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }** [النجم:8 - 10]. وقد ذُكر انّ النبي (صلّى الله عليه وآله) إنّما رأى جبرائيل (عليه السلام) بصورته الحقيقيّة مرّتين وكان بحيث طبّق الخافقَين. والى مثل هذه الرؤية له (عليه السلام) أشار تعالى بقوله:**{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ }** [النجم:13 - 14]. ثمّ دون هذا الضرب بسائر درجاته، مما يتّفق لمن له من القوّة القدسيّة نصيبٌ أن يرى ملائكة الله، ويسمع كلامَ الله، ولكن في النوم لا في اليقظة، وسبيل القول أيضاً انّ الأمر ها هنا ينتهي الى القوّة المتخيّلة، ويقف عندها بمحاكاتها وتفصيلها وترتيبها لما قد طالعتْه النفس من عالَم الملكوت، من دون أن تتمثّل الصورة بألفاظها المعبّرة بين يدي الحس، وذلك لضعْف القوّة الخياليّة، أو لقوّة العائق وكثافة المادّة، فإنّ القوة الخياليّة عندنا تفعَل فِعلَ الحواسّ الظاهرة كلّها عندما تكون قويّة والعائقُ البدنيِّ ضعيفاً، فلها أن تعزل الحواسّ عن أفاعيلها. وبهذا يتحقّق الفرقُ بين مطالعة الأنبياء (عليهم السلام) للصوَر الباطنة، وبين مطالعة غيرهم إيّاها كالأولياء والحكماءِ. فالرؤيا الصالحة لنفوس العرفاء والصالحين، إنّما هي واقعة في هذا الطريق غير واصلة الى درجة النبوّة وبلوغ الغاية، ولهذا ورَد في الحديث انّها جزءٌ من ستّة وأربعين جزءاً، أو من خمسة وأربعين، أو من سبعين جزءاً - على اختلاف الروايات -. وقُصارى مرتبة الرؤيا وأقصاها كمالاً ما وقع للمحدَّثين - بفتح الدال المشدّدة وهم الذين يرفضون عالَمَ الشهادة، ويصعدون الى عالَم الغيب، فربما يسمعون الصوت في اليقظة من سبيل الباطن، ولكنّهم لا يعاينون شخصاً متشبّحاً كما مرّ ذكره في المفاتيح الغيبيّة. وفي كتاب الحجّة من كتب الكليني رحمه الله باب في الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدَّث، والأئمة (عليهم السلام) كلّهم محدَّثون مفهمون. فصل مشرقي متعلق بقوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } إعلم انّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن يكون صاحبُه شاكاً فيه، ولذلك لا يقول القائل: تيقّنت انّ السماء فوق الأرض، وانّ الكلّ أعظم من الجزء، فيقال ذلك في العلْم الحادث والمكتسَب، وستعلم أنّ العلْم بالآخرة وما فيها، لا يحصل الا من جهة العلْم بما في الدنيا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثمّ إنّه تعالى مدحَهم على كونهم متيقّنين بالآخرة، ومعلوم أن مجرّد الإيقان بها لأحدٍ لا يوجب استحقاق التمدّح، بل لا يستحقّ المدح إلا من تيقّن بوجود الآخرة مع ما فيها من الحشْر والنشْر والحساب والميزان والجنّة والنار، وما فيهما من نعيم السُّعداء وجحيم الأشقياء. وروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: **" يا عجباً كل العجب من الشاكّ في الله وهو قد يرى خلقَه. وعجباً ممن يعرف النشأةَ الأولى ويُنكر النشأةَ الآخرة. وعجباً ممّن يُنكر البعثَ والنشور وهو كل يوم وليلة يموتُ ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممّن يؤمنُ بالجنّة وما فيها من النعيم ويسعى لدار الغرور، وعجباً للمتكبّر الفَخور وهو يعلم أنّ أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة ".** وإنّما قال صلّى الله عليه وآله: عجباً ممن يعرف النشأة الأولى ويُنكر النشأة الآخرة، لأنهما متضايفتان، والمتضايفتان معانِ في التعقّل. فمن أنكر الآخرة فكأنه لم يعرف الدنيا بحسب التعقّل بل بالحس فقط. وتحقيق هذا المقام: أنّ الآخرة صفة للنشأة أو الدار، وإنّما وُصفت بها لأنّها متأخّرةٌ عن النشأة الأولى والدار الدنيا. وإنما سمّيت الدنيا بالدنيا، لأنّها أدنى من الآخرة بالقياس إلينا لا بحسب الترتيب الوجودي، فإنّ هذه الدار آخر العوالِم والنشآت طبعاً وشرفاً، لأنّ موجوداتها آخر الموجودات وأبعدها في سلسلة الاستناد الى المبدإ الأول وبارىء الكلّ، والإنسان في مبدإ كونه وحدوثه هو من جملة الموجودات الواقعة في هذه الدار، لأنّه في أول الوجود من حزب الحيوانات، ونشأة الحيوان - بما هو حيوان - نشأة الحسّ والمحسوس، ولهذا حد بأنّه جوهر ذو بُعد حسّاس. والحسّاس تمام حقيقته، وكمالُ أول لجنسه به يتمّ نوعه ويكمل جنسه. فما من حيوان إلاّ وله قوّة الحسّ، أي حسٍ كان، وإن كان مجرد قوّة اللمس، وهذا أنزلُ مراتب الحيوانات كالدُّود والخراطين، وآخر مراتب الحيوانيّة يتحقّق فيما له الحواسّ الظاهرة والباطنة جميعاً، فإن كان مع ذلك يستعدُّ لإدراك المعقولات بالقوّةِ فهو الواقع في آخر الدرجات الحيوانيّة وأول النشآت الإنسانية ومنازِله، فأول منزلٍ من منازل الإنسان الذي يشارك معه سائر الحيوان، هو نشأةُ الحسِّ، ويقال لها: الدنيا، وعالَم الشهادة، وتقابله الآخرة وعالم الغيب، وهذا العالَم هو منزل الأبدان والقوالب الحسيّة، والآخرة منزل النفوس، وبعدها منزل الأرواح القدسية. وللإنسان أن ينتقل من منزل الى منزل، فالمحسوسات منزله الأول، والمتخيَّلات منزله الثاني، والمعقولات منزله الثالث، وهذا الانتقال هو بعينه من قبيل الانتقالات الفكريّة الواقعة له من المحسوس الى المتخيّل، ومنه الى المعقول. فالدنيا نشأة الحسّ وعالَم الشهادة، والإنسان ما دام كونه في هذه النشأة بحسب الطبع، غير مرتقٍ الى ما وراءَها، فهو بعدُ من جملة البهائم والدوابّ والأنعام، وإذا انتقل الى نيل المتخيّلات والوهميّات مقتصراً عليهما، فهو من قبيل الجنّ، إذ الجنّ والشياطين إدراكاتها مقصورة على المتخيّلات والموهومات، وليس يفتح لهم بابُ الملكوت الأعلى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبعد هذا المنزل يترقّى الإنسان الى إدراك الأمور التي لا تدخل في حسّ ولا تخيّل ولا وهمٌ، فيشاهد الأمور المستقبلة الدائمة، ويكشاف الصوَر العقليّة، ويتهيّأ لادراك الحقائق الاخرويّة والسرور الأبدي، ويصل الى السعادة القصوى التي ليس وراءها سعادة، وهذا هو آخر درجات الإنسان، وبه يتمّ حقيقة الإنسانيّة، لأنّ تمام حقيقته هي الروح المنسوبة الى الله تعالى في قوله:**{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }** [الحجر:29]. وإذا علمتَ هذه المقدّمات، فاعلم أنّ الإيقان بالآخرة الذي مدح الله به طائفة من العرفاء والمحقّقين من أهل الإيمان، المهتدين بنور الله؛ هو مكاشفة أحوال الآخرة ومشاهدة الأرواح المجرّدة عن غشاوة هذه القوالب بواسطة انفتاح باب الملكوت على روزنة القلوب، وأعني بهذه الأرواح؛ الحقائق المحضة والصوَر المجردة عن كسوة التلبيس وغشاوة الأشكال. وهذا العالَم لا نهاية له، بخلاف عوالم المحسوسات والمتخيّلات، فإنّها متناهية، وأكثر الناس إدراكُهم مقصور على عالَم الحسّ والتخيّل من الطبيعيات والمقداريّات، ولم يؤمنوا بما وراء المحسوس والمتخيَّل، ولم يعلموا علمَ ما قبل الطبيعة، ولم يذعنوا بها كما قال تعالى:**{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }** [يوسف:103]. وهذان المنزلان هما النتيجة الأخيرة من نتائج عالَم الملكوت، سيّما عالَم المحسوس، فإنّه القشر الأقصى من اللباب الأصفى، ومن لم يجاوز هذه الدرجة، فكأنه لم يشاهد من مراتب الجوز إلا قشرته، ومن عجائب الإنسان إلاّ بشرته. ومقام كلّ أحد ومحلّه ومنزله ومعاده في العلو والسفل، بقدر إدراكه، وهو معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " الناسُ أبناء ما يُحسنون " أي يعلمون وبه يعملون. فالإنسان بين أن يكون بهيمةً أو جنيّاً أو ملكاً؛ وللملائكة درجات، فالسير في عالَم الملكوت - وفيه منبع الحياة الأبدية - مثاله المشي على الماء، ثمّ يترقّى منه الى المشي في الهواء، ولذلك لمّا قيل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): إن عيس (عليه السلام) كان يمشي على الماء، قال: لو ازداد يقيناً لمشى في الهواء. وأمّا التردّد على المحسوسات، فهو كالمشي على الأرض؛ وبينها وبين الماء - أي عالم الملكوت - عالمٌ يجري مجرى السفينة، والمَعبر من عالَم الملك الى عالَم الملكوت الأعلى، وفيها تتولّد درجات الجنّ والشياطين. فمتى تجاوزَ الإنسانُ عالَم البهائم، ينتهي الى عالَم الجنّ والشياطين، ومنه يسافر الى عالم الملائكة، وقد ينزل فيه ويسعى، وشرح ذلك يطول. وهذه العوالم كلّها منازل للهدى، ولكن الهدى المنسوب الى الله يوجد في العالم الأخير، وهو عالَم الأرواح، وهو قوله:**{ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ }** [آل عمران:73]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ)
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني يؤمنون بنبوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدقونه ولا يكذبونه. { وما أنزل من قبلك } من الكتب على لسان كل نبي. { وبالآخرة هم يوقنون } يعرفونها بالأدلة. { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } والمفلح الفائز بالغنيمة، وقيل: الظافرون بالمراد، وقيل: الفائزون بالجنة الناجون من النار. { إن الذين كفروا } الآية، قيل: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، وقيل: في اليهود، وقيل: في قوم من المنافقين، وقيل: في مشركي العرب، وقيل في قادة الاحزاب، وقيل: في حيي بن اخطب، وقيل: هو عام في جميع الكفار. { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } قيل: هو ذم لهم لأنها كالمختوم عليها، وقيل: نكتة سوداء جعلها الله في قلوبهم علامة للملائكة انه لا يفلح، وقيل: هو ذم لهم كما قال الشاعر: | **ختم الاله على لسان عذافِر** | | **ختما فليس على الكلام بقادِر** | | --- | --- | --- | يعني فلم يختم. { ومن النَّاس من يقول آمنا بالله } الآية، نزلت في عبد الله بن أُبي وأصحابه المنافقين، افتتح سبحانه أول سورة البقرة بالذين اخلصوا دينهم فيه، وثنّى بالذين كفروا ظاهراً وباطناً، وثلّث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية وبيّن فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستهزأ بهم، ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة، وقصة المنافقين معطوفة على قصة الذين كفروا كما يعطي دلالة على الجملة. { يخادعُون الله } قيل: تقديره يخادعون رسول الله، وقيل: ذكر الله هنا للتعظيم والانكار. { وما يشعرون } اي لا يعلمون انهم يخدعون انفسهم لأن وبال ذلك عليهم والشعور علمٌ مشققٌ من الشعار. { في قلوبهم مرض } المرض الغل والحسد والميل الى المعاصي والعزم عليها كما قال: | **حامل اقواماً حياء وقد أرى** | | **قلوبُهم تغلي على مراضُها** | | --- | --- | --- | { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } قيل: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تبعه. { قالوا } هؤلاء المتقدم ذكرهم عبد الله بن أُُبي وأصحابه. { أنؤمن كما آمن السفهاء } فرد الله عليهم بقوله: { ألا إنهم هم السفهاء } وقيل: اراد كما آمن الناس عبد الله بن سلام وأصحابه، قال اليهود: أنؤمن كما آمن السفهاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
قوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي والذين يصدِّقون بما أنزل إليك من القرآن { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي من التوراة والإِنجيل والزبور؛ نؤمن بها ولا نعمل إلا بما في القرآن. قال: { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي أنها كائِنَة. { أُوْلَئِكَ } أي الذين كانت هذه صفتهم { عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على بيان من ربهم. { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } يعني هم السعداء، وهم أهل الجنة. قوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فهؤلاء الذين يلقون الله بكفرهم، لأنهم اختاروا العمى على الهدى. { خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [يعني طبع، فهم لا يفقهون الهدى] { [وَعَلَى سَمْعِهِمْ } فلا يسمعونه { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } فلا يبصرونه { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] } بفعلهم الكفرَ الذي استحبوه واختاروه على الإِيمان، فهؤلاء أهل الشرك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يا محمد من القرآن والسنة والإيمان بما أنزل منهما يتضمن الإيمان بما أنزل منهما. أو المراد بما نزل إليك ما أنزله وما سينزل تغليباً لما نزل على ما ينزل تسمية للكل باسم البعض، أو تنزيلاً لما ينزل منزلة ما نزل على الاستعارة والتشبيه، شبه ما لم يتحقق نزوله بما تحقق نزوله، وفى الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز. والتحقيق ما ذكرته قبلهما فافهمه، فلعلى لم أسبق به. والجمع بين الحقيقة والمجاز ولو أجازته جماعة منهم الشافعى، لكن خلاف الأصل فلا يتركب مع وجه صحيح لا تكلف فيه. { وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } من التوراة والإنجيل وغيرهما. وهم أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وهذا فى مؤمنى أهل الكتاب. وقوله للمتقين فى مؤمنى العرب، أو فى مؤمنيهم ومؤمنى غير أهل الكتاب. وإن قلت فلم خص أهل الكتاب بذكر إيمانهم بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله؟.. قلت لتقدم عهدهم بالإيمان بما أنزل من قبله متضمناً الإيمان بما أنزل إليه، ولانتساب التوراة والإنجيل إليهم بخلاف غيرهم، فمن آمن بالقرآن فإن كتابهم القرآن فلم يذكر فى شأنهم غيره، مع أن بإيمانهم به إيمان بغيره متضمن له، ولأنه قد وصفهم بالاتقاء. ومن لم يؤمن بكتاب من كتب الله أو بحرف فليس بمتق. ويجوز أن يكون المراد بقوله للمتقين مؤمنو العرب، ومؤمنو أهل الكتاب، ومؤمنو غيرهم. والمراد بقوله { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُوْنزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } مؤمنو أهل الكتاب، خصصهم بالذكر بعد دخولهم فى عموم المتقين لمزيتهم المشار إليها بنحو قوله تبارك وتعالى**{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين }** فالعطف فى هذا الوجه عطف خاص على عام. كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات. وجبريل على الملائكة، والنحل والرمان على الفاكهة، ويجوز أن يكون المراد بالمتقين كل متق من العرب، أو من أهل الكتاب، أو من غيرهم. والمراد بالذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك كل متق كذلك قالوا وعلى هذا الوجه عاطفة للصفة وهى لفظ الذين الثانية على الصفة الأخرى وهى لفظ الذين الأولى مثل قولك جاء زيد العالم الكريم، تريد جاء زيد العالم والكريم. وإن العلم والكرم كليهما صفتان لزيد، فذلك الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله. كل ذلك صفات للمتقين. ومن عطف الصفات لموصوف واحد كذلك قوله | **إلى الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية فى المزدحم** | | | | --- | --- | --- | فإن المراد بابن الهمام وليث الكتيبة هو المراد بالملك القرم، فقد وصف إنساناً واحداً بأنه قرم أى كفحل مكرم لا يحمل عليه وبأنه ابن الهمام أى ابن الملك، سمى الملك هماماً لأنه يهتم بالمعالى، أو يفعل ما اهتم به، وبأنه أسد الجيش فى موضع الازدحام للقتال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله سلمة بن زيابة | **يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب** | | | | --- | --- | --- | أى للحارث الذى يغير صبحاً فيغنم فيرجع، وزيابة اسم أبيه وقيل اسم أمه، واسم أبيه ذهل حسر أباه وأمه من الحارث ابن همام الشيبانى مخافة أن يغير عليه فيغنم فيرجع وقد قتله أو أسره أو تهكم به أن يطبق الإغارة عليه وغنمه وقتله وأسره. ويجوز أن يراد بالمتقين مؤمنو العرب، وكذا بقوله { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِليْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } فيكون مدحاً لهم، وذما لمن لم يؤمن بالقرآن ولا بغيره، ولأهل الكتاب الذين آمنوا بغير القرآن وكفروا بالقرآن، وقالوا وأيضاً على الوجه عاطفة لصفة على أخرى لموصوف واحد. ويجوز أن يراد بذلك كله أهل الكتاب، فيكون العطف كذلك. والله أعلم. والإنزال يختص بالذوات، وهو نقلها من أعلى إلى أسفل، وإنما يستعمل فى غير الذوات بواسطة الذوات بالملك ذات أنزل بالكلام وكذا النزول والتنزيل فنزول القرآن وغيره بنزول الملك بهما. { وَبالآخِرَةِ } أى الدار المتأخرة عن هذه الدار المتقدمة الدنيا، والمتأخرة الجنة والنار. ويدل على بقاء وصفية الأخرى وكونه نعتاً لمحذوف، وقوله تعالى**{ تلك الدار الآخرة }** إلا أنها فى هذه الآية الجنة، وفى آي البقرة الجنة والنار، ويجوز أن يراد بها أيضاً هنا الجنة، أى يوقنون أنها للمتقين المؤمنين بما ذكر الفاعلين لما ذكر. ويفهم أنها ليست لغيرهم وتفيد الآيات الأخرى والأحاديث أن لغيرهم النار. ويجوز كونها خارجة عن الوصفية متقلبة عليه الاسمية. وقرأ غير نافع بالآخرة بإسكان اللام وإثبات الهمزة مفتوحة ممدودة بالألف. وأما نافع فالذى نتلوا عن ورش عنه النقل فى جميع القرآن لحركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها ومد ما قبلها بما مدت به إن كانت لها مدة. وقدم الآخرة ليكون آخر الآية نوناً. وللطريقة العربية فى الاهتمام، وفى ذلك تلويح إلى ذم من لم يوقن بالآخرة من أهل الكتاب وغيرهم حين لم يوقنوا بشىء يعظم شأنه مهول، يهتم به من استعمل نظره. { هُم يُوقِنُونَ } إنما ذكر قوله هم، وأخبر عنه بقوله يوقنون، للتلويح الذى ذكرته آنفاً بأن اعتقاد غير من ذكر الله - عز وجل - فى أمر الآخرة غير مطابق لما هو عند الله فيه ولا صادر عن إيقان، كأنه قيل هم لا غيرهم يوقنون. أما غيرهم فنوعان منكر للآخرة أصلا، ومثبت لها على صفة ليست عليها، كوصف النار بأنها لا تمسهم إلا أياماً معدودة، ووصف اليهود أن أهلها النصارى وكل من خالفهم. ووصف النصارى أن أهلها اليهود، ووصف اليهود أنها لا يدخلها إلا من كان هودا، ووصف النصارى أنها لا يدخلها إلا من كان نصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وكتشبيه بعض الكفرة نعيم الآخرة بأنه كنعيم الدنيا، وكوصفهم الجنة والنار بأنهما ستفنيان بهما ومن فيهما. وكوصف بعضهم أن أصحاب النار لا يتألمون بها، كما لا يتأذى دود الكنيف أو الخل به. فوصف الله سبحانه وتعالى أولياءه بأنهم يوقنون إيقاناً لا يشوبه شىء من هذا الضلالات، فإن اليقين أعلى درجات العلم، وهو إتقان العلم بنفى الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالا. ولذلك لا يوصف به العلم القديم والعلم الضرورى، إذ هما ليس بنظر واستدلال، فلا يقال الله متيقين بكذا، فإن علمه قديم لا بنظر واستدلال، ولا يقال تيقنت أن الجزء أعظم من الكل، لأن علم هذا ضرورى لا بنظر واستدلال. وترى أقواماً ينتسبون إلى الملة الحنيفة يضاهون اليهود فى قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. وترى أبعضاً يقولون بأنه سيفنى أهل الجنة والنار. فما علمهم بالآخرة إلا كعلم من سردنا ذكرهم. والواو الأولى فى يوقنون بدل من ياء أيقن لسكونها بعد ضمة. وأما همزة أيقن فمحذوفة، لأن همزة أفعل تحذف فى المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، فى الكلام الفصيح. وأما قراءة أبى حية النميرى يؤقنون - بهمزة ساكنة بعد الياء - فليست الهمزة فيها همزة أيقن، بل هى بدل من واو يوقنون المبدلة عن ياء أيقن، إجراء لضم ما قبل الواو مجرى ضم الواو. فأبدلت همزة، كما تبدل الواو المضمومة همزة، كقولك فى وجوه ووقتت ووقود أجوه وأقتت وأقود، كقول جرير | **لحب الموقدان إلى موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود** | | | | --- | --- | --- | بابدال واو الموقدان وموسى والوقود همزة الأول والثانى لانضمام ما قبلهما والثالث لانضمامه. واللام لام الابتداء وجب فعل ماض بوزن كرم نقلت ضمة بإئه للحاء فأدغمت فى الياء بعدها وحذفت ضمة الياء فأدغمت فتبقى الخاء على فتحها. وإنما دخلت عليه لام الابتداء، لأنه جامد بصيرورته من باب نعم. والموقدان فاعل. وإلى متعلق بحب. وموسى بدل أو بيان من الموقدان بواسطة عطف جعدة وهما أبناء. وإذا متعلق بحب. أو خارجه عن الظرفية بدل اشتمال من الموقدان، أو موسى وجعدة مدحهما بالكرم وإيقاد نار الضيافة، ومعنى إضاءة الوقود لهما إظهاره إياهما بالنور. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن وسائر الوحى { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } على الأنبياء، من كتب وغيرها { وَبِالآخِرَةِ } البعث، والموقف، والجنة، والنار، قدم الاهتمام، والفاصلة على قوله { هُمْ يُوقِنُونَ } وذكْر الذين يؤمنون بما أنزل إليك تخصيص بعد تعميم، وهو شامل لمن لم يكفر من أهل الكتاب بسيدنا موسى، أو سيدنا عيسى، عليهما السلام، ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكفر به، ولكنه طلب الدليل، فآمن به صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أولئك يؤتون أجرهم مرتين، وقيل: هم المراد، وفي الآية ترغيب لأهل الكتاب بسيدنا موسى، أو سيدنا عيسى، عليهما السلام، ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكفر به، ولكنه طلب الدليل، فآمن به صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أولئك يؤتون أجرهم مرتين، وقيل: هم المراد، وفى الآية ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان، وعطف الذين عطف صفة في وجه العموم، وإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فمجرد عطف أو مبتدأ خبره أولئك... إلخ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
أقوال في المعنيين بالوصف: اختلف في المعنيين بهذا الوصف، هل هم نفس الطائفة الموصوفة في الآية السابقة بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، أو هم طائفة أخرى؟ وبناء على هذا الرأي الأخير، فمن المراد بهم؟ روى ابن جرير في تفسيره عن ترجماني القرآني ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالذين يؤمنون بالغيب.. الخ ما في الآية السابقة، مؤمنو العرب، إذ لم يكن لهم رصيد من علم الكتب السماوية من قبل، وإنما فوجئوا به على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما لم يكونوا يألفونه، فكان إيمانهم به صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه أحرى بأن يوصف أنه إيمان بالغيب، وأما هذه الآية فهي في أهل الكتاب، لأنهم سبق لهم إيمان بما أنزل على النبيين من قبل، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى من عند الله، عرفوا صدقه بما سبق لهم من العلم بالنبوات، وبما كانوا يتلونه في كتبهم من البشائر ببعثته عليه أفضل الصلاة والسلام. واختار هذا القول ابن جرير واستدل له بما ذكرته، وعضده بتقسيم المعرضين عن هدي ما أنزل الله على رسول صلى الله عليه وسلم - في الآيات الآتية - إلى طائفتين؛ طائفة جاهرت بالكفر وأعلنت التكذيب، وأخرى أسرّت كفرها في قرارة نفسها ولم تبح بالتكذيب إلا فيما بينها. وهذا التقسيم يتناسب - حسب رأيه - مع تقسيم المؤمنين المنتفعين بهدى التنزيل إلى طائفتين؛ مؤمني العرب، ومؤمني أهل الكتاب، واستشهد ابن كثير لهذا القول بقوله تعالى:**{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ }** [آل عمران: 199]، وقوله سبحانه:**{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** [القصص: 52 - 54]. وبحديث أبي موسى عند الشيخين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ".** ويلمح من كلام القطب رحمه الله في هيميانه أنه يجنح إلى هذا القول، وذلك من تصديره إياه، وإتباعه كثيرا من البحوث المتفرعة عنه، واعتمده من المعاصرين العلامة ابن عاشور، واستدل له بما يوجبه تكرار الموصول من التغاير، غير أنه نبه على دخول أهل الكتاب - إن آمنوا - في عموم الفريق الأول، لأنهم يصدق عليهم أنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكلامه يقتضي أن عطف الموصول الثاني على الأول من باب عطف الخصوص على العموم. وقيل: الآيتان في أهل الكتاب وحدهم، ذكر هذا القول ابن جرير ولم يعزه إلى أحد، ووصفه صاحب المنار بالشذوذ. وقيل: كلتاهما في كل المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين لهديه سواء منهم العرب الذين كانوا على الجاهلية الجهلاء، أو من كان من قبل على ملة كتابية، وعزا ابن جرير هذا القول إلى مجاهد والربيع بن أنس ورجحه ابن كثير في تفسيره - مع استشهاده للقول الأول بما تقدم ذكره - والشوكاني في فتح القدير. وتردد جار الله الزمخشري والعلامة الألوسي بين هذا القول والقول الأول. وفرق الامام محمد عبده بين الموصوفين في الآيتين تفريقا دقيقا، سلك فيه مسلكا غريبا وافقه عليه تلميذه السيد رشيد رضا، لأنه - حسب رأيه - أقرب إلى مدلول النظم وإن كان أبعد عن الروايات. وخلاصة قوله أن الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا يدركه الحس متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. والايمان بالله وملائكته وباليوم الآخر، إيمان بالغيب، ومن لم يكن مؤمنا بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومن يتصدى لدعوته، عليه أولا أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي يتوقف عليها وصف الألوهية، ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من عنده سبحانه. لذلك كان الايمان بالغيب أول ما وصف الله به المتقين الذين يهتدون بالقرآن، وهو في حقيقته الايمان بما وراء المحسوس، ومن اتصف بهذا الايمان فهو واقف على رأس طريق الرشاد، لا يحتاج إلى من يأخذ بيده فيسلك به فيه، فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل وإن كانت لا تقع تحت إدراك الحس إذا أقمت له الدلائل، ونصبت له الشواهد على وجود موجِد الوجود، الذي ليس كمثله شيء، لم يشق عليه تصديقك ولم يتردد في النظر في جلي المقدمات وخفيها، وإذا جاءه الرسول بوصف اليوم الآخر أو وصف عالم من عوالم الغيب التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة، لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر، بعد ثبوت النبوة، وذلك بخلاف شأن أولئك الذين انحبسوا في مضائق المادة فصاروا ينفرون من كل خبر عما وراءها. ويرى الأستاذ أن المتقين هنا هم طائفة من العرب في الجاهلية، كان عندهم إيمان جزئي بالغيب أداهم إلى مقت عبادة الأصنام لما عرفوه بالفطرة من أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأنه يحب الخير ويبغض الشر، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى اعتزال الناس، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال، وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في عرفهم - وبعض الخبرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وطائفة من أهل الكتاب، وهم الموصوفون بقوله سبحانه:**{ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }** [آل عمران: 113 - 114]، وقوله:**{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ }** [المائدة: 82 - 83]. فإن كلتا الطائفتين على استعداد لتلقي هداية الحق والاستجابة له والانضمام إليه، لأنهم كانوا جميعا مشمئزين مما عليه أقوامهم من الكفر والضلال، ومتطلعين إلى شعاع من الهدى يلوح لهم فينير لهم الطريق، فهم جديرون بوصف التقوى، لأنهم زكت فطرهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، واستعدت لتلقي نور الحق الذي يحملها على توقي سخط الله واتباع مرضاته. فالطائفتان هما - في نظر الامام - أحرى بالوصف الذي في قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ.. } " الآية " ، وأما الموصوفون في هذه الآية فهم عنده الذين تحققت هدايتهم، ووصلوا إلى الغاية التي ينشدونها، إذ آمنوا فعلا بالرسول واتبعوا النور الذي جاء به، فهم أرقى درجة في الخير، وأبعد مدى في الهدى، واستدل الأستاذ للتغاير بينهما بمثل ما استدل به العلامة ابن عاشور، وهو إعادة لفظ الموصول معطوفا، كما استأنس لرأيه بتكرار اسم الاشارة مع العطف في قوله تعالى بعد ذلك:**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 5]. الرأي الراجح في هذه الأقوال: هذا؛ وقد تأملت هذه الأقوال وتتبعت أدلتها؛ فوجدت في نفسي ميلا إلى رأي من يرى أن هذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات؛ هي لطائفة واحدة وهم المتقون حقا، الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي جاء به والتزموا منهاج الحق، فإن هذه الصفات هي صفات التقوى التي لا تنفك عن المتقين ولا ينفكون عنها، ولا داعي للتفرقة بين من كان من قبل على جاهلية العرب أو على ملة كتابية، بحيث يُعد بعض هذه الأوصاف خاصة بأهل الكتاب، والبعض الآخر خاصا بمؤمني العرب، فإن الجميع انصهروا في بوتقة الايمان، وصاروا كالجسد الواحد، وهم مخاطبون بالايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنبيين من قبله وبما أنزل إليه وإليهم، كما في قوله تعالى:**{ قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }** [البقرة: 136]، وهذا الايمان بجميع النبوات وكل ما أنزل على النبيين هو الذي وصف الله به رسوله والمؤمنين في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }** [البقرة: 285]، أما إعادة اسم الموصول معطوفا على ما قبله فليس فيه دليل على التغاير بين الموصوف بالموصولَيْن لمجيء ذلك كثيرا في القرآن، وفي الكلام العربي مع اتحاد الموصوف، ومنه قوله تعالى:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ }** [الأعلى: 1 - 4]، فقد تكرر فيه الموصول ثلاث مرات، ولا يقصد به إلا الرب الأعلى، ونحوه قوله سبحانه في وصف عباده:**{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }** [الفرقان: 63 - 65] " الآيات " ، فانظر كيف تكرر الموصول ثماني مرات، ولا يقصد به إلا عباد الرحمن، ومثل ذلك في فاتحة سورة (المؤمنون) في وصفهم، وفي سورة المعارج في وصف المصلين. ولا إشكال في العطف، ولو أن القاعدة فيه تقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التغاير لا يلزم أن يكون في الذوات، بل كثيرا ما يلحظ في الصفات، فتعطف صفة على أخرى والموصوف واحد، كما في الآيات التي استدللنا بها، ومنه قول الشاعر: | **إلى الملك القرم وابن الهمام** | | **وليث الكتيبة في المزدحم** | | --- | --- | --- | ويؤكد أن هذه الصفات جارية على جميع المؤمنين بالكتاب من غير تفرقة بين من كان من قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية أنهم جميعا جمعوا في الوصف في سائر السور، كما في قوله سبحانه:**{ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }** [النمل: 1 - 3]، وقوله:**{ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [لقمان: 2 - 5]. وفي تعدد الاشارة في سورة لقمان مع أن المشار إليه طائفة واحدة - وهي طائفة المحسنين - نقض لاستدلال الامام محمد عبده بتعدد الاشارة في سورة البقرة على اختلاف المشار إليه، كما سنبينه إن شاء الله في الآية التي تلي هذه. أما ما ذكره ابن جرير من أن في تقسيم المؤمنين إلى طائفتين تناسبا مع ما يأتي من بعد من تقسيم غيرهم إلى طائفتين أيضا؛ طائفة الكفار، وطائفة المنافقين، فهو مما لا ينبغي التعويل عليه في تأويل الكتاب، فإن تقسيم الكفار إلى طائفتين إنما هو بحسب ما هم عليه في الحال لا بحسب ما كانوا عليه من قبل. والمؤمنون بعد إيمانهم توحدت حالهم فلا داعي لاعتبار ما كانوا عليه قبل أن يكرمهم الله بالهدى، على أن الحق هو مذهب واحد بخلاف الباطل، فإنه على طرائق؛ بدليل قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام: 153]. أثر الإِيمان بالغيب في صفاء النفوس: والخلاصة: أن الصحيح مما تقدم من الأقوال قول مجاهد والربيع بن أنس ومن وافقهما، وهو أن هذه الصفات هي لجميع المؤمنين، وذلك الذي يقتضيه تناسق الآيات وترابط النعوت، فالله عز وعلا عندما ذكر الكتاب بيّن أن هدايته خاصة بالمتقين، والتقوى تستلزم صفاء الروح، وروحانية النفس، وزكاء الفطرة وسلامة الحس، وطهارة اللسان، ونقاء الوجدان، واستقامة الأركان، وحياة الضمير. وبهذا يتم التناسق بين المشاعر الباطنة، والحركات الظاهرة عند المتقين. وبسبب هذا النقاء الباطني تشف السرائر وتتألف البصائر، وترتفع عن النفوس حجب الطبع الكثيفة الحائلة بين كثير من الناس، واتصالهم بعالم الغيب، وبارتفاعها عن نفوس المتقين تتجلى لهم الحقائق الغيبية بحسب ما تفيضها الأدلة العقلية أو النقلية، تجليا لا يدع مجالا للشك أو الريب. ومن ثم كان الايمان بالغيب أول ما نعت به المتقون هنا. والايمان شعلة في النفس تطوي من جنباتها سجاف ظلماتها، فتستنير لها مسالك الحياة، وينكشف لها ما فيه سلامتها أو خطرها. وهذه الشعلة المعنوية لا تختلف عن الشعل الحسية في حاجتها إلى ما يمدها بالطاقة؛ وإلا خبا نورها واختفى شعاعها، وقد جعل الله سبحانه عباداته المتنوعة وقودا روحانيا للايمان، وعلى رأس هذه العبادات الصلاة التي تتميز بعمق أثرها وقوة تأثيرها، فلذلك كانت إقامتها الصفة الثانية للمتقين. وبما أن الإِيمان بالغيب، وإقام الصلاة يسكبان في النفس الإِنسانية الشعور بآلام الآخرين ويبعثان فيها الإِحساس بضرورة العطف على البؤساء والمحرومين، وهو مما يدفع صاحبه إلى الإِحسان، كان ثالث ما وصفوا به الإِنفاق من رزق الله. ومع كل ذلك فالضرورة داعية إلى الوحدة الفكرية والرابطة الروحية التي تنتظم عباد الله منذ بداية الخلق إلى أن يرث الكون مكوّنه، وبدونها تتقطع جميع الروابط وتنحل كل الوشائج، وهذه هي المناسبة في اختتام هذه الصفات بكونهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من النبيين، وهذا مما يقتضي وراثة هذه الأمة لمن تقدمها من الأمم في هدي أنبيائها، كما يؤكد وحدة رسالات الله التي تتابعت مواكب رسله لنقل هدايتها إلى الناس. والإِنزال: نقل الشيء من جهة عالية إلى أدون منها، ويطلق مجازا على الإِيصال والإِبلاغ، كما يطلق النزول على الوصول والحلول، نحو قوله تعالى:**{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ }** [الصافات: 177]. وقد يطلق على إنشاء النعم أو إظهارها نحو قوله:**{ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }** [الحديد: 25]، وقوله:**{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }** [الزمر: 6]. والتحقيق أنه لا بد من رعاية معنى العلو في مصدره، والله سبحانه متعال فوق خلقه بقهره وسلطانه، فلذا صح إطلاق لفظ الانزال على ما يصدر منه من إحسان إلى خلقه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويكون العلو معنويا كما يكون حسيا. وإنزال القرآن وسائر الكتب السماوية إنما هو عبارة عن نزول الملك المكلف بإبلاغها متلبسا بها حتى تصل إلى المرسل إليه بأمر الله. والملك يتلقاها من الله سبحانه بالطريقة التي تقتضيها مشيئته تعالى. وقد أخبر سبحانه أن تكليمه للبشر لا يكون إلا بصفات ثلاث، بيّنها في قوله:**{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ }** [الشورى: 51]. وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كيفية تلقيه للوحي في جوابه للحارث بن هشام الذي رواه الامام الربيع والشيخان من طريق عائشة - رضي الله عنها - قالت: **" سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملَك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " ".** وبناء على رأي من قال إن هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب خاصة، استظهر العلامة ابن عاشور فائدة من الاتيان بالموصول في قوله: { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، ولم تكن العبارة والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب، وهي الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الاسلام، ككون التوراة لا تقبل النسخ، وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية، ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات - قال - ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم، وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقد عبر في الآية بصيغة الماضي في قوله بما أنزل إليك، مع أن القرآن لم يكن كله منزلا عند نزول هذه الآية، والناس مطالبون بالايمان بكل ما أنزل أو سوف ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الايمان بما تحقق نزوله يقتضي الايمان بما سوف ينزل، لاندراجه فيه، ويرى بعض المفسرين أن هذا التعبير من باب المجاز العقلي، وهو تغليب ما أنزل على ما لم ينزل، ويرى غيرهم أنه مجاز لغوي، وذلك أنه أستعير ما أنزل لما لم ينزل. وانتقد القطب رحمه الله هذين الرأيين لما فيهما من الجمع بين الحقيقة والمجاز، واختار ما تقدم ذكره من أن الايمان بما أنزل يقتضي الايمان بما سوف ينزل، وهو الذي يقتضيه كلام المحقق ابن عاشور، إذ يرى أن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل، لعدم احتياج ذلك إلى الذكر، فإنه من المعلوم أن الذي يؤمن يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول، لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكونان في أول الأمر، فإذا زالا بالايمان أمِنَ من الارتداد، كما قال هرقل: وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالايمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب، وهي الدلالة الأخروية، وليس هو مدلولا للفظ الماضي بطريق التغليب، ولكنه مراد من الكلام. الإِيمان بالقرآن الكريم وأثره: والايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون إيمانا تفصيليا، بحيث يقصد المؤمن بإيمانه الكتاب المنزل إليه للاعجاز والهداية الذي رقم في المصاحف وتناقلته الألسنة بالتواتر. أما الايمان بما أنزل من قبل على سائر الرسل فيكفي أن يكون إيمانا إجماليا، بل هذا هو الواجب نظرا إلى أن المنزل إليهم لم يبق كما هو، بل دخله التحريف والتبديل، فليس ثم شيء معين مما أنزل إليهم باقيا على ما كان عليه حتى يقصد بالايمان، وهذا أحد سببين أوجبا التفرقة في الايمان بين القرآن والكتب السالفة. وثاني السببين أن القرآن تعبدنا بالعمل به بخلاف تلك الكتب، فقد انتهى أمدها وهيمن عليها جميعا هذا الكتاب الخالد الذي لا أمد لأثره وهدايته، ولا يمكن العمل به إلا بعد تشخيصه في الايمان. وذهب جماعة، منهم الفخر الرازي وأبو السعود والألوسي، إلى أن الايمان بالقرآن الواجب على العوام هو إيمان إجمالي أيضا كغيره من الكتب المنزلة لتعذر الاحاطة بدقائق حِكَمِهِ وتفاصيل أحكامه على عوام الناس، وإنما رأوا الايمان به تفصيلا فرضا كفائيا يقوم به العلماء المتبحرون الذين يستخرجون من أعماق بحاره الزاخرة مكنون جواهر حكمه وأحكامه. وذكر العلامة الألوسي اختلاف الفقهاء في قدر المسافة التي يجب أن يتوفر فيها من يقوم بهذه المهمة بين الناس، فمنهم من رأى وجوب وجود مثله في كل حد مسافة القصر من البلاد الاسلامية لئلا تبقى طائفة من الناس تتخبط في ظلمات جهلها بدون مرشد ولا دليل، ويحرم - عند هؤلاء - على الامام إخلاء مثل هذه المسافة من مثل هذا الشخص الجامع لهذه الصفات. ومنهم من يرى وجوب توفر مثله في كل إقليم، ومنهم من يرى أن وجود مثله في أي جزء من العالم الاسلامي يسقط هذا الواجب عن جميع الأمة، وفي المقام بحث نرجئه إلى مكانه المناسب بتوفيق الله. ولا أرى فارقا معنويا بين ما قالوه وما قلته في تحديد الايمان الواجب بما أنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن مرادهم بالتفصيل الاحاطة بكل محتوى ما يؤمن به، ومرادي به تشخيصه بالايمان وتمييزه عن غيره، واتباع ما جاء به بحيث يصبح مسيطرا على شعاب النفس، وموجها للجوارح والأركان، وهذه هي صفة المؤمنين بآيات الله كما وصفهم بها في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }** [السجدة: 15 - 16]. وقد وبخ الله سبحانه الذين ادعوا الايمان بالقرآن ثم هَمُّوا بأن يتحاكموا إلى غيره حيث قال:**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }** [النساء: 60]. وإذا كان الله تعالى جعل صنيع بني إسرائيل - إذ عملوا ببعض ما أنزل إليهم وأعرضوا عن بعض - من باب الخلط بين الايمان والكفر، حيث قال بعد تعداد ما صدر منهم:**{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }** [البقرة: 85]. فإن هذا الحكم نفسه يسري على الذين ينتسبون إلى القرآن وهم يعرضون عنه بمجانبة هديه وتعطيل أحكامه ومخالفة تعاليمه، وابتغاء الحق في غيره، ومن ثم حكم سبحانه وتعالى على من لم يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق، وذلك في قوله:**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }** [المائدة: 44]،**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }** [المائدة: 45]،**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }** [المائدة: 47]. وبهذا يتبين أن الايمان بالقرآن له معنى عميق ترتبط به حياة المؤمن، وذلك أن يتكيف في فعله وتركه بحسب ما تقتضيه أحكامه وتعاليمه. وقد كان السلف الصالح يعدون مجانبة شيء من هديه منافيا للايمان به، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عندما أبصرت امرأة عليها ثياب رقاق: " ما آمنت بسورة النور امرأة لبست هذه الثياب " ، فأعجب لأولئك الذين يزعمون أنهم من أمة القرآن وهم يرتعون في المعاصي، غير مبالين بخلق ولا فضيلة ولا شرف، ما قيمة إيمان هؤلاء بالقرآن؟ إن القرآن الكريم مليء بأوامر الله الموجهة إلى عباده، منها ما يتعلق بالحياة الفكرية، ومنها ما يتعلق بالشعائر التعبدية، ومنها ما يتعلق بالشؤون السياسية، ومنها ما يتعلق بالنظم الاقتصادية، ومنها ما يتعلق بالواجبات الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بالأحكام القانونية. والواجب على من آمن به أن يسلم تسليما لذلك كله وينقاد له بفكره ومشاعره وجوارحه، حتى يتحول القرآن إلى واقع محسوس يتجلى للناس جميعا في حياة المؤمنين الخاصة والعامة. أثر الإِيقان بالآخرة: واختتم تعالى صفات هذه الطائفة بذكر الإِيقان بالآخرة، لأنه ملاك الأمر، وسور الصالحات، والحاجز دون تردي النفس في مهاوي شهواتها ونزواتها، لأن فيه ربط العمل بالجزاء، ووصل المبدأ بالمصير، وما قبل الموت بما بعده، ولأن اليقين بالحياة المطلقة الأبدية بعد هذه الحياة المقيدة الفانية؛ هو مفترق الطرق بين أولئك الذين يعيشون في مضيق الحس لا يعرفون وجودا إلا هذا الوجود المحسوس، ولا متعة إلا هذه المتعة الفانية، ولا هدفا إلا ما يختص بحياة الأرض، وأولئك الذين تفتحت مداركهم واتسعت آفاق أفكارهم فأيقنوا أن المحسوس ليس هو كل شيء في الوجود، وأن هذه الحياة ليست هي كل وجود الانسان، وأن متعها الفانية ليست هي كل شيء بالنسبة إلى منافعه ومصالحه، وأن أهدافها يجب أن تكون وراءها أهداف أسمى منها قدرا، وأغلى منها قيمة، فإن من شأن هذا الإِيقان أن يدفع بصاحبه إلى التفكير في العاقبة والجزاء على الأعمال وتكييفها بحسب رغبته في نوع جزائها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والآخرة وصف أغنى عن الموصوف في التعبير، لاستقراره في الأفهام، والمراد به الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، حيث يحاسب كل أحد على عمله، ويجزى به جزاء وفاقا، والايمان بها يشمل الايمان بكل ما يحدث فيها، مما تضمنته النصوص القاطعة. واليقين: قيل هو الاعتقاد للواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال. ذلك لأن الاعتقاد إما أن يكون اعتقادا بأن الشيء كذا، أو اعتقادا بأنه لا يمكن إلا أن يكون كذا. وقيل: هو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات، ويعم الجزم بخبر الصادق والاعتقاد المبني على الأدلة والأمارات إن كان ثابتا لا شك فيه. وفسره أئمة اللغة بأنه العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر. وقالوا: إنه نقيض الشك، كما أن العلم نقيض الجهل، ولعل هذا التفسير دعا بعض المفسرين من المتقدمين والمتأخرين إلى القول بأنه العلم بالشيء عن نظر واستدلال، أو بعد شك سابق. والشك إنما يكون فيما يستوجب النظر، وعليه فيكون اليقين أخص من الايمان ومن العلم. واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى:**{ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ }** [التكاثر: 5 - 6]. ومن ثم لا يطلق الايقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية، وبناء على هذا فإن إيثار مادة الايقان في ذكر الايمان بالآخرة لما فيها من الاشعار بأن علمهم بالآخرة ناتج عن كد الفكر وسعة التأمل في الاستدلال، لأن الحياة الأخروية حياة غائبة عن الأبصار وسائر الحواس، غريبة على الأفكار المنغلقة بين جدران الحس، وقد تراكمت على هذه الأفكار شبه جمة حالت بينها وبين إدراكها حالة الدار الآخرة، وهي مناسبة جديرة بالاعتبار في اقتناص دقائق أسرار التعبير القرآني وقد نبه عليها أحد أئمة التفسير الحاذقين. وبناء على ما ذهب إليه الامام محمد عبده من التفرقة بين الطائفتين الموصوفتين في الآيتين، وأن الأولى كانت على إيمان جزئي، والثانية هي التي آمنت الايمان الكلي، قال ما معناه: وصفت هذه الطائفة التي اكتمل إيمانها بالإِيقان بالآخرة، لأنهم مؤمنون بالقرآن، بخلاف الأولى فإنها كانت فقط على جزء من الايمان، وهي في طريقها إلى الايمان الكامل لما أوتيت من الاستعداد لذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد عرفت مما تقدم أنني أرجح رأي من يقول إن جميع الصفات الواردة في الآيتين هي لموصوف واحد، وهو الطائفة المؤمنة. واليقين هو أساس الايمان الذي لا يقوم إلا عليه، فإن إيمان من يعتمد على مجرد الظن إيمان متزلزل لا ثبات له، فهو منهار الأسس منهد الأركان، ولذلك قال سبحانه في اعتقاد بعض الناس:**{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً }** [النجم: 28]. وإذا كان هذا هو حكم الظن في الاعتقاد، فما بالك بما دونه من الشك والارتياب. واليقين الحق في الايمان بالله واليوم الآخر إنما يعرف بآثاره في الأعمال، كما سبق ذكره في الحديث عن الايمان وصفات المؤمنين حسب ما يدل عليه القرآن. وذكر الامام محمد عبده من أمثلة من لم يقم إيمانه على الايقان، من يأتي إلى محكمة بدعوى كاذبة يريد بها أكل مال أخيه بغير حق، أو بشهادة مفتراة يجامل بها صديقه، أو ينتقم بها من عدوه، وهو يعلم باطله وزوره، فيوعظ ويذكر:**{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ }** [الفرقان: 27] فيقول: أعوذ بالله أنا أعلم ذلك اليوم الذي أمامي، وأن بين يدي شبرا من الأرض - يعني القبر - وأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى بأنه محق في كلامه، ثم يكشف التحقيق عن إفكه، ويضطر إلى الاعتراف بزوره، فكأن الايمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح له عندما يريد أن يخادع غيره، وشرك يصطاد به حقوق الناس بغير حق. صفة الإِيمان اليقيني: وذكر الامام أن الايمان المبني على اليقين هو الذي يكون معه إحساس من طريق الوجدان يجعل المؤمن كأنه يرى ما آمن به، وهذا الايمان هو الذي يملك نفس صاحبه، وهو يأتي من طريقين: الأول: النظر الصحيح فيما دعت الحاجة فيه إلى النظر، كالايقان بوجود الله ورسالة رسله، وذلك بتخليص المقدمات إلى أن تصل إلى حد الضروريات، فيكون الانسان بذلك كأنه راء بعينيه ما استقرت عقيدته عليه. الثاني: خبر الصادق المعصوم بعدما دلت على صدقه الدلائل، وقامت على عصمته الشواهد. ولا يكون ذلك الخبر طريقا لليقين حتى يسمعه السامع من نفس المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، أو يصل إليه من طريق لا يحوم حولها الريب، وهي طريق التواتر دون سواها، فلا مصدر لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة فيما يأتي من طريق النقل إلا التواتر الذي لا خلاف فيه، وذلك في الأمور الغيبية التي لا سبيل للعقل إليها، نحو وصف الآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وصفاته. وكذلك صفات الله تعالى التي تتوقف معرفتها على الوحي. وتقديم الجار والمجرور - وهما بالآخرة - على متعلقهما - وهو يوقنون - وبناؤه على الضمير يفيدان الحصر عند الزمخشري، وفي ذلك تعريض بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالآخرة على حقيقتها، وخالفه في ذلك العلامة ابن عاشور، فرأى أن تقديم الجار والمجرور إنما هو لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وفيه ثناء على هؤلاء لأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن، وأنكر الحصر الذي ادعاه الزمخشري لاقتضائه أن يكونوا يوقنون بالآخرة دون غيرها، ورأى أن تكلف إخراج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله غير معهود. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
عطف على الموصول الأول مفصولاً وموصولاً والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الاجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى }** [البقرة: 5] حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية**{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }** [البقرة: 5]/ إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى:**{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ }** [القدر: 4] والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية إنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على**{ لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصلي بأجنبـي بين المبتدأ وخبره والمعطوف، والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في قوله تعالى:**{ قُولُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ }** [البقرة: 136] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام. وأجيب أما أولاً فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضاً، وأما ثانياً فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضاً ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قد ورد فيها ـ إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران ـ وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأساً ورموه بما رموه ـ وحاشاه وهم الكثيرون ـ وبعض كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبـي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعاً في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقاً والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظراً إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيماناً صحيحاً على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم/ أجرين حينئذٍ والفرق بين البابين واضح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاماً ولا استبطن حلالاً وحراماً ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثاً فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحاً وفي الثاني التزاماً، وأما رابعاً فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناءً على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصاً قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ }** [البقرة: 41] مؤمنين بالكتب استقلالاً في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى. والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافاً لمن ادعاه نحو:**{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ }** [الصافات: 177] أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء. وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته. وقال الحكماء: إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاماً منظوماً ويشبه أن نزول الكتب من هذا. وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول. وفعلاً الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذاً (بما أنزل إليك) بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام (أنزل) ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم. وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام. وفي «البحر» أن فيه التفاتاً لتقدم {.. مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ } فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء ـ بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك ـ. وأتى سبحانه بصلة (ما) الأولى فعلاً ماضياً مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء { يُؤْمِنُونَ } المنبـىء عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين: الأول إنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعاً فيصير إنزال مجموعه مشبهاً بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص. وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما/ نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالاً بالكتب المنزلة مطلقاً فرض عين وتفصيلاً بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر: | **أمست يباباً وأمسى أهلها احتملوا** | | **أخنى عليها الذي أخنى على لبد** | | --- | --- | --- | وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى: | **إلى الله أشكو إن في القلب حاجة** | | **تمر بها الأيام وهي كما هيا** | | --- | --- | --- | والآخرة تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر ـ بفتح الخاء ـ اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في ـ**{ ٱلدَّارُ ٱلأَخِرَةُ }** [القصص: 83] و**{ يُنشِىء ٱلنَّشْأَةَ ٱلأَخِرَةَ }** [العنكبوت: 20] ـ ثم غلبت كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله من لا تخطر بباله أصلاً فافهم. وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى:**{ وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ }** [يوسف: 109] أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى:**{ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلأُولَىٰ وَٱلأَخِرَةِ }** [القصص: 70] والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام. والإيقان التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافاً لمن وهم فيه. قال الجوهري: اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقيناً وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، وذكر الراغب ((أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم))، وفي " الأحياء " ـ والقلب إليه يميل ـ ((أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل هذا لا يتفاوت. الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإتيان الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر))، وقرأ الجمهور: { يُوقِنُونَ } بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقل ـ وبالآخرة هم يؤمنون ـ دفعاً لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب/ والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول ـ على ما في " شرح الطوالع " ـ ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهاراً لكمال المدح وإبداءً لغاية الثناء، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلاً حيث قالوا:**{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا }** [البقرة: 111]**{ لَنْ تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }** [البقرة: 80] وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء { يُوقِنُونَ } على { هُمْ } إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
عطف على**{ الذين يؤمنون بالغيب }** البقرة 3 طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله { الذين يؤمنون بالغيب } وهما معاً قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذَكر فريقاً آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلٰهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذٍ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعضُ النصارى مثل صهيب الرومي ودِحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وُصف به المسلمون الأوَّلون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم مِن خِيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاءً واهتداءً إذْ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دُفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذِن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأوَل هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة. ويكون الموصُولاَنِ للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضاً ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبي، وفي التعبير بالمضارع من قوله { يؤمنون بما أُنزل إليك } من إفادة التجدُّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدَثَ جديداً، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء، فأبو بكر وعمر أفضل من دحيَة وعبد الله بن سلام. والإنزالُ جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سُفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرفٍ ورفعةٍ معنوية كما في قوله تعالى**{ قد أنزلنا عليكم لباساً }** الأعراف 26 وقوله**{ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }** الزمر 6 لأن خلق الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عُليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول المَلك مبلِّغه الذي يتصل بهذا العالَم نازلاً من العالم العلوي قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ نزل به الروح الأمين على قلبك }** الشعراء 194، 195 فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبي بشيء وصل من مكان عالٍ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله **" وأحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال "** وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالاً. والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا تَوقَّعُ إيمانهم بما سَينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أُنزل يستمر إيمانه بكل ما يَنزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أَمِنوا من الارتداد " وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ". فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولاً للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى { بما أنزل } والمراد ما أنزل وما سينزل كما في «الكشاف». وعدي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمُنْزَل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يُعدَّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى**{ نزل عليك الكتاب بالحق }** آل عمران 3 وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى**{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى }** البقرة 57 واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام. ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجىء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأَسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وقوله { وبالآخرة هم يوقنون } عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاَك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دُهريون، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلاً ويسمونها البَلِية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حُذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوماً وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علماً بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال. فمعنى { وبالآخرة هم يوقنون } أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت. واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم. واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى**{ لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم }** التكاثر 6، 7 ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقاً عرفياً حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفاً للإيمان والعلم. فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديراً بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثَار { يوقنون } هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنباً لإعادة لفظ { يؤمنون } بعد قوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك }. وفي قوله تعالى { وبالآخرة هم يوقنون } تقديم للمجرور الذي هو معمول { يوقنون } على عامله، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أَيقنوا بأَهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصراً إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها، وقد تكلف صاحب «الكشاف» وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله { هم يوقنون } جيء بالمسند إليه مقدماً على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيراً من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ وَبِٱلآخِرَةِ } (4) - وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ. اليَقِينُ - هُوَ التَّصدِيقُ الجَازِمُ. وَيُعرَفُ اليَقِينُ بآثَارِهِ في الأَعْمَالِ، فَمَنْ شَهِدَ زُوراً، أَوْ أَكَلَ مَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِيمانُهُ قَائِماً عَلَى اليَقِينِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يعطينا صفات أخرى من صفات المؤمنين.. فبعد أن أبلغنا أن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله.. يأتي بعد ذلك إلى صفات أخرى. فهؤلاء المؤمنون هم: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ.. } [البقرة: 4] أي بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى.. و { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ.. } [البقرة: 4] وهذه لم تأت في وصف المؤمنين إلا في القرآن الكريم.. ذلك أن الإسلام عندما جاء كان عليه أن يواجه صنفين من الناس.. الصنف الأول هم الكفار وهم لا يؤمنون بالله ولا برسول مُبَلِّغ عن الله.. وكان هناك صنف آخر من الناس.. هم أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسل عن الله وكتب عن الله. والإسلام واجه الصنفين.. لأن أهل الكتاب ربما ظنوا أنهم على صلة بالله.. يؤمنون به ويتلقون منه كتباً ويتبعون رسلاً وهذا في نظرهم كاف.. نقول لا، فالإسلام جاء ليؤمن به الكافر، ويؤمن به أهل الكتاب، ويكون الدين كله لله. والله سبحانه وتعالى في كتبه التي أنزلها أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن اسمه وأوصافه، وطلب من أهل الكتاب الذين سيدركون رسالته صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به. ولقد أعطى الله جل جلاله أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب حتى إنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل كانت معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزمنه وأوصافه معرفة يقينية.. وكان يهود المدينة يقولون للكفار.. أَطَلَّ زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم.. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أول مَنْ حاربه وأنكر نبوته.. فأوصاف رسول الله عليه الصلاة والسلام موجودة في التوراة والإنجيل.. ولذلك كان بعض أهل الكتاب من اليهود ينذرون الكفار بأنهم سيؤمنون بالرسول الجديد ويسودون به العرب.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:**{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }** [البقرة: 89]. أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن مفاجئة لأهل الكتاب بل كانوا ينتظرونها.. كانوا يؤكدون أنهم سيؤمنون بها كما تأمرهم بها كتبهم.. ولكنهم رفضوا الإيمان وأنكروا الرسالة عندما جاء زمنها. ثم يقول سبحانه وتعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] ونلاحظ هنا أن كلمة { وَبِٱلآخِرَةِ } [البقرة: 4] قد جاءت.. لأنك اذا تصفحت التوراة التي هي كتاب اليهود، أو قرأت التلمود لا تجد شيئاً عن اليوم الآخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | . فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم.. والله تبارك وتعالى أكد الإيمان باليوم الآخر حتى يعرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون إلى اليوم الآخر، أنهم ليسوا بمؤمنين، فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا إن الإسلام موافق لما عندنا، ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الإيمان تصويراً كمالياً بأن الإيمان بالله قمة ابتداء والإيمان باليوم الآخر قمة انتهاء.. فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه.. وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، وناراً يُعذَّبُ فيها الكافر يكون ايمانه ناقصاً، ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه. فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة.. فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظاً من المؤمن في الحياة.. لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان.. بينما المؤمن قَيَّدَ حركته في الحياة طبقاً لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء.. فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئاً والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الإيمان.. ولذلك كان الإيمان بالله قمة الإيمان بداية والإيمان بالآخرة قمة الإيمان نهاية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }: الذين عطفٌ على " الذين " قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله: | **121ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ** | | **وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ** | | --- | --- | --- | وقوله: | **122ـ يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال** | | **صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ** | | --- | --- | --- | يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ. والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ " الذين " المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على " المتقين " ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه " أولئك " وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ " الذين " الأولى، و " يؤمنون " صلةٌ وعائدٌ. و " بما أُنْزِلَ " متعلِّقٌ به و " ما " موصولةٌ اسميةٌ، و " أُنْزِلَ " صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: " لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل ". و " إليك " متعلِّقٌ بـ " أُنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ:**{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ }** [النساء: 2]، والتبيين:**{ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ }** [يوسف: 33]، وموافقة اللام وفي ومِنْ:**{ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ }** [النمل: 33] أي لك: وقال النابغة: | **123ـ فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني** | | **إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ** | | --- | --- | --- | أي في الناس، وقال الآخر: | **124ـ..........................** | | **أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا** | | --- | --- | --- | أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: " تَهْوَىٰ إليهم " بفتح الواو. والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى:**{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ }** [الصافات: 177] أي حلَّ ووَصَل، و " ما " الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على " ما " الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على " ما " التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ. و " مِنْ قبلِك " متعلِّقٌ بـ " أُنْزِلَ " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ " بعد " ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه: | **125ـ فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً** | | **أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **126ـ ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ** | | **فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا** | | --- | --- | --- | ومن البناء قولُه تعالى:**{ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }** [الروم: 4]، وزعم بعضُهم أن " قبل " في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: " قمتُ قبلَ زيد " فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه " قبل زيد " وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: " بما أَنْزَلَ إليك " مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله: | **127ـ إنما شِعْريَ مِلْحٌ** | | **قد خُلْط بجُلْجُلانْ** | | --- | --- | --- | بتسكين " خُلْط " ثم حَذَف همزةَ " إليك " ، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ. و " بالآخرةِ " متعلِّقٌ بيوقنون، و " يُوقنون " خبرٌ عن " هم " وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله:**{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }** [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون. والإِيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل. والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى:**{ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ }** [الأنعام: 32]، وقال:**{ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ }** [العنكبوت: 20] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط: منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها، وألاّ تكونَ زائدةً، على خلافٍ في هذا الأخير، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله:**{ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ }** [آل عمران: 153]، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل " بالسُّؤْقِ " [ص: 33]، و " على سُؤْقِه " [الفتح: 29]، وقال الشاعر: | **128ـ أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى** | | **وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ** | | --- | --- | --- | بهمز " المُؤْقدين ". وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك. وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل، فهو من باب قولهِ:**{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ }** [النحل: 1]، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
قال ابن عباس: أي يصدّقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان، وإنما سميت (الآخرة) لأنها بعد الدنيا. وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير: أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمنٍ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب. والثاني: هم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفات كما قال تعالى:**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ \* ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ \* وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ }** [الأعلى: 1-3] فعطف الصفاتِ بعضها على بعض. والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفون ثانياً بقوله: { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } هم مؤمنو أهل الكتاب، واختاره ابن جرير ويستشهد بقوله تعالى:**{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ }** [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ \* وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }** [القصص: 52-53]، وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، ورجل مملوك أدّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ".** قلت: والظاهر قول مجاهد: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسيّ وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأُخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأُخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول، وما جاء به من قبله من الرسل، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال تعالى:**{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ }** [النساء: 136] وقال تعالى:**{ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ }** [العنكبوت: 46]. وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال:**{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }** [البقرة: 285] الآية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفاً للمغايرة، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ)
و " الذين " يجوز في إعرابه الأوجه الثلاثة لأنه صفة مدح والغيب المؤمن به هو ما غاب عن المؤمن مما كلف الإِيمان به وتضمن الاعتقاد القلبي والفعل البدني وإخراج المال وهذه الثلاثة عمد الاسلام وإفعال المتقي ومن للتبعيض والأولى حمل الانفاق على الزكاة لكثرة ورودها مقترنة مع الصلاة في القرآن والسنة، وأضاف الرزق إليه لا إلى كسب العبد ليعلم أن الذي ينفقه العبد هو بعض مما رزقه الله تعالى وجعلت صلاة الذين افعالا مضارعة لا صلات لأل لأن المضارع على ما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث والتجدد في صفة المتقين أمدح. وال قالوا تدل على الثبوت وكان هذا الموصول بصلاته شرح للمتقين فدل المتقين على الثبوت والمضارعات على الحدوث فتعددت وأخرت الصلة الثالثة لأجل الفواصل وحذف العائد على ما وتقديره رزقنا همو، وترتيب هذه الصلات من باب ترتيب الأهم فالأهم والألزم فالألزم فالايمان لازم للمكلف دائماً والصلاة في كثيرٍ من الأوقات والنفقة في بعض الأوقات. و " الانزال " الإِيصال والإِبلاغ ولا يشترط أن يكون من علو. وقرىء بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مبنيين للفاعل وهو التفات إذ هو خروج من ضمير متكلم في رزقناهم إلى ضمير غائب وقرىء بما أنزل إليك ووجهه أنه سكن لام أنزل ونقل إليها حركة همزة إليك بعد حذفها ثم أدغم والذين معطوف على الذين ويظهر أنه تفسير للإِيمان بالغيب وهو أن يؤمن بما أنزل إلى الرسول وبما أنزل إلى الرسل قبله. و " بالآخرة " هي صفة غالبة وهي في الأصل تأنيث آخر وحملها على الدار الآخرة أولى من حملها على النشاة الآخرة، والمضي في وما أنزل من قبلك متحقق وفي بما أنزل إليك لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة فقام الأكثر مقام الجمع أو غلب الموجود لأن الإِيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الايمان بالمتأخر، والإِيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقن الماء: سكن وظهر ما تحته، ولم تعد بآء الجر في ما الثانية ليدل على أنه إيمان واحد إذ أعادته تشعر بأنهما إيمانان وأكد أمر الآخرة بتعلق الإِيقان الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق وإن كان لا تفاوت في الحقيقة بينهما رفعا لمجاز إطلاق العلم على الظن فذكر أن الإِيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار وكان الإِيقان هو الذي اختص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقاتها ولكون المنزل مشاهداً أو كالمشاهد والآخرة غيب صرف فناسب الإِيقان: قالوا: والإِيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أم استدلالياً فلذلك لا يوصف به الباري سبحانه وتعالى وقدم المجرور اعتنآء به وإبراز هذه الجملة اسمية وإن كانت معطوفة على فعلية آكد في الاخبار عن هؤلاء بالإِيقان والتصدير بالمبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه كما أن التصدير بالفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به ولم يذكرهم في: ومما رزقناهم، لأن الوصف بالإِيقان أعلى من الوصف بالانفاق ولكونه يكون فيه قلق لفظي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | " أولئك " اسم إشارة للجمع مطلقاً وهو للرتبة الوسطى وهو مبتدأ خبره الذي بعده، وهي جملة استئنافية ولا تختار ما أجتازه الزمخشري من كون هذه الجملة في موضع خبر عن الذين يؤمنون وإعراب الذين مبتدأ والذهاب بالذين مذهب الاستئناف لأن تعلقه واتصاله بما قبله في غاية الوضوح. على هدى إلا أنه لما وصف المتقين بصفات مدح فصلت جهات التقوى أشار إليهم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى جعل رسوخهم في الهداية كأنهم استعلوه، ووصف الهدى بأنه من ربهم تعظيم للهدى الذي هم عليه، ومن: لابتداء الغاية أو للتبعيض، أي من هدى ربهم. وذكر الرب هنا في غاية المناسبة. والفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية والبقاء. وقرىء من ربهم بضم الهاء كان ضمير جمع لمذكر أو مؤنث ولا يراعي سبق كسر أو ياء وهذان خبران مختلفان لذلك كرر أولئك ليقع كل منهما في جملة مستقلة أخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة وهم فصل أو بدل أو مبتدأ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
وقوله: { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي: بالقرآن. { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }. أي: بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وبجميع ما أنزله الله على أنبيائه. وقوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }. أي: بالبعث والحشر والجنة والنار يصدقون. وسميت الآخرة آخرة لأنها بعد الأولى وهي الدنيا. وقيل: سميت بذلك لتأخرها عن الناس. وقوله: { يُوقِنُونَ } أي: يصدقون بالبعث / والحشر والجنة والنار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } معطوف على الموصول الأول وهو نوع آخر للمتقين، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وعمار بن ياسر وسلمان والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول فهم مشركو العرب الذين لم يرسل لهم غيره صلى الله عليه وسلم فنزلت فيهم الآية الأولى. قوله { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } نزل المستقبل منزلة الماضي لتحقق الوقوع لأنه لم يكن تم نزوله. قوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي فلم يفرقوا بين الأنبياء بحيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. قوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر وأتى بالجملة الاسمية لأنه أعلى من الإنفاق. قوله: (يعلمون) أي علماً لا شك فيه ولا ريب، ولذا اتصف مولانا بالعلم ولم يتصف باليقين، وفيه رد على من أنكر الآخرة ممن لم يؤمن بمحمد. قوله { أُوْلَـٰئِكَ } (الموصوفون بما ذكر) إن قلنا إن قوله الذين يؤمنون الخ وصف للمتقين كان ماهنا مبتدأ وخبراً بيان لعاقبة المتقين وإن قلنا إنه مستأنف مبتدأ كان ماهنا خبره. قوله: { عَلَىٰ هُدًى } عبر بعلى إشارة إلى تمكنهم من الهدى كتمكن الراكب من المركوب. وقوله: (الناجون من النار) أي ابتداء وانتهاء، وعطف الجملتين إشارة إلى تغايرهما وأن كلا غاية في الشرف، وإن الثانية مسببة عن الأولى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } الكتاب المنزل كله، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد. كما أن المراد من قوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } الكتب الإلهية السالفة كلها، وهذا كقوله تعالى:**{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ }** [النساء: 136] الآية. والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل. فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزّ وجل فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام، ولهذا يقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ. قال الإمام أحمد وغيره: وإليه يعود، أي هو المتكلم به. قال تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ }** [الأنعام: 114]. وقال تعالى:**{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ }** [النحل: 102]. وقال تعالى:**{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }** [الزمر: 1]. { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة في الأصل: تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى:**{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ }** [القصص: 83]؛ سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا، وقيل للدنيا: دنيا، لأنها أدنى من الآخرة، وهما من الصفات الغالبة، ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء، إذ قد غاب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما، كأنهما ليس من الصفات. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي تقديم { وَبِٱلآخِرَةِ } وبناء { يُوقِنُونَ } على { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته. كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى؛ وأن النار لن تمسّهم إلا إِِِِِياماً معدودة؛ واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أوْ لا؟ وهل هو دائم أوْ لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين! | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
أقول: روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ المراد بالمؤمنين هنا مَنْ يؤمن بالنبيّ والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب. واختاره ابن جرير وآخرون. وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة: أنّ المؤمنين في الآيتين قسم واحد، وهو كلّ مؤمن وإنّما تعدّد ما يؤمنون به. فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين. وثَمّ قول ثالث شاذّ، وهو: أنّ الآيتين في مؤمني أهل الكتاب. وقد بيّنا قول شيخنا وسيأتي شرحه. والمراد على كلّ رأي من قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ }: الإيمان التفصيليّ بكلّ ما أنزله الله تعالى في القرآن. وأمّا قوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }: فيكفي فيه الإيمان الإجماليّ. وقال شيخنا ما مثاله: هذه هي الطبقة الثانية من المتّقين، وأعيد لفظ (الذين) لتحقيق التمايز بين الطبقتين. وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى؛ لأنّ أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة، فالقرآن يكون هدىً لها بالأولى، ومعنى كونه هدىً لها: إنّه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها، كما ذكرنا. ما كلّ من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن. فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتّى، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سُئل عن القرآن قال: هو كلام الله ولا شكّ، ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينةً له كلّ المباينة. القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثّم من الكذب. القرآن يأمر بالفكر والتدبّر، وهو كما وصف القرآن المكذّبين بقوله تعالى فيهم:**{ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ }** [الذاريات: 11] لا يفكّر في أمر آخرته، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمّته، ولا يتدبّر الآيات والنذر، ولا الحوادث والعبر. إنّ المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزيّن أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائماً، ويجعله معياراً يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق، ليتبيّن: هل هو مهتد به أم لا؟ مثال ذلك: الصلاة. يصفها القرآن بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال في المصلّين:**{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً \* إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً \* وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً \* إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ }** [المعارج: 19-22] فبيّن أنّ الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطريّة. فمَنْ لم تنهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع. وتصطلم جراثيم البخل والطمع، فليعلم أنّه ليس مصلّياً في عرف القرآن، ولا مستحقّاً لما وعد عباده الرحمن. أما لفظ " الإنزال " فالمراد به: ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهيّ الاسميّ، وسمّي إنزالا لما في جانب الألوهيّة من ذلك العلوّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | علوّ الربّ على المربوب، والخالق على المخلوقين، الذين لا يخرجون بالتكريم والإصطفاء عن كونهم عبيداً خاضعين. وقد سمّي القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية: إنزالا، فقال:**{ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }** [الحديد: 25] فنكتفي بهذا من معنى الإنزال، وهو ما يفهمه كلّ عربيّ، من حاضر وبدويّ. وأقول الآن: إنّني كنت اكتفيت بهذا القدر في تفسير الإنزال، تحامياً لما في المسألة من خلاف وجدال، ولكنّني عدت في التفسير إلى فصل المقال في مسائل النزاع، فأزيد عليه: إنّ إنزال الحديد فيه أقوال أُخرى للسلف والخلف، كقوله تعالى:**{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }** [الزمر: 6] أوضّحها: إنّ المراد إنزال الأحكام المتعلّقة بها. وقيل: إنّ الحديد نزل من الجنّة مع آدم. ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة: وهو نقل الشيء من مكان عالي إلى ما دونه، ويطلق العلوّ مجازاً في الأمور المعنويّة، فهو علوّ مكان وعلوّ مكانة. ومن الثاني**{ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ }** [يونس: 83]. والتحقيق: إنّ علوّ المكان الحسّيّ أمر نسبيّ يختلف باختلاف موقع الناس من الأشياء، والجهات كلّها أمور نسبيّة لا حقيقيّة، وأنّ الله سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم، بلا تشبيه ولا تمثيل، لا متّصل بشيء ولا حالّ فيه، مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده، وهذا وجه تسمية ما يأتي من لدنه: إنزالا، فملك الوحي كان يتلقّى الوحي منه عزّ وجلّ وينزل به من السماء إلى الأرض فيتلقّاه منه النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا نعلم صفة تلقّي المَلَك عن الله تعالى؛ لأنّه من الغيب الذي نؤمن به مجملا كما بُلِّغناه، ولا صفة تلقّي النبيّ صلى الله عليه وسلم من جبريل؛ لأنّه من شأن النبوّة ولسنا بأنبياء، وهو من الصلة بين عالم الغيب والشهادة. ولكنّ الله وصف لنا تكليمه للبشر بقوله:**{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ }** [الشورى: 51] الآية - وقوله:**{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ \* عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ \* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 193-195] ووصفه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لمن سأله عنه. وهو الحارث بن هاشم المخزوميّ فقال: **" أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس - وهو أشدّه عليّ - فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال. وأحياناً يتمثّل لي المَلَك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول "** رواه الشيخان من حديث عائشة، رضي الله عنها ثمّ قال تعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] أمّا لفظ (الآخرة) فقد ورد في القرآن كثيراً والمراد به: الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال، ويتضمّن كلّ ما وردت به النصوص القطعيّة من الحساب والجزاء على الأعمال. وأمّا اليقين: فهو الإعتقاد المطابق للواقع الذي لا يقبل الشكّ ولا الزوال، فهو اعتقادان: اعتقاد أنّ الشيء كذا، واعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون إلاَّ كذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأقول الآن: هذا ما قاله شيخنا في الدرس، وهو عرف علماء المعقول من المنطقيّين والمتكلّمين وقد جاريناه عليه في مواضع، وأمّا اليقين في اللغة فهو: الإعتقاد الجازم في غير الحسّيّات والضروريّات - كما صرّحوا به، فالجزم بخبر الصادق والإعتقاد المبنيّ على الأدلّة والأمارات يسمّى يقيناً إذا كان ثابتاً لا شكّ فيه. وفي لسان العرب: إنّ اليقين العلم وإزاحة الشكّ وتحقيق الأمر، وهو نقيض الشكّ، والعلم نقيض الجهل. اهـ فالإيمان الشرعيّ يشترط فيه اليقين اللغويّ فقط وهو: التصديق الجازم الذي لا شكّ فيه ولا تردّد، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح فإنّ هذا هو الظنّ. واليقين المنطقيّ أكمل. وهو ما بنى عليه شيخنا ما يأتي مبسوطاً لا ملخّصاً، قال ما معناه: وصفهم بأنّهم موقنون بالآخرة؛ لأنّهم مؤمنون بالقرآن، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى؛ لأنّها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجّه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق ممّا رزقها الله، فذلك لا ينافي أنّها في حيرة من أمر البعث والجزاء، وكذلك كانت قبل الإيمان بالقرآن. وكان من هداية القرآن لها: أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة. لا يعتدّ بما دون اليقين في الإيمان. وقد قال الله تعالى في اعتقاد قوم:**{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً }** [النجم: 28] وإذا لم يكن الظانّ موقناً وعلى نور من ربّه في اعتقاده، فما حال من هو دونه من الشاكّين والمرتابين؟ ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال. إنّنا نرى الرجل يأتي إلى المحكمة بدعوى زور يريد أن يأكل بها حقّ أخيه بالباطل، أو يجامل آخر بشهادة زور، أو ينتقم بها من ثالث، وهو يعلم أنه مزوّر ومبطل، فيقال له: اتّق الله إنّ أمامك يوماً**{ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ }** [الفرقان: 27] فيقول أعوذ بالله أنا أعلم أنّ أمامي يوماً، وأنّ أمامي شبراً من الأرض - يعني القبر - والدنيا لا تغني عن الآخرة. ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى أنّه محقّ في دعواه أو في شهادته، ثمّ يظهر التحقيق أنّه مزوّر، ويضطّره إلى الإعتراف والإقرار بذلك، فكأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوّح في ذهنه عندما يريد الخلابة والخداع لأجل أكل الحقوق أو إرضاء الهوى، ولا يظهر له أثر في أعماله وأحواله كأثر الإعتقاد ببعض المشايخ الميّتين، كما بيّنا ذلك من قبل. [فمثل هذا الإيمان - وإن تعارف الناس على تسميته تلك - ليس من الإيمان الذي يقوم على ذلك المعنى من الإيقان، ويظهر أثره في الجوارح والأركان]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثمّ قال بعد كلام في آثار اليقين: اليقين إيمانك بالشيء، والإحساس به من طريق وجدانك كأنّك تراه بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكاً لنفسك، مصرِّفاً لها في أعمالها، ولا يكون العلم محقّقاً للإيمان على هذا الوجه، حتّى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين: الأولى: النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر، كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل، وذلك بتخليص المقدمات، والوصول بها إلى حدّ الضروريّات، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنّك راء ما استقرّ رأيك عليه. والطريق الأخرى: خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك، ولا يكون الخبر طريقاً لليقين، حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم صلى الله عليه وسلم أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب: وهي طريق التواتر دون سواها. فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوّة إلاَّ سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها، فالإيقان بالمغيّبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه، وصفات الله التي لا يهتدي إليها النظر، لا يمكن تحصيله إلاَّ من الكتاب العزيز، وهو الحقّ الذي جاءنا من الله لا ريب فيه؛ فعلينا أن نقف عند ما أنبأ به من غير خلط ولا زيادة ولا قياس. وأكّد الإيقان بالآخرة بقوله: { هُمْ } اهتماماً بشأنه، وليبيّن أنّ الإيقان بالآخرة خاصّة من خواصّ الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب، لا يشركهم فيه سواهم، وقد علمت أنّه لا بدّ أن يكون الموقَن به من أحوال الآخرة قطعيّاً. فهذه الإضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث بل أضافوا إليها أيضاً أقوال أهل الكتاب وأشياء أُخرى نسبوها إلى السلف، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوّف لا تدخل فيما يتعلّق به اليقين، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به، فإنّما الوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين، ولا يكون اليقين إلاَّ حيث يكون القطع. وأمّا الظنّ فهو وصف مَنْ عابَهم القرآن وأزرى بهم، فلا علاقة له بأحوالهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
324/ [1]- قال علي بن إبراهيم: و قوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } قال: بما أنزل من القرآن إليك، و بما أنزل على الأنبياء من قبلك من الكتب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
* تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ)
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } عَبَّر بالماضي، تغليباً للموجود { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الكتب، والإيمانُ بهما جُمْلَةً فَرْضُ عَيْن، وبالأول تفصيلاً. مِنْ حَيْثُ إنّا مُتَعبَّدُوْنَ بتفاصيله فرض كفاية. تنبيه: الإنزال: النقل من أعلى إلى أسفل، وهو في المعاني يتوسط الذوات الحاملة لها ونزول القرآن بحفظ الملك إياه من اللوح إلى السماء الدنيا ثم أمرهُ السَّفَرَة بانتساخه ثم تنزيله بحسب المصالح - كذا قاله الأكثرون. وفي ابتداء الوحي، هل هو بنقل ملك آخر إلى جبريل أنه مأمور بالإنزال أو بخلق علم ضروري في جبريل به؟ خلاف، واعْلَمْ أنهم اختلفوا في خلقه لتعارض قياسين هما: كلام الله صفة وكل ما هو صفة قديم، فهو قديم، وكلام الله مؤلف من حروف متعاقبة في الوجود، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذلكَ حادث فهو حادث، والحق الأول لحديث: **" القرآن كلام الله غير مخلوق "** وكيفية، ولأن مبدأ الكلام فينا صفة يتمكن بها من نظم الكلمات على وجه ينطبق على المقصود، وهي ضد الخرس وغير العلم، فإنا نعلم كلاماً هو لغيرنا وكلام كل أحد ما رتبه في خياله، وكلماته -تعالى- ما رتبه في علمه الأزلي بصفته الأزلية التي هي مبدأ تأليفها وترتيبها، وهذه الصفة قديمة، وكذا المرتب بحسب وجوده العلمي ولا تعاقب فيه فلا حدوث، وإنما تعاقبه بحسب وجوده الخارجي، وهو بحسبه كلام لفظي فإنكار كون ما بين الدفتين كلام الله، فإنكار شعر الفلاني كلامه، إذْ مَعْنَى كَوْنه كلامه -تعالى- أنه ذلك الكلام موجوداً بالوجود اللفظي، تأمل هذا التحقيق تخرج من كل مضيق والله -تعالى- أعلم. { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } إيقاناً ينبغي، واليقين. إيقان العلم بنفي الشبهة عنه استدلالاً، فلا يوصف به علمه -تعالى- { أُوْلَـٰئِكَ } المَوْصُوْفُوْنَ مستقرون. { عَلَىٰ هُدًى } هدية من إله عَظيم عظيمة ممنوحة { مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الكاملون في الفلاح أي الظفر على المطالب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } فقال بعضهم: عَنَى بذلك أهل الصفتـين الـمتقدمتـين، أعنـي الـمؤمنـين بـالغيب من العرب والـمؤمنـين بـما أنزل إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم وإلـى من قبله من الرسل، وإياهم جميعاً وصف بأنهم علـى هدى منهم وأنهم هم الـمفلـحون. ذكر من قال ذلك من أهل التأويـل: حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بـالغيب، فهم الـمؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بـما أنزل إلـيك: الـمؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقـين فقال: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وقال بعضهم: بل عَنَى بذلك الـمتقـين الذين يؤمنون بـالغيب وهم الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد، وبـما أنزل إلـى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذي يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما أنزل إلـى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم، وبـما أنزل إلـى من قبله، وهم مؤمنوا أهل الكتاب الذين صدقوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به، وكانوا مؤمنـين من قبلُ بسائر الأنبـياء والكتب. وعلـى هذا التأويـل الآخر، يحتـمل أن يكون: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } فـي مـحل خفض، ومـحل رفع فأما الرفع فـيه فإنه يأتـيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف علـى ما فـي { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } من ذكر «الذين». والثانـي: أن يكون خبر مبتدأ، ويكون: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } مرافعها. وأما الـخفض فعلـى العطف علـى { الْـمُتَّقِـينَ }. وإذا كانت معطوفة علـى «الذين» اتـجه لها وجهان من الـمعنى، أحدهما: أن تكون هي «والذين» الأولـى من صفة الـمتقـين، وذلك علـى تأويـل من رأى أن الآيات الأربع بعد { الـم } نزلت فـي صنف واحد من أصناف الـمؤمنـين. والوجه الثانـي: أن تكون «الذين» الثانـية معطوفة فـي الإعراب علـى «الـمتقـين» بـمعنى الـخفض، وهم فـي الـمعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك علـى مذهب من رأى أن الذين نزلت فـيهم الآيتان الأوَّلتان من الـمؤمنـين بعد قوله { الـم } غير الذين نزلت فـيهم الآيتان الآخرتان اللتان تلـيان الأوّلتـين. وقد يحتـمل أن تكون «الذين» الثانـية مرفوعة فـي هذا الوجه بـمعنى الاستئناف، إذ كانت مبتدأ بها بعد تـمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فـيها أيضاً بنـية الاستئناف إذ كانت فـي مبتدأ آية وإن كانت من صفة الـمتقـين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | فـالرفع إذا يصح فـيها من أربعة أوجه، والـخفض من وجهين. وأولـى التأويلات عندي بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عبـاس، وأن تكون «أولئك» إشارة إلـى الفريقـين، أعنـي الـمتقـين { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ } ، وتكون «أولئك» مرفوعة بـالعائد من ذكرهم فـي قوله: { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } وأن تكون «الذين» الثانـية معطوفة علـى ما قبل من الكلام علـى ما قد بـيناه. وإنـما رأينا أن ذلك أولـى التأويلات بـالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقـين بنعتهم الـمـحمود ثم أثنى علـيهم فلـم يكن عزّ وجل لـيخص أحد الفريقـين بـالثناء مع تساويهما فـيـما استـحقا به الثناء من الصفـات، كما غير جائز فـي عدله أن يتساويا فـيـما يتسحقان به الـجزاء من الأعمال فـيخص أحدهما بـالـجزاء دون الآخر ويحرم الآخر جزاء عمله، فكذلك سبـيـل الثناء بـالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الـجزاء. وأما معنى قوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } فإن معنى ذلك أنهم علـى نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفـيقه لهم كما: حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي علـى نور من ربهم، واستقامة علـى ما جاءهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وتأويـل قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي أولئك هم الـمُنْـجِحُون الـمدركون ما طلبوا عند الله تعالـى ذكره بأعمالهم وإيـمانهم بـالله وكتبه ورسله، من الفوز بـالثواب، والـخـلود فـي الـجنان، والنـجاة مـما أعد الله تبـارك وتعالـى لأعدائه من العقاب. كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة. قال: حدثنا ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونـجوا من شرّ ما منه هربوا. ومن الدلالة علـى أن أحد معانـي الفلاح إدراك الطلبة والظفر بـالـحاجة، قول لبـيد بن ربـيعة: | **اعْقِلِـي إنْ كُنْتِ لَـمَّا تَعْقِلِـي** | | **ولَقَدْ أفْلَـحَ مَنْ كانَ عَقَلْ** | | --- | --- | --- | يعنـي ظفر بحاجته وأصاب خيراً. ومنه قول الراجز: | **عَدِمْتُ أُمّا وَلَدَتْ رَبـاحا** | | **جاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحاً فِرْكَاحَا** | | --- | --- | --- | | **تَـحْسَبُ أنْ قَدْ وَلَدَتْ نَـجاحا** | | **أشْهَدُ لاَ يَزِيدُهَا فَلاحا** | يعنـي خيراً وقربـاً من حاجتها. والفلاح: مصدر من قولك: أفلـح فلان يُفلـح إفلاحاً، وفلاحاً، وفَلَـحاً. والفلاح أيضاً البقاء، ومنه قول لبـيد: | **نـحُلُّ بلاداً كُلَّها حُلَّ قَبْلَنَا** | | **وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عادٍ وحِمْيَرِ** | | --- | --- | --- | يريد البقاء. ومنه أيضاً قول عَبـيد: | **أفْلِـحْ بـما شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُعُ بـالضَّر** | | **يعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الأرِيبُ** | | --- | --- | --- | يريد: عش وابق بـما شئت. وكذلك قول نابغة بنـي ذبـيان: | **وكُلُّ فَتًـى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ** | | **وَإنْ أثْرَى وَإنْ لاقـى فَلاحا** | | --- | --- | --- | أي نـجاحاً بحاجته وبقاءً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ وإلا فلا محلّ لها. ونظم الكلام على الوجهين أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب. فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر. وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أي الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم، أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. ونظيره قولك أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعاً للمتقين، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً. واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقولك قد أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان. وتارة بإعادة صفته، كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. فإن قلت هل يجوز أن يجري الموصول الأوّل على المتقين، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره؟ قلت نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله. وفي اسم الإشارة الذي هو { أُوْلَـٰئِكَ } إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم، كما قال حاتم ولله صعلوك ثم عدّد له خصالاً فاضلة، ثم عقب تعديدها بقوله | **فَذَلِكَ إنْ يَهْلِكْ فحَسْبي ثَنَاؤُهُ وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا** | | | | --- | --- | --- | ومعنى الاستعلاء في قوله على هدى مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به. شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قولهم جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى. ومعنى { هُدًى مّن رَّبّهِمْ } أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير، والترقي إلى الأفضل فالأفضل. ونكر { هُدًى } ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره كأنه قيل على أي هدى، كما تقول لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقال الهذلي | **فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعتِ على لَحَم** | | | | --- | --- | --- | والنون في { مِّن رَّبِّهِمْ } أدغمت بغنة وبغير غنة، فالكسائي، وحمزة، ويزيد، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها. وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو. فقد روى عنه فيها روايتان. وفي تكرير { أُوْلَـٰئِكَ } تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلتْ كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها. فإن قلت لم جاء مع العاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ،أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** الأعراف 179؟ قلت قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل. و { هُمْ } فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. أو هو مبتدأ والمفلحون خبره، والجملة خبر أولئك. ومعنى التعريف في { ٱلْمُفْلِحُونَ } الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة. والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. والمفلج ـــ بالجيم ـــ مثله. ومنه قولهم للمطلقة استفلحي بأمرك بالحاء والجيم. والتركيب دال على معنى الشق والفتح، وكذلك أخواته في الفاء والعين، نحو فلق، وفلذ، وفلى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
اللغة: أولئك اسم مبهم يصلح لكل حاضر تعرفه الإشارة وهو جمع ذلك في المعنى وأولاء جمع ذا في المعنى ومن قصر قال أولا والاك وأولالك وإذا مدَّ لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الزيادة وثقل الهمزة قال الشاعر: | **أُلالِكَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً** | | **وَهلْ يَعِظُ الضّلِّيلَ أُولالِكا** | | --- | --- | --- | والمفلحون المنجحون الفائزون والفلاح النجاح قال الشاعر: | **إِعْقِلِي إِن كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي** | | **فَلَقَدْ أفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ** | | --- | --- | --- | أي ظفر بحاجته والفلاح أيضاً البقاء قال لبيد: | **نَحْلّ بِلاداً كُلُّها حُلَّ قَبْلَنَا** | | **ونَرْجُو الفَلاحَ بَعْدَ عادٍ وَتُبَّعَا** | | --- | --- | --- | وأصل الفلح القطع ومنه قيل الفلاح للأكّار [الحراث] لأنه يشق الأرض وفي المثل الحديد بالحديد يفلح فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير. الإعراب: موضع أولئك رفع بالابتداء والخبر على هدىً من ربهم وهو اسم مبني والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب وكسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين وكذلك قولـه وأولئك هم المفلحون إلا أن قولـه هم فيه وجهان أحدهما: أنه فصل يدخل بين المبتدأ أو الخبر وما كان في الأصل مبتدأ وخبراً للتأكيد ولا موضع له من الإعراب والكوفيون يسمونه عماداً وإنما يدخل ليؤذن أن الاسم بعده خبر وليس بصفة وإنما يدخل أيضاً إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة نحو قولـه تعالى:**{ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً }** [المزمل: 20] والوجه الآخر أن يكون هم مبتدأ ثانياً والمفلحون خبره والجملة في موضع رفع بكونها خبر أولئك. المعنى: لما وصف المتقين بهذه الصفات بيَّن ما لهم عنده تعالى فقال أولئك إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة وهم جملة المؤمنين على هدى من ربهم أي من دين ربهم وقيل على دلالة وبيان من ربهم وإنما قال من ربهم لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى إما لأنه فعله وإما لأنه عرض له بالدلالة عليه والدعاء إليه والإثابة على فعله وعلى هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى وإن كان من فعل العبد ثم كرر تفخيماً فقال وأولئك هم المفلحون أي الظافرون بالغية والباقون في الجنة. النزول: قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين وآيتان بعدها نزلت في الكافرين وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة: أحدها: أن ينوي الابتداء بِـ**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] وذلك لأنه لما قيل:**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول: ما السبب في اختصاص المتقين بذلك؟ فوقع قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إلى قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } جواباً عن هذا السؤال، كأنه قيل: الذي يكون مشتغلاً بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بدّ وأن يكون على هدى من ربه. وثانيها: أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً { لّلْمُتَّقِينَ } ثم يقع الابتداء من قوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً. وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة ٱلْمُتَّقِينَ ويرفع الثاني على الابتداء و { أُوْلَـٰئِكَ } خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى. المسألة الثانية: معنى الاستعلاء في قوله: { عَلَىٰ هُدًى } بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره «فلان على الحق، أو على الباطل» وقد صرحوا به في قولهم: «جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل» وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى مدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولاً، ومدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً، وذلك واجب على المكلف، لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بدّ من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة، وإنما نكر { هُدًى } ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً. قال عون بن عبد الله: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدى بها إلا العلماء. المسألة الثالثة: في تكرير { أُوْلَـٰئِكَ } تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. فإن قيل: فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | [الأعراف: 179] قلنا: قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل. المسألة الرابعة: { هُمْ } فصل وله فائدتان: إحداهما: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان، أما لو قلت: الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان. المسألة الخامسة: معنى التعريف في { ٱلْمُفْلِحُونَ } الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته، أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم، كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. المسألة السادسة: المفلج الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه، والمفلح بالجيم مثله، والتركيب دال على معنى الشق والفتح، ولهذا سمي الزراع فلاحاً، ومشقوق الشفة السفلى أفلح، وفي المثل «الحديد بالحديد يفلح» وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علماً وعملاً بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام، لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات. المسألة السابعة: هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه، والمرجئة من وجه آخر. أما الوعيدية فمن وجهين: الأول: أن قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة والزكاة. الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح، فوجب أن لا يحصل الفلاح. أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكروة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً وإن زنى وسرق وشرب الخمر، وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة، إذ لا قائل بالفرق. والجواب: أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان، ثم الجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً منه، وعن الثاني: أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى. والجواب عن قول المرجئة: أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن إتقاء المعاصي، وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
قال النحاس أهل نجد يقولون: أُلاَكَ، وبعضهم يقول: أُلاَلِكَ والكاف للخطاب. قال الكسائي: من قال أولئك فواحده ذلك، ومن قال أُلاَك فواحده ذاك، وأُلاَلِك مثل أولئك، وأنشد ٱبن السِّكّيت: | **أُلاَلِكَ قَومي لم يكونوا أُشَابةً** | | **وهل يَعِظُ الضِّلّيل إلا أُلالِكَا** | | --- | --- | --- | وربما قالوا: أولئك في غير العقلاء قال الشاعر: | **ذُمّ المنازل بعد منزلة اللِّوَى** | | **والعيشَ بعد أولئك الأيامِ** | | --- | --- | --- | وقال تعالى:**{ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }** [الإسراء:36] وقال علماؤنا: إن في قوله تعالى: { مِّن رَّبِّهِمْ } ردّاً على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم! ولو كان كما قالوا لقال: «من أنفسهم»، وقد تقدّم الكلام فيه وفي الهُدى فلا معنى لإعادة ذلك. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } «هم» يجوز أن يكون مبتدأ ثانياً وخبره «المفلحون» والثاني وخبره خبر الأوّل، ويجوز أن تكون «هم» زائدة ـ يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عماداً و «المفلحون» خبر «أولئك». والفَلْح أصله في اللغة الشق والقطع قال الشاعر: | **إن الحديد بالحديد يُفْلَح** | | | | --- | --- | --- | أي يشق ومنه فلاحة الأرضين إنما هو شقّها للحرث، قاله أبو عبيد. ولذلك سُمّيَ الأَكَّارُ فلاّحاً. ويقال للذي شُقّت شفته السفلى أفلح، وهو بَيّن الفَلَحة، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضاً في اللغة، ومنه قول الرجل لامرأته: ٱستَفْلِحِي بأمْرِك، معناه فوزي بأمرك، وقال الشاعر: | **لو كان حَيّ مدرك الفلاح** | | **أدركه مُلاعب الرماح** | | --- | --- | --- | وقال الأضْبط بن قُرَيع السعديّ في الجاهلية الجهلاء: | **لكلِّ هَمٍّ من الهموم سعَهْ** | | **والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاح مَعَهْ** | | --- | --- | --- | يقول: ليس مع كرّ الليل والنهار بقاء. وقال آخر: | **نحل بلاداً كلّها حلّ قبلنا** | | **ونرجو الفلاح بعد عاد وحِمْيَر** | | --- | --- | --- | أي البقاء. وقال عبيد: | **أفْلِحْ بما شئتَ فقد يُدرَك بالضَّـ** | | **عْف وقد يُخَدَّعُ الأرِيبُ** | | --- | --- | --- | أي أبق بما شئت من كَيْس وحُمْق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل. فمعنى «وأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون»: أي الفائزون بالجنة والباقون فيها. وقال ٱبن أبي إسحٰق: المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوْا من شر ما منه هربوا، والمعنى واحد. وقد ٱستعمل الفلاَح في السَّحور ومنه الحديث: **" حتى كاد يفوتنا الفلاَح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وما الفلاَحَ؟ قال: السَّحور "** أخرجه أبو داود. فكأنّ معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمّاه فلاحاً. والفلاح بتشديد اللام: المُكارِي في قول القائل: | **لها رِطلٌ تَكيلُ الزيت فيه** | | **وفَلاَّحٌ يسوق لها حِمارَا** | | --- | --- | --- | ثم الفلاحَ في العُرْف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب. مسألة: إن قال قائل كيف قرأ حمزة: عليهُم وإليهُم ولديهُم ولم يقرأ من ربُهم ولا فيهُم ولا جَنَّتَيْهُم؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف، والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرّت الهاء على ضمتها وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جَنَّتَيْهِمْ، ووافقه الكسائي في «عليهم الذِّلة» و «إليهم ٱثنين» على ما هو معروف من القراءة عنهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولاً عن المتقين خبر له، فكأنه لما قيل**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] قيل ما بالهم خصوا بذلك؟ فأجيب بقوله:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] إلى آخر الآيات. وإلا فاستئناف لا محل لها، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة. أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له. ومعنى الاستعلاء في { عَلَىٰ هُدًى } تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه، وقد صرحوا به في قولهم: امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى، وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. ونُكِّرَ هدىً للتعظيم. فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره، ونظيره قول الهذلي: | **فلا وأبي الطيرُ المربَّةَ بالضُّحَى** | | **على خالدٍ لقدْ وقَعْتَ على لحم** | | --- | --- | --- | وأُكِد تعظيمه بأن الله تعالى مَانِحُهُ والموفق له، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } كرر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلاً منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله**{ أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** [الأعراف: 179] فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف. وهم: فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة، ويفيد اختصاص المسند إليه، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك. والمفلح بالحاء والجيم: الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق. والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة. أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم. تنبيه: تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح له رأساً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
يقول الله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ } أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات { عَلَىٰ هُدًى } أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي في الدنيا والآخرة، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم به { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا. وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديده إياهم، وتوفيقه لهم. وتأويل قوله تعالى { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي المنجحون، المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم، وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ }** البقرة 4 الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى**{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ }** البقرة 4 منقطعاً مما قبله، وأن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين فقال { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم، واسمه سليمان بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن، فنرجو، ونقرآ من القرآن، فنكاد أن نيأس، أو كما قال، قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **" أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ "** قالوا بلى يا رسول الله قال **" { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة، قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } هؤلاء أهل النار قالوا لسنا هم يا رسول الله قال أجل ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ أُوْلَٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر { عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالجنة الناجون من النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلاً بما قبله. قال في الكشاف ومعنى الاستعلاء في قوله { عَلَىٰ هُدًى } مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قوله جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. قال ابن جرير إن معنى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، و { ٱلْمُفْلِحُونَ } أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة الشقّ والقطع، قاله أبو عبيد ويقال الذي شقت شفته أفلح، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة، فمعنى { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف المفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم». قلت وما الفلاح؟ قال السحور. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب هم المؤمنون من العرب، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله هم، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وقد قدمنا الإشارة إلى هذا، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبـي العالية والربيع بن أنس وقتادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن أبـي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال **" قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال فقال ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ "** قالوا بلى يا رسول الله، قال **" { الم \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } إلى قوله { لْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة "** قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال **" { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ } إلى قوله { عظِيمٌ } هؤلاء أهل النار "** قالوا ألسنا هم يا رسول الله؟ قال **" أجل "** وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث. منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيّ فقال يا نبيّ الله إن لي أخاً وبه وجع فقال **" وما وجعه؟ "** قال به لمم، قال **" فائتني به، فوضعه بين يديه، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة، وهاتين الآيتين "** **{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ }** البقرة 163 وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران**{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** آل عمران 18، وآية من الأعراف**{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ }** الأعراف 54، وآخر سورة المؤمنين**{ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ }** المؤمنون 116 - 118، وآية من سورة الجنّ**{ وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا }** الجن 3، وعشر آيات من أوّل الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و**{ قل هو الله أحد }** الأخلاص 1 والمعوّذتين، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ». وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق. وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها أوّلها متصل**{ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ }** البقرة 284. وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة "** وقد ورد في ذلك غير هذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
وقوله تعالى: { أُولئِكَ على هُدىً مِنْ رَبِّهُمْ } يعني بيان ورشد. { وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم الفائزون السعداء، ومنه قول لبيد: | **لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكُ الْفَلاَحِ** | | **أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ** | | --- | --- | --- | والثاني: المقطوع لهم بالخير، لأن الفلح في كلامهم القطع، وكذلك قيل للأكار فلاح، لأنه يشق الأرض، وقد قال الشاعر: | **لَقَدْ عَلِمتَ يا ابنَ أُمِّ صحصحْ** | | **أن الحديدَ بالحديدِ يُفلحْ** | | --- | --- | --- | واختلف فيمن أُرِيدَ بهم، على ثلاثة أوجه: أحدها: المؤمنون بالغيب من العرب، والمؤمنون بما أنزل على محمد، وعلى من قبله من سائر الأنبياء من غير العرب. والثاني: هم مؤمنو العرب وحدهم. والثالث: جميع المؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { أولئك على هدى } أي: على رشاد. وقال ابن عباس: على نور واستقامة. قال ابن قتيبة: المفلحون: الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح: البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد: | **نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا** | | **ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير** | | --- | --- | --- | يريد: البقاء. وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباري: ومنه: حيَّ على الفلاح، معناه: هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ هُدىً } بيان ورشد، { الْمُفْلِحُونَ } الناجون من عذاب الله، والفلاح: النجاة أو الفائزون السعداء، أو الباقون في الثواب، الفلاح: البقاء، أو المقطوع لهم بالخير، الفلح: القطع، الأكَّار: فلاح لشقه الأرض. | **لقد علمت يا ابن أم صحصح** | | **أن الحديد بالحديد يفلح** | | --- | --- | --- | والمراد بهم جميع المؤمنين، أو مؤمنو العرب، أو المؤمنون من " العرب " وغير العرب ممن آمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى من قبله من الأنبياء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
{ أولئك } أي الذين هذه صفتهم { على هدى من ربهم } أي على رشاد ونور من ربهم وقيل على استقامة { وأولئك هم المفلحون } أي الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة والمفلح الظافر بالمطلوب أي الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ويكون الفلاح بمعنى البقاء قال الشاعر: | **لو كان حيِّ مدرك الفلاح أدركه مُلاعب الرماح** | | | | --- | --- | --- | يريد البقاء فيكون المعنى أولئك هم الباقون في النعيم المقيم والفلاح والظفر وإدراك البغية من السعادة والعز والبقاء والغنى وأصل الفلاح الشق كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح، أي يقطع، فعلى هذا يكون المعنى أولئك هم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. واعلم أن الله عزّ وجل صدر هذه السورة بأربع آيات أنزلها في المؤمنين وبآيتين أنزلهما في الكافرين وبثلاث عشرة آية أنزلها في المنافقين فأما التي في الكفار فقوله تعالى: { إن الذين كفروا } أي جحدوا وأنكروا وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته قال الشاعر: | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | | --- | --- | --- | أي سترها والكفر على أربعة أضرب: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً ككفر فرعون وهو وقوله ما علمت لكم من إله غيري، وكفر جحود وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر عناد وهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أمية بن أبي الصلت وأبي طالب حيث يقول في شعر له: | **ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا** | | | | --- | --- | --- | وكفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر. وحاصله أن من جحد الله أو أنكر وحدانيته أو أنكر شيئاً مما أنزله على رسوله أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الرسل فهو كافر فإن مات على ذلك فهو في النار خالداً فيها ولا يغفر الله له نزلت في مشركي العرب. وقيل في اليهود { سواء عليهم } أي متساوٍ لديهم { أأنذرتهم } أي خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } أي لا يصدقون وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة العذاب في سابق علم الله الأزلي أنهم لا يؤمنون. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال تعالى: { ختم الله على قلوبهم } أي طبع الله عليها فلا تعي خيراً ولا تفهمه وأصل الختم التغطية وحقيقة الاستيثاق من الشيء لكي لا يخرج منه ما حصل فيه ولا يدخله ما خرج منه، ومنه ختم الكتاب. قال أهل السنة: ختم الله على قلوبهم بالكفر لما سبق في علمه الأزلي فيهم وإنما خص القلب بالختم لأنه محل الفهم والعلم { وعلى سمعهم } أي وختم على موضوع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه كأنها مستوثق منها بالختم أيضاً، وذكر السمع بلفظ التوحيد ومعناه الجمع قيل إنما وحده لأنه مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع { وعلى أبصارهم غشاوة } هذا ابتداء كلام والغشاوة الغطاء، ومنه غاشية السرج أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق وهي غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده { ولهم عذاب عظيم } يعني في الآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وحقيقة العذاب هو كل ما يؤلم الإنسان ويعيبه ويشق عليه وقيل هو الإيجاع الشديد وقيل هو ما يمنع الإنسان من مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش والعظيم ضد الحقير. قوله عزّ وجلّ: { ومن الناس من يقول آمنا بالله } نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم وذلك أنهم أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا بها من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأسروا الكفر واعتقدوه وأكثرهم من اليهود. وصفة المنافق أن يعترف بلسانه بالإيمان ويقربه وينكره بقلبه ويصبح على حال ويمسي على غيرها، والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسى قال الشاعر: | **سميت إنساناً لأنك ناسي** | | | | --- | --- | --- | وقيل سمي إنساناً لأنه يستأنس بمثله { وباليوم الآخر } أي وآمنا باليوم الآخر وهو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يأتي بعد الدنيا وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة وما بعده فلا حد له ولا آخر قال الله تعالى رداً على المنافقين { وما هم بمؤمنين } نفى عنهم الإيمان بالكلية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" أولئك " مبتدأ، خبره الجار والمجرور بعده أي: كائنون على هُدًى، وهذه الجملة: إما مستأنفة، وإما خبر عن قوله: الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية، ويجوز أن يكون " أولئك " وحده خبراً عن " الذين يؤمنون " أيضاً إما الأولى أو الثانية، ويكون " على هُدًى " في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال، هذا كله إذا أعربنا " الذين يؤمنون " مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ، فلا يخفى حكمه مما تقدم. ويجوز أن يكون " الذين يؤمنون " مبتدأ و " أولئك " بدل أو بَيَان، و " على هدى " الخبر. و " أولئك ": اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهه بالحرف في الافتقار. وقيل: " أولاء " كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: " هم " و " الكاف " للخطاب، كما في حرف " ذلك " ، وفيه لغتان: المد والقصر: ولكن الممدود للبعيد، وقد يقال: " أولالك " قال: [الطويل] | **136- أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً** | | **وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا** | | --- | --- | --- | وعند بعضهم: المقصور للقريب والممدود للمتوسّط، و " أولالك " للبعيد، وفيه لغات كثيرة، وكتبوا " أولئكَ " بزيادة " واو " قبل " اللام ". قيل: للفرق بينها وبين " إليك ". و " الهدى " الرشد والبيان والبَصِيرة. و " مِنْ رَبِّهِمْ " في محل جر صفة لـ " هدى " و " مِنْ " لابتداء الغاية، ونكر " هدى " ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله: [الطويل] | **137- فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى** | | **عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ** | | --- | --- | --- | وروي " من ربهم " بغير غُنّة، وهو المشهور، وبغُنّة، ويروى على أبي عمرو، و " أولئك " مبتدأ، و " هم " مبتدأ ثانٍ، و " المفلحون " خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون " هم " فصلاً أو بدلاً، و " المفلحون " الخبر. وفائدة الفصل: الفرق بين الخبر والتابع، ولهذا سمي فصلاً، ويفيد - أيضاً - التوكيد. قال ابن الخطيب: يفيد فائدتين: إحداهما: الدلالة على أن " الوارد " بعده خبر لا صفة. والثاني: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان. وقد تقدم أنه يجوز أن يكون " أولئك " الأولى، أو الثّانية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدم تضعيف هذين القولين. وكرر " أولئك " تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الأُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }** [الأعراف: 179] لأن الخبرين - هنا - متغايران، فاقتضى ذلك العطف، وأما تلك الآية الكريمة، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن التسجيل عليهم بالغَفْلَةِ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد، فكانت عن العَطْف بمعزل. قال الزمخشري: وفي اسم الإشارة الذي هو " أولئك " إيذانٌ بأن ما يراد عقبه، والمذكورين قبله أهل لاكتسابه من أجل الخِصَال التي عددت لهم، كقول حاتم: [الطويل] | **138- وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ....** | | **......................** | | --- | --- | --- | ثم عدَّد له فاضلة، ثم عقَّب تعديدها بقوله: [الطويل] | **139- فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ** | | **وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا** | | --- | --- | --- | و " الفلاح " أصله: الشقُّ؛ ومنه قوله: [الرجز] | **140- إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ** | | | | --- | --- | --- | ومنه قول بكر بن النّطاح: [الكامل] | **141- لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعة غَيْرَهَا** | | **إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ** | | --- | --- | --- | ويعبر به عن الفوز، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال: [الرجز] | **142- لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ** | | **أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ** | | --- | --- | --- | وقال: [الطويل] | **143- نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا** | | **ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ** | | --- | --- | --- | وقال: [المنسرح] | **144- لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُوم سَعَهْ** | | **والْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهْ** | | --- | --- | --- | والمُفْلج - بالجيم - مثله، ومعنى التعريف في " المُفْلِحون " الدلالة على أن المتقين هم الناس أي: أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة. أما الوعيديّة فمن وجهين: الأول: أن قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاة والزكاة. الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح، فوجب إلا يحصل الفلاح. وأما المُرْجئة: فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً، وإن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق. قال ابن الخطيب: والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر، فيتساقطان. والجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: " أولئك هم المفلحون " يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً. وعن الثاني: أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى. والجواب عن قول المرجئة: أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي، واتقاء ترك الواجبات، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الذين حُكيت خِصالُهم الحميدةُ من حيث اتصافُهم بها، وفيه دلالةٌ على أنهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّز، منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأ، وقوله عز وعلا: { عَلَىٰ هُدًى } خبرُه، وما فيه من الإبهام المفهومِ من التنكير لكمال تفخيمِه، كأنه قيل: على أيِّ هدىً لا يُبلَغ كُنهُه، ولا يُقادَرُ قدرُه. وإيرادُ كلمةِ الاستعلاء بناءً على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يَعْتلي الشيء ويستولي عليه يتصرف فيه كيفما يريد، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارةً تبعية، متفرّعةً على تشبـيهه باعتلاء الراكبِ واستوائِه على مركوبه، أو على جعلها قرينةً للاستعارة بالكناية بـين الهدى والمركوبِ للإيذان بقوةِ تمكّنِهم منه وكمالِ رسوخهم فيه، وقوله تعالى: { مّن رَّبّهِمُ } متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً له مبـينةً لفخامته الإضافية إثرَ بـيانِ فخامته الذاتية، مؤكدةً لها، أي على هدىً كائنٍ من عنده تعالى، وهو شاملٌ لجميع أنواع هدايتِه تعالى، وفنونِ توفيقِه. والتعرّضُ لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيمِ الموصوفِ والمضافِ إليهم وتشريفِهما، ولزيادة تحقيقِ مضمونِ الجملة، وتقريرِه ببـيانِ ما يوجبُه ويقتضيه وقد أُدغمت النونُ في الراء بغُنّةٍ أو بغير غنة، والجملةُ على تقدير كونِ الموصولَين موصولَين بالمتقين، مستقلةٌ لا محل لها من الإعراب، مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } مع زيادة تأكيدٍ له وتحقيق. كيف لا وكونُ الكتاب هدىً لهم فنٌّ من فنون ما مُنِحوه واستقروا عليه من الهدى، حسبما تحققْتَه، لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح، وقيل: هي واقعةٌ موقعَ الجواب عن سؤالٍ ربما ينشأ مما سبق، كأنه قيل: ما للمنعوتين بما ذُكر من النعوت اختُصّوا بهداية ذلك الكتابِ العظيمِ الشأن؟ وهل هم أحقاءُ بتلك الأثرَة؟ فأجيب بأنهم بسبب اتصافِهم بذلك مالِكُونَ لزِمام أصلِ الهدى الجامعِ لفنونه، المستتبِع للفوز والفلاح، فأيُّ ريبٍ في استحقاقهم لما هو فَرعٌ من فروعه؟ ولقد جار عن سَنن الصواب من قال في تقرير الجواب: بأن أولئك الموصوفين غيرُ مستبعَدٍ أن يفوزوا دون الناسِ بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً. وأما على تقدير كونِهما مفصولَين عنه فهي في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ الأول، والثاني معطوفٌ عليه، وهذه الجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ من تخصيص ما ذُكر بالمتقين قبل بـيانِ مبادىءِ استحقاقِهم لذلك، كأنه قيل: ما بالُ المتقين مخصوصين به؟ فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمُهم إجمالاً من نعوت الكمال، وبـيان ما يستدعيه من النتيجة، أي الذين هذه شؤونُهم أحقاءُ بما هو أعظمُ من ذلك، كقولك: أُحِبّ الأنصارَ الذين قارعوا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا مُهجتَهم في سبـيل الله، أولئك سوادُ عيني، وسُوَيْدَاءُ قلبـي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأعلم أن هذا المسلكَ يُسلك تارةً بإعادة اسمِ مَن استُؤنِفَ عنه الحديثُ، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ، زيدٌ حقيقٌ بالإحسان، وأخرى بإعادةِ صفتِه، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ صديقِك القديمِ، أهلٌ لذلك، ولا ريب في أن هذا أبلغُ من الأول، لما فيه من بـيان الموجِبِ للحكم، وإيرادُ اسمِ الإشارةِ بمنزلة إعادة الموصوفِ بصفاته المذكورة، مع ما فيه من الإشعار بكمال تميُّزِه بها، وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمورِ المشاهدة، والإيماءِ إلى بُعد منزلتِه كما مر. هذا وقد جُوِّز أن يكون الموصولُ الأول مُجرىً على المتقين حسبما فُصّل، والثاني مبتدأ، وأولئك الخ خبرُه، ويُجعل اختصاصُهم بالهدى والفلاح تعريضاً بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعُمون أنهم على الهدى، ويطمعون في نيل الفلاح. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تكريرُ اسمِ الإشارة لإظهار مزيدِ العنايةِ بشأن المشارِ إليهم، وللتنبـيه على أن اتصافَهم بتلك الصفات يقتضي نيلَ كلِّ واحدة من تينك الأثَرَتين، وأن كلاً منهما كافٍ في تميّزهم بها عمن عداهم، ويؤيده توسيطُ العاطف بـين الجملتين، بخلاف ما في قوله تعالى:**{ أُوْلَـئِكَ كَٱلأنَعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** [الأعراف، الآية 179] فإن التسجيلَ عليهم بكمال الغفلة عبارةٌ عما يفيده تشبـيهُهُم بالبهائم، فتكون الجملةُ الثانية مقررةً للأولى، وأما الإفلاحُ الذي هو عبارةٌ عن الفوز بالمطلوب فلمّا كان مغايراً للهدىٰ - نتيجةً له - وكان كلٌّ منهما في نفسه أعزَّ مرامٍ يتنافس فيه المتنافسون فُعل ما فُعل، و(هم) ضميرُ فصلٍ يفصِل الخبرَ عن الصفة ويؤكِّد النسبة، ويفيد اختصاصَ المُسند بالمسند إليه، أو مبتدأ خبرُه المفلحون، والجملةُ خبرٌ لأولئك، وتعريفُ المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناسُ الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارةً إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم. هذا، وفي بـيان اختصاصِ المتقين بنيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة اللائقة حسبما أشير إليه في تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب في اقتفاءِ أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه، والله وليُّ الهداية والتوفيق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
قوله عزَّ وجلَّ: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [5] أي بيان من ربهم بنور هدايته القلوب مشاهدة له، وسكوناً إليه من نوره الذي أفردهم به في سابق علمه، فلا ينطقون إلاَّ بالهدى، ولا يبصرون إلاَّ إلى الهدى، فالذين به اهتدوا غير مفارق لهم، فكانوا بذلك مشاهدين لأنهم غير غائبين عنه، ولو سئلوا عنه أخبروا، ولو أرادوا لسبقت الأشياء إرادتهم، فهم المفلحون، وهم المرشدون إلى الهدى والفلاح بهدايته لهم، والباقون في الجنة مع بقاء الحق عزَّ وجلَّ. قال سهل: ولقد بلغني أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا دواد، انظر لا أفوتك أنا، فيفوتك كل شيء، فإني خلقت محمداً صلى الله عليه وسلم لأجلي، وخلقت آدم عليه السلام لأجله، وخلقت عبادي المؤمنين لعبادتي، وخلقت الأشياء لأجل ابن آدم، فإذا اشتغل بما خلقته من أجله حجبته عما خلقته من أجلي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
الذين لزموا طريق المواصلة بالانفصال عما سوى الحق فأفلحوا فانقطعت الحجب عن قلوبهم فشاهدوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
يعني على بيان من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلَّى لقلوبهم أولاً بآياته ثم تجلَّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته. وقوم { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } بدلائل العقول؛ وضعوها في موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفلاح الظفر بالبُغية، والفوز الطِلبة، ولقد نال القوم البقاء في مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهي غاغة النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } اي اولئك على حقيقة يقين متصلة بانوار المعرفة ان الله تعالى بلا معارضة النفس وريب الشيطان مفلحون من مكائدهما ووسواسهما وايضاً مفلحون من الله بالله وقيل اولئك الذين لَزِموا طريق المفاصلة بالانفصال عما سوى الحق فأفلحوا فانقطع الحجب عن قلوبهم فشاهدوا { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } اي انَّ الذين احتجبُوا عنا بحظوظ البشريات سواء عندهم انذارك بقطيعتنا عنهم وتخويفك بعقوبتنا عليهم لانهم في مهمة الغفلةِ عن مباشرة المعرفة لا يقرون باللقاء والمشاهدة لاستغراقهِم في بحار الشهوة وقيل ان الذين ضَلّوا عن رؤية مننى عليهم في السَبْق سواء عندهم مَنْ شاهد الاعواض في خدمتى ومَنْ شاهد المعوّضَ لا تخلصْ سَرَائرهم ولا يثبت لهم الايمان الغيبىّ وانّما إيمانهم على العبادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ أولئك } الجملة فى محل الرفع ان جعل احد الموصلين مفصولا عن المتقين خبر له وكأنه لما قيل هدى للمتقين قيل ما بالهم خصوا بذلك اجيب بقوله الذين يؤمنون الى آخر الآيات والا فاستئناف لا محل لها فكأنه نتيجة الاحكام السابقة والصفات المتقدمة. واو لاء جمع لا واحد له من لفظه بنى على الكسر وكافه للخطاب كالكاف فى ذلك اى المذكورون قبله وهم المتقون الموصوفون بالايمان بالغيب وسائر الاوصاف المذكورة بعده وفيه دلالة على انهم متميزون بذلك اكمل تميز منتظمون بسببه فى سلك الامور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للاشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله عز وجل { على هدى } خبره وما فيه من الابهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمة كأنه قيل على هدى أى هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره كما تقول لو ابصرت فلانا لابصرت رجلا وايراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم فى ملابستهم بالهدى بحال من يقبل الشئ ويستولى عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد وذلك انما يحصل باستفراغ الفكر وادامة النظر فيما نصف من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس فى العمل يعنى اكرمهم الله فى الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريق الفلاح قبل الموت { من ربهم } متعلق بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الاضافية اثر بيان فخامته الذاتية مؤكدة لها اى على هدى كائن من عنده تعالى وهو شامل لجميع انواع هدايته تعالى وفنون توفيقه والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى ضميرهم لغاية تفخيم الموصوف والمضاف اليهم وتشريفهما. ثم فى هذه الآية ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات وفى قوله**{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا }** البقرة 136 الى قوله تعالى**{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد إهتدوا }** البقرة 137. ذكر لهم الهداية بالاقرار والاعتقاد بدون سائر الطاعات بيانا لشرف الايمان وجلال قدره وعلو امره فانه اذا قوى لم يبطله نفس المخالفات بل هو الذى يغلب فيرد الى التوبة بعد التمادى فى البطالات وكما هدى اليوم الى يهدى غدا الى الجنان قال تعالى**{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم }** يونس 9. وذلك ان المطيعين يسعى نورهم بين ايديهم وبايمانهم وهم على مراكب طاعاتهم والملائكة تتلقاهم قال تعالى**{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }** مريم85. وتتلقاهم الملائكة وتبقى العصاة منفردين منقطعين فى متاهات القيامة ليس لهم نور الطاعات ولافى حقهم استقبال الملائكة فلا يهتدون السبيل ولا يهديهم دليل فيقول الله لهم**{ إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون }** يس 55. ان اهل الجنة من حسن الثواب لا يتفرغون لكم واهل النار من شدة العقاب لا يرحمونكم معاشر المساكين سلام عليكم كيف انتم ان كان اشكالكم سبقوكم ولم يهدوكم فانا هاديكم ان عاملتكم بما تستوجبون فاين الكرم كذا فى التيسير قال السعدى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **نه يوسف كه جندان بلاديد وبند جوحكمش روان كشت وقدرش بلند كنه عفو كرد آل يعقوبرا كه معنى بود صورت خوبرا بكردار بد شان مقيد نكرد بضاعات مزجاتشان ردنكرد زلطفت همى جشم داريم نيز برين بى بضاعت ببخش اى عزيز بضاعت نياوردم الا اميد خدايا زعفوم مكن نا اميد** | | | | --- | --- | --- | { وأولئك هم المفلحون } تكرير اولئك للدلالة على ان كل واحد من الحكمين مستبد فى تميزهم به عن غيرهم فكيف بهما وتوسط العطف بينهما تنبيه على تغايرهما فى الحقيقة وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر الدلالة على ان ما بعده خبر لا صفة وان المسند ثابت للمسند اليه دون غيره فصفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز الى من عداهم من اليهود والنصارى ولا يلزم من هذا ان لا يكون للمتقين صفة اخرى غير الفلاح فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس حتى يلزم ذلك والمفلح الفائز بالبغية كانه الذى انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه والتركيب دال على معنى الشق والفتح والقطع ومنه سمى الزارع فلاحا لانه يشق الارض وفى المثل الحديد بالحديد يفلح اى يقطع والمعنى هم الفائزون بالجنة والناجون من النار يوم القيامة والمقطوع لهم بالخير فى الدنيا والآخرة. وحاصل الفلاح يرجع الى ثلاثة اشياء. احدها الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها والدنيا فلم يطغوا بزخارفها والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم. والثانى النجاة من الكفر والضلالة والبدعة والجهالة وغرور النفس ووسوسة الشيطان وزوال الايمان وفقد الامان ووحشة القبور واهوال النشور وزلة الصراط وتسليط الزبانية الشداد الغلاظ وحرمان الجنان ونداء القطيعة والهجران. والثالث البقاء فى الملك الابدى والنعيم السرمدى ووجدان ملك لا زوال له ونعيم لا انتقال له وسرور لا حزن معه وشباب لا هرم معه وراحة لا شدة معها وصحة لا علة معها ونيل نعيم لا حساب معه ولقاء لا حجاب له كذا فى تفسير التيسير. وقد تشبثت الوعيدية بالآية فى خلود الفساق من اهل القبلة فى العذاب ورد بان المراد بالمفلحين الكاملون فى الفلاح ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم لا عدم الفلاح لهم رأسا كما فى تفسير البضياوى قال الشيخ نجم الدين داية قدس سره ذكر هدى بالنكرة اى على كشف من كشوف ربهم ونور من انواره وسر من اسراره ولطف من ألطافه وحقيقة من حقائقه فان جميع ما انعم الله به على انبيائه واوليائه بالنسبة الى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وانعامه واحسانه قطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الانفاق ابدا كما قال النبى صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **" يمين الله ملأ لا ينقصها نفقة سخاء الليل والنهار ".** وفيه اشارة لطيفة وهى انهم بذلك الهدى آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون واولئك هم المفلحون الذين تخلصوا من حجب الوجود بنور نار الصلاة وشاهدوا الآخرة وجذبتهم العناية بالهداية الى مقامات القربة وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه وما حطوا رحالهم الا بفنائه فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى ونالوا الدرجة العليا وحققوا قول الحق**{ وان الى ربك الرجعى }** العلق 8 انتهى كلام الشخ فى تأويلاته قال المولى جلال الدين قدس سره | **كرهمى خواهى كه بفروزى جوروز هستئ همجون شب خودرا بسور هستيت درهست آن هستى نواز همجومس در كيميا اندر كداز** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة اولئك بهمزتين، وفيهم من يخففهما وحمزة يمد اولئك واولئك اسم مبهم يصلح لكل حاضر تعرفه الاشارة كقولك ذاك في الواحد، وأولاء جمع ذاك في المعنى ومن قصر قال أولا وأولالك، واذا أمددته لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الهمزة وثقل الزيادة، وتقول: أولاء للقريب وها أولئك للبعيد وأولئك للمتوسط. واضيف الهدى إلى الله لأحد الأمرين: احدهما: لما فعل بهم من الدلالة على الهدى والايضاح له، والدعاء اليه. الثاني: لأنه يثيب عليه، فعلى هذا يضاف الايمان بأنه هداية من الله. { وهدى } في موضع خفض بعلى. ومعنى { على هدى }: أي على حق وخير بهداية الله إياهم ودعائه إلى ما قالوا به، ومن قال: هم على نور واستقامة أو بيان ورشد، فهو داخل تحت ما قلنا، والاولى أن يكون ذلك عاماً فيمن تقدم ذكره في الآيتين، ومن خص ذلك فقد ترك الظاهر؛ لأن فيهم من خصها بالمعنيين في الآية الاولى، وفيهم من خصها بالمذكورين في الآية الثانية، وقد بينا أن الجمع محمول على العموم وحملها على العموم في الفريقين محكي عن ابن عباس وابن مسعود. و { المفلحون } هم المنجحون الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم وإيمانهم. والفلاح: النجاح. قال الشاعر: | **اعقلي إن كنت لما تعقلي** | | **ولقد أفلح من كان عقل** | | --- | --- | --- | يعتي من ظفر بحاجته وأصاب خيراً. وتقول أفلح يفلح إفلاحا وتقول فلح يفلح فلاحاً وفِلاحا والفلاح البقاء أيضاً. قال لبيد | **نحل بلاداً كلها حل قبلنا** | | **ونرجو فلاحاً بعد عاد وحمير** | | --- | --- | --- | يعني البقاء وأصل الفلح القطع، فكأنه قطع لهم بالخير، ومنه قيل للاكار فلاحاً لأنه يشق الارض، والفلاح المكاري لأنه يقطع الارض قال الشاعر: | **إن الحديد بالحديد يفلح** | | | | --- | --- | --- | وفى اولئك لغات: فلغة أهل الحجاز: أوليك بالياء، وأهل نجد وقيس وربيعة وأسد يقولون: اولئك بهمز. وبعض بني سعيد من بني تميم يقولون: الاّك مشددة، وبعضهم يقول: الالك. قال الشاعر: | **ألا لك قوم لم يكونوا أشابة** | | **وهل يعظ الضليل إلا ألالكا** | | --- | --- | --- | وهم دخلت للفصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
ولهذا قد وصف تعالى اولئك الموقنين بالآخرة على طريقة المدح بقوله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } معنى هذا الاستعلاء، بيان لتمكّنهم من الهُدى واستقرارهم عليه تشبيهاً بحال من اعتلى الشيء وركبه، واستعارة لِعلَى الموضوعةُ للثاني للأول، ونظيره: فلانٌ على الحقّ وفلانٌ على الباطل. وربما وقع التصريحُ به كما في قولهم: ركِب على متْن الجهل وجعلَ الغوايّة مركَباً والجهلَ مطيّةً. وامتطى الباطلَ. وتحقيق القول في كونهم على الهُدى تكرّر الإدراكات للأُمور العقليّة، وتكثّر الاشتغال بملاحظة الأشياء الملكوتيّة، والمواظبة على الأفكار الصحيحة، ودفْع الشكوك والشبهات عن المقاصد الحقّة، وطرد شياطين الأوهام والخيالات بنور المعرفة واليقين، حتّى تحصل للنفس ملكة الاتّصال بعالَم الملكوت متى شاءت من غير تجشّم وكثير تعمّل. فكأنّه تعالى، لمّا مدحَهم بالإيمان بما أُنزل على الأنبياء (عليهم السلام)، والاطّلاع على ما في الصُّحف النازلة من السماء، مدحَهم بالإقامة على ذلك وإدامة النظَر فيها، والمواظبة على حراستها عن شُبه الضالّين، وأوهام المعطّلين وذلك واجبٌ على كلّ عاقل إذا كان متشدداً في الدين، خائفاً وجِلاً محاسِباً نفسَه في علمه وعمله بمقتضى البراهين، وإذا حرسَ نفسه عن الزيغ والضلال، وداومَ على العمل للآخرة من غير إخلال، كان ممدوحاً بكونه على هدى وعلى بصيرة. وتنكير " هُدىً " ، للدلالة على ضربٍ مبهمٍ لا يُبلغ كنهُه ولا يُعلم غورُه ولا يُعرف قدْرُه قال بعض الأكابر: الهدى من الله كثيرٌ لا يبصره إلا بصير، ولا يُعمل به إلاّ يسير ألا ترى انّ نجوم السماء يبصرها كلّ بصير ولا يهتدي بها إلاّ عالِم خبير. واعلم أنّ الوجه في انتظام هذه الآية وتعلّقها بما قبلها، انّ الجملة في محلّ الرفع بالخبَرية، إذا جُعل أحدُ الموصولين مفصولاً عن " المتّقين " ، فوقع الابتداء إما بـ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ، أو بالذين الثاني مع صلته، وذلك لأنه لمّا قيل: { هُدىً لِلْمتّقين } ، فكأنه سُئل: ما بالُهم خُصّوا بذلك؟ فوقع الجواب بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ، الى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، معناه أنّ الموصوفين بهذه الصفات أحقّاء بأن يكونوا مختصّين بالهُدى والفوز على الفلاح. ويحتمل الاستيناف، فلا يكون لها محلٌّ من الإعراب. فكأنه نتيجة للأوصاف والأحكام المتقدّمة، أو جواب عن سؤال كأنه قيل: ما بال الموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى؟ فاجيب بأنّ مثلَهم حقيق دون غيرهم بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً. وايراد اسم الإشارة في هذا المقام ابلغ من أن يستأنف بإعادة الإسم وحده، لأنّ ذلك بمنزلة إعادة الموصوف بجميع صفاته المذكورة، فكان فيه ذكْر المقتضي للحكم بخلاف هذا. وفي تكريره تنبيه على أنّ اتّصافَهم بالصفات المذكورة، يقتضي كل واحد من الأمرين: الهدى والفلاح، على سبيل الاستقلال، وأن كلاً منهما كاف في تمّيزهم عن غيرهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وتوسيط العاطفة ها هنا وعدم توسيطها في قوله تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }** [الأعراف:179] لاختلاف الحكْمين ها هنا واتّحادهما هناك، فإنّ التسجيل عليهم بالبهيمية وبالغفلة شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة للاولى، فهي من العطف بمعزل. و " هم " إمّا فصلٌ، وله فائدتان: تمييز الخبر عن الصفة وتخصيص المسند بالمسند إليه، أو مبتدأ و " المفلحون " خبرُه، والجملة خبر " اولئك ". ومعنى التعريف في " المفلحون " الدلالة على أنّ المتّقين الموصوفين بتلك الصفات، هم الذين بلغك انّهم من اهل الفلاح، والمفلح هو الظافرُ بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوهُ الظفَر، وكذا المُفلح - بالجيم - وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين دالٌّ على معنى الفتح والشقّ، نحو فلق وفلد وفلىٰ، ولهذا يسمى الزارعُ فلاّحاً، ومشقوقُ الشفة السفلى أفلَح. وفي المثل: الحديد بالحديد يفلح. مبحث كلامي [الجواب عن احتجاج الوعيدية والمرجئة] احتجّت كلّ واحدة من الفرقتين الوعيديّة والمرجئة بهذه الآية على حقّية مذهبها: أما الوعيديّة فبأن الحَصرَ المستفاد من { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، وتعليق الحكم على الوصف السابق المشعر بكونه علّة، كلٌّ منهما يدلّ على أن الإخلال بشيء من الإيمان والصلاة والزكاة يوجب عدم الفلاح، وهو بعينه وعيد مرتكب الكبيرة كتارك الصلاة والزكاة وإن تحقّق فيه أصل الإيمان. وأما المرجئة، فبأنّه بمقتضى الآية، وجَب أن يكونَ الموصوف بهذه الصفات، مفلِحاً وإن زنىٰ وسرقَ، وإذا تحقّق الفلاح في هذه البعض، تحقّق في غيرهم ضرورةً إذ لا قائلَ بالفرق. والجواب عنهما: أولاً: بالمعارضة على كل منهما بالآخر فيتساقطان. ثمّ عن حجة الوعيديّة: بأنّ المراد من قوله تعالى: { أولئِكَ هُمْ المفْلِحُون } أنّهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون غيرهم - كصاحب الكبيرة - غير كامل في الفلاح، ونحن قائلون بموجبه، إذ الفلاحُ التامّ ما لا يكون معه خوف العقاب الدائم، وتجويز عدم الخلاص، وبأن نفي السبب الواحد لا يوجب نفي المعلول إذا كان له سببٌ آخر، وعندنا عن أسباب الفلاح عفوُ الله. وعن حجّة المرجئة: بأنّ وصفهم بالتقوى والإيمان الكامل، يكفي سبباً للفلاح وحصول الثواب، لتضمّنه انتفاء المعاصي وانتفاء ترك الواجبات. تحقيق عرشي [هل توجب الكبيرة الخلود في النار]؟ اعلم أنّ سبب خلود أهل النار في النار وحرمانهم من النجاة، هو المَلَكة الراسخة للنفْس بواسطة الأفاعيل الموجبة لحصول ما هو فيها، بمنزلة الطبع والرَّيْن في المرآة المقتضي لعدم قبولها للتصقيل والتصفية، سواء كان منشأها الكفر والجحود، أو المعاصي والسّيئات. فإنّ النفسَ الإنسانيّة في الفطرة الأولى، قابلة لقبول آثار الملائكة، وآثار الشيطانيّة، وآثار البهائم والسباع قبولاً متساوياً، وإنّما يقع المنع لها عن قبول بعض تلك الآثار بواسطة حصول بعض آخر لها، ومتى اشتدّ حصول البعض فيها بحيث صار ملكةً راسخةً فيها، منع بالكليّة عن قبول آثار الغير، فمتى رسخت للقلب صفاتُ البهيميّة أو السبعيّة أو الشيطانيّة، بحيث أنّها صارت مَلَكة كالطبع والرَين لمرآة القلب، فكدّرتها وظلّمتها، صارت مانعة له عن قبول صورة الرحمة الرحَموتيّة والهيئة الملكوتيّة منعاً كلياً أبديّاً، لكون المانع هناك صفة ذاتيّة جوهريّة، كما حقّق في مجال أوسع من هذا المجال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقد مرّت الإشارة الى أن الإنسان في أول أمره، بين أن يكون بهيمة أو سَبُعاً أو شيطاناً أو مَلَكاً، وفي الآخرة لا يكون إلاّ أحد هذه الأمور لأجل غلبة بعض الصفات المختصّة به على قلبه من جهة تكرّر أفاعيل تناسبها، والى نحو هذا المعنى أُشير في قوله:**{ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }** [التوبة:87] وقوله:**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين:14]. فإذا تقرّر هذا، قربَّ كبيرةٍ من المعاصي يوجب تكرّرُ فعلها عن النفس خلودَها في النار لضعف الإيمان وقوّة العائق عن الخلاص، وربَّ كبيرةٍ لا تكون كذلك لقوّة الإيمان وضعف العائق فيحتمل العفو عنها، والله أعلم بأحوال قلوب العباد. فعلى هذا لا تناقُضَ بين الآيات الدالّة على ثبوت الوعيد من الله على صاحب الكبيرة، والآيات الدالّة على ثبوت العفو عمّن يشاء، وسنزيد لهذا وضوحاً في موضع آخر إنشاء الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير الحبري/ الحبري (ت 286 هـ)
حَدَّثَنَا أَبو عُبَيْدِ اللهِ مُحَمَّد بن عِمْرانَ المَرْزُبانيُّ، قالَ: حَدَّثَنَا أَبو الحَسَن عليُّ بنُ محمَّدِ بنِ عُبْيدٍ الحافِظُ، قِراءةً عليْهِ، في بابِ مَنْزِلِهِ في قَطيعَةِ جَعْفَرٍ، يومَ الأَحَدِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلاْثْمائَةٍ، قالَ: حَدَّثَنِي الحُسَيْنُ بنُ الحَكَمِ الحِبَرِيُّ الكُوفيُّ، قالَ: حَدَّثَنا حَسَنُ بنُ حُسَيْنٍ، قالَ: حَدَّثَنا عِيسى بنُ عَبْدِ اللهِ، عن أَبيهِ [عن أبيهِ] عن جَدِّهِ، قالَ: كانَ سَلْمانُ يَقُولُ: يا مَعْشَرَ المُؤْمِنِيْنَ تَعَاهَدُوا ما في قُلُوبِكُمْ لِعَلِيٍّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ فَإنّي ما كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وسلَّمَ قَطُّ، فَطَلَعَ عَلِيٌّ، إلاّ ضَرَبَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يا سَلْمانُ، هَذَا وَحِزْبُهُ { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ } هذه الجملة مستأنفة استئنافاً نحويا بيانيا هو نحوى بلا عكس فإن البيانى تكوين الجملة جواب لسؤال يقتضيه المقام كأنه قيل ما السبب فى اختصاص المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، والذين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا محمد ومن قبله - صلى الله عليه وسلم - ويوقنون بالآخرة، يكون القرآن هدى لهم؟ فأجاب بأن السبب فى اختصاصهم يكون القرآن هدى لهم التوفيق من الله واللطف عليهم بالهدى، ولا يقال هذا نفس قوله هدى للمتقين فيلزم تحصيل الحاصل لأنا نقول معنى قوله هدى للمتقين زيادة هدى لهم، أو صالح لأن يهتدوا به. ثم قال أولئك الموصوفون بتلك الصفات غير بعيد أن يختصموا بكون القرآن زيادة هدى لهم، أو بكونه هدى موصلا لهم إلى تلك الصفات. وإن شئت فقل إن جملة أولئك على هدى من ربهم، ليست بياناً للعلة، بل إخبار بأن الهدى الحاصل لهم من القرآن إنما جاءهم من فضل الله. وهذا على أن معنى هدى للمتقين أنه هداهم بالفعل، واهتدوا بالصلاحية والإمكان فقط. نقول أحسن زيد إلى شيخه، شيخه حقيق بالإحسان سواء أردت بيان العلة كأنك قلت لأن شيخه حقيق بالإحسان من أجل أنه شيخه، أو أردت مجرد الإخبار بأنه حقيق به ولكن تعليق الحكم بمشتق يؤذن تعليته. والشيخ فى معنى المشتق، والآية من هذا القبيل، فإن أولئك غير مشتق، لكنه إشارة إلى المتصفين بتلك الصفات. فهو فى معنى المشتق فكأنه قيل اتصافهم بالاتقاء والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعد ذلك سبب لزيادة الهدى الحاصلة لهم من توفيق الله وتفضله عليهم، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة لمجرد الإخبار بأنهم أحقاء بالهدى، بأن تكون الإشارة إلى أنفسهم لا تفيد اعتبار صفة، فضلا عن أن تكون موذنة بالعلية، كقولك أكرم زيداً زيد أهل للإكرام، فإن قولك زيد أهل للإكرام غير متضمن لما هو علة لإكرامه، ولو جعلت العلة تعليلا. وإذا ذكرت الجملة الثانية بصفة ما بنى له الكلام الأول، كانت كمصرحة بالعلة نحو أكرم زيداً صديقك القديم أهل للإكرام، كأنه قيل أكرم زيدا لأنه صديقك الكريم، والصديق الكريم أولى بالإكرام وأهل له. وهذا النوع أحسن وأبلغ لانطوائه على بيان الموجب وهو العلة، وكيفية حمل الآية عليه أن تجعل الإشارة إلى المتصفين بتلك الصفات من حيث إنهم متصفون بها. كأنه قيل المؤمنون بالغيب.. إلخ، أهل لزيادة الهدى الكائن لهم من ربهم، أو أهل لأن يهتدوا بالقرآن ويتأثروا به، أى من علم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب.. إلخ أهل لأن يهتدوا به ويتأثروا به. ويجوز أن يكون الذين الأول مبتدأ والثانى معطوفاً عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأولئك على هدى من ربهم خبراً، والثانى مبتدأ خبره أولئك على هدى من ربهم. فيكون الذين وما بعده مسأنفاً أيضاً استئافاً نحويا وبيانيا أيضا، كأنه قيل لم خص المتقون بكون القرآن زيادة هدى لهم أو بتأثره فيهم من أول؟ فأجيب بأنه كان زيادة لهم لإيمانهم بالغيب إلخ أو بأنه تأثروا به واهتدوا لعلم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب... الخ. قبل أن يصدر منهم الاتقاء والإيمان.. إلخ، ولك فى أوجه الاستئناف كلها استئناف الذين أو استئناف أولئك على هدى من ربهم، أن تجعل جواباً لسؤال على هذه الكيفية أى لم خص المتقون المؤمنون بالغيب.. إلخ بذكر كون القرآن مرشداً لهم؟ مع أنه مرشد لكل مسلم وكل كافر، غير أن المسلم قد ارتشد، والكافر عصى وأعرض. فأجيب بأنه خص ذكر المتقين المؤمنين بالغيب، لأنهم المطاوعون لإرشاده المقتفون له. وإن قلت فهل ذلك التوفيق تخصيص لهم بلا موجب؟ قلت بل بموجب وهو تسببهم واكتسابهم. وإن قلت تسببهم واكتسابهم أيضاً مخلوقان لله. فذلك تخصيص بلا موجب؟ قلت نعم مخلوقان لله تبارك وتعالى مجملين، وقد علم الله تعالى بلا أول أنهم سيتصفان بهما فافهم. فإنه جل وعلا خلق جزاء من استفراغ الكفر وإدامة النظر فيما نصب من الأدلة والمواظبة على محاسبة النفس فى العمل، وعلم أنه يكون فيهم. والاستعلاء فى هدى من الاستيلاء المجازى. وإيضاحه أنه شبه تلبس المتقين المؤمنين إلخ بالهدى وتشبهم به، بمن تلبس بدابة أو سفينة وكان عليها، ووجه الشبه التمكن والاستعلاء والنجاة من مكروه، فاستعار لذلك التلبس والتشبث الحرف الموضوع للتلبس والتشبث على نحو الدابة من المحسوسات، وهو لفظ على، فذلك إبراز للمعانى فى صورة الذوات زيادة فى البيان، ونكر هدى للتعظيم، أى أولئك على هدى عظيم لا يحصى غايته ولا يعلم قدره إلا الله الرحمن الرحيم، الذى كان هو من فضله وتوفيقه. ففى الوصف وصف هدى بقوله من ربهم، تأكيد لذلك التعظيم. وقرئ قوله من ربهم بثلاث قراءات الفك وإدغام النون فى الراء إدغاماً صريحاً بإبدالها راء صريحة وإدغامها فيها، والثالثة الإبدال غير الصريحة والإدغام مع إبقاء بعض النون فى الخيشوم. والجمهور على الثانية وبهذا نأخذ وهو قراءة نافع والكسائى وحمزة. وأما أبو عمرو، فعنه الثانية والثالثة، ورويت الثالثة والثانية عن ابن كثير وورش وكذا ما أشبه ذلك. { وَأُولَئكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وإشارة البعد هنا وفى الذى تقدم إنما هى لما مر فى قوله ذلك الكتاب. وإن قلت لِمَ لم يكف لفظ أولئك الأول فيقال هنا وهم المفحلون؟ قلت لأن تكريره يفيد أنه كما ثبت لهم التخصيص بالهدى ثبت لهم بالفلاح. وأكد واحد من التخصيصيين فى تميزهم به من غيرهم بالمنزلة التى لو انفردت كفت مميزة وإن كلا من التخصيص يترتب على تلك الصفات كأنه قيل المتصفون بالاتقاء والإيمان إلخ مختصون بالإفلاح لتلك الصفات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ولو قال وهم المفلحون لم يفد كل ذلك بل بعضه، وقرنت الجملة الثانية بالواو والعاطفة لمغايرة الإفلاح للهدى، فإن الإفلاح الفوز بالمطلوب من رضى الله - جل وعلا - ونعيم الجنة والنجاة من النار وهو فى الآخرة ومقصود على حدة والهدى الدلالة والتوفيق وهما فى الدنيا مقصودان على حدة بخلاف قوله تبارك وتعالى**{ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }** فإن وصفهم بكونهم كالأنعام ووصفهم بالغفلة واحد فى الحقيقة. وأما الثانى أن لا مقرر للأول إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة فى الغفلة، وكونهم كالأنعام وغفلتهم كلاهما فى الدنيا. فلذلك الاتحاد فى المعنى والزمان لم يكن بالعطف لاقتضائه التغاير.. والله أعلم. والتحقيق عندى أن أولئك هم المفلحون يفيد الحصر وتأكيد نسبة الإفلاح إلى أولئك. وإيضاح كون المفلحون خبراً لا نعتاً والترغيب فى اقتفاء أثرهم وإظهار قدرهم، سواء جعلنا قولهم هم ضمير فصل أو مبتدأ. وإذا عقلت هذا الحصر ظهر لك أن أصحاب الكبائر يخلدون فى النار، فإن المعنى لا يفلح إلا المتصفون بتلك الصفات. فمن لم يتصف بها غير مفلح، ومن يدخل النار غير مفلح. ولو فرضنا خروجه منها لكان مفلحاً وغير مفلح، وهذا لا يصح. ولعل قومنا القائلين بالخروج يجعلون أل فى المفلحون للكمال، أى أولئك هم المتصفون بتلك الصفات هم أصحاب الفلاح الكامل وغيرهم ممن أقر وفسق مفلحون أيضاً. لكن فلاحهم غير كامل. أم يقولون نزل فلاحهم منزلة العدم، فحصل الفلاح فى المتصفين بتلك الصفات، وإنما لم نسلم لهم هذين التأويلين لو لم يكونا خلاف الظاهر بلا داع موجب، ولا يعارضوننا بوصف الفاسق كغيره بالاصطفاء فى قوله عز وجل**{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }** فإنه مشروط بالموت على التوبة. وإن قلت لو قيل أولئك المفلحون على الابتداء والخبر لأفاد الحصر أيضاً بدون ذكر قوله هم. قلت نعم لكن إذا ذكر قوله هم، كان هو المفيد للحصر بواسطة ما بعده، مع أنه قد يتوهم من عدم ذكره كون المفلحون نعتاً لأولئك فلا يظهر تمام الإسناد فضلا عن الحصر. وأل فى المفلحون للعهد الذهنى، أى أولئك هم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون، أو للحقيقة حقيقة المفلحين، أو للعهد الذكرى إذا ذكر من يفلح فى غير هذه الآية فى السورة النازلة قبل هذه السورة، وإذا تتبعت الكلام وجدت كل كلمة أصلها الأول فاء. والثانى لام دالة على الشق بظهور أو تأويل. كفلق وفلذا وفلى، فكذلك المفلح قد انفتح له وجوه الظفر وانشقت له، وفلق شق، وفلذ قطع. وأفلاذ الكبد قطعها. وفلى رأس الكافر ضربه بالسيف، ويكون الفلاح أيضاً فى لغة العرب بمعنى البقاء. فيصح تفسير الآية به، أى أولئك هم الباقون فى النعيم الدائم، الخالدون فيه، الذين لا ينقطعون عنه أبدا. قال الشاعر | **لو أن حيا مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح** | | | | --- | --- | --- | أى مدرك البقاء، غير أنه يحتمل أن يريد بالفلاح الفوز بالمطلوب وهو البقاء، فلم يخرج عن تفسير الفلاح بالفوز بالمطلوب. فافهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ أُولَٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات، العالون شأنا ومرتبة، وقس على ذلك سائر إشارات البعد فى سائر القرآن. وما كان في السوء فإشارة البعد فيه للبعد عن مقام الخير { عَلَى هُدًى } متمكنون من الهدى تمكن الراكب من مركوبه، القوى المطاوع الملجم بلجام فى يده المستولى { مِنْ رَّبِّهِمْ } آت من ربهم، أو ثابت منه دلالة وتوفيقاً { وَأُولَٰئِكَ } كرر الإِشارة إذ لم يقل وهم المفلحون، تنبيهاً على مزيد الاعتداء بشأنهم، وعلى أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى أن يحصل لهم الكون على الهدى من ربهم، وكونهم مفلحين، كما قال { هُمُ المُفْلِحُونَ } الفائزون بالحظ الأكمل، النجاة من النار ودخول الجنة، وهذا حصر، فمن ترك الصلاة أو الزكاة فليس مفلحاً، فهو فى النار مخلد، لأن مقابل الإفلاح الخسار والهلاك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
الاشارة متوجهة إلى المتقين الموصوفين بما سلف والأصل فيها أن تكون لمشاهد معين، غير أن الاستعمال قد يجعلها لغير الحاضر إذا سبقها من وصفه ما يجعل حقيقته مستحضرة في الذهن، فإن تصور أحواله، وإدراك صفاته يجعلانه في حكم المشاهد، وقد يتبع الاشارة الآتية بعد صفات المشار إليه حكم، فيدل ذلك على أن تلك الصفات هي منشأ ذلك الحكم، لأنها هي السبب في استحضار ذات المشار إليه، فالحكم للمشار إليهم هنا بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون ناتج عن وصفهم بتلك النعوت الفاضلة التي تميزهم عن غيرهم من الناس، ومثله مألوف في كلام العرب، ومنه قول حاتم الطائي: | **ولله صعلوك يساور همه** | | **ويمضي على الأحداث والدهر مقدما** | | --- | --- | --- | | **فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة** | | **ولا شبعة إن نالها عد مغنما** | | **إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت** | | **تيمم كبراهن ثمت صمما** | | **يرى رمحه أو نبله ومِجَنَّه** | | **وذا شُطَبٍ عَضْب الضريبة مجذما** | | **وأحناء سرج قاتر ولجامه** | | **عتاد أخى هيجا وطرفا مسوما** | | **ويغشى إذا ما كان يوم كريهة** | | **صدور العوالي وهو مختضب دما** | | **إذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت** | | **وولى هذان القوم أقبل معلما** | ثم قال عقب ذلك: | **فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه** | | **وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما** | | --- | --- | --- | وجملة أولئك على هدى مستأنفة استئنافا بيانيا مترتبا على ما وُصفوا به من النعوت من قبل، فإن السامع إذا وقعت تلك الصفات التي ميزوا بها في سمعه تطلع إلى ما يترتب عليها من فائدتها، وإيثار اسم الاشارة على ذكر الضمير الذي يعود إليهم لأن الاشارة تجعل جميع ما وصفوا به مستحضرا في ذهن السامع، إذ الاشارة هنا ليست إلى ذواتهم فحسب، وإنما هي إليها وإلى الصفات التي تلبست بها فميزتها عن سائر الذوات، وفي ذلك ما لا يخفى من التنويه بالصفات المشار إليها، وبما يعقب اسم الاشارة من الأحكام الناشئة عنها. المتقون مختصون بالهُدى: والمشار إليه هو فريق المتقين، وقد سبق في كلامنا ما يفيد ترجيح أن جميع الصفات التي لحقتهم هي صفات جارية عليهم جميعا، إذ هم فريق واحد وليسوا بفريقين خلافا لمن قال ذلك اعتبارا لحالتهم قبل التلبس بالايمان، وهم يوافقوننا أن الاشارة هنا - كالتي بعدها - يراد بها كلتا الطائفتين لأنهم جميعا متمكنون من الهدى ومنقلبون إلى الفلاح، وإنما شذّ الامام محمد عبده فقال بتعدد المشار إليه كما تعددت الاشارة، ورأيه مبني على ما تقدم نقله عنه من أن المهديين منقسمون إلى طائفتين؛ طائفة أخذت تبحث عن الحق وتحاول الوصول إليه، وأخرى وصلت إليه فعلا. فأولى الاشارتين إلى الطائفة الأولى، وثانيتهما إلى الأخرى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعزز رأيه بما يدل عليه تنكير هدى من النوعية. فالطائفة الأولى - حسب رأيه - أصابوا ضربا من الهدى لتفتيشهم عن الصواب، وبحثهم عن الحقيقة، فقد آمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق في كلامه، وأنفقوا مما رزقهم الله، فهم متمكنون مما وصلوا إليه من الهدى، ومستبصرون في طريق البحث عن المزيد من أنواعه، وذلك وإن لم يكن كافيا لاسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لاعدادهم، وتأهيلهم لهما بالايمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوا عندما بلغتهم دعوته. ويرى الامام أن الطائفة الثانية - وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- مشاركة للطائفة الأولى في الهدى الذي وصلت إليه، وإنما زادت عليها بما انتهت إليه من الايمان الكامل بالقرآن، وبسائر الكتب السماوية، ويقينهم بالآخرة، فهم أوسع منهم إيمانا، لأن إيمانهم بالغيب قد تجاوز حدود الاجمال إلى التفصيل، ولذلك كانت الاشارة إليهم متضمنة وعدهم بالفلاح في قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، وعزز رأيه أيضا - في التغاير بين مرجع الاشارتين - بترك ضمير الفصل (هم) في الأولى وذكره في الثانية، وقال إن المشار إليه لو كان واحدا لذكر الفصل في الأولى لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم. وأنت إذا تدبرت هذه الآية وما قبلها من الآيات، لن تجد دليلا على التغاير بين الاشارتين، ولا على انقسام المهتدين إلى طائفتين، وحسبك ما مر بك في تفسير ما قبلها وضوحا بأن جميع تلك الصفات جارية على فريق المتقين من غير التفات إلى أي انقسام فيهم. أما تنكير { هدى } فهو للتنويه بشأن ما تمكنوا منه من الهدى، ويعزز ذلك وصفه بأنه من { ربهم } فإنه دليل كونهم موضع عناية الله سبحانه. وأما عدم اقتران الاشارة الأولى بضمير الفصل واقتران الثانية به، فلأجل الترقي في العبارة، ونحوه ما في سورة لقمان مع اتحاد المشار إليه، كما تقدم بيانه. وكذلك في هذه السورة في قوله تعالى بعد وصف الصابرين: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }. وقد بين الله سبحانه اختصاص هؤلاء المتقين بالهدى، بيانا يصور لك هذه الحقيقة المعنوية، ويجليها في صورة المحسوس، حيث قال: { على هدى } دون أولئك أصحاب هدى مثلا، لأن " على " دالة على الاستعلاء، وهو يقضي بتمكن المستعلي من المستعلى عليه، وقدرته على تصريفه وترويضه، فهؤلاء المتقون متمكنون من الهدى تمكن الراكب من مركوبه، وفي الاستعارة التي ينطوي عليها هذا التعبير وجوه: أولها: أنها تبعية، نظرا إلى أن المستعار الأصلي هو الاستعلاء، ثم سرت إلى الحرف الدال عليه وهو (على) وقد جنح إلى هذا الوجه السيد الجرجاني وحمل عليه كلام صاحب الكشاف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثانيها: أنها تمثيلية، لأن المشبه هيئة منتزعة من عدة أشياء وهي المتقون والهدى، وتمكنهم منه، والمشبه به صورة منتزعة من أشياء متعددة كذلك وهي الراكب والمركوب والاستعلاء، ثم طويت المشبهات لحلول المشبه بها محلها على طريق الاستعارة، وأظهرت (على) من بين الصورة المستعارة لأنها العمدة في هذا التشبيه من بين سائر أركانه، وتدخل بقية الأركان ضمن ألفاظ منوية وإن لم يقتضها سياق الكلام، ولم يبعد الجرجاني هذا الوجه. ثالثها: أن تكون مكنية مرموزا إلى جملتها بعلى الدالة على الاستعلاء الذي هو لازم التشبيه المقصود، وكثير من الناس يسمونها تخييلية. وجمع أنواع الاستعارات الثلاث يحتملها هذا المقام، غير أن معركة جدلية حادة نشأت بين علمي البلاغة البارزين؛ السيد الجرجاني، والسعد التفتازاني، مثارها: جواز مجامعة التمثيلية للتبعية أو عدمه، فالتفتازاني مع اختياره للتمثيلية يرى أن مجيء كلمة (على) في التركيب يقتضي أن يكون معناها - وهو الاستعلاء - مستعارا على حدة لما يماثله في جانب المستعار له، وهو التمكن، وأنكر الجرجاني ذلك بشدة لأنه رأى فيه جمعا بين متنافيين، إذ الاستعارة التمثيلية إنما ينظر فيها إلى الصورة المنتزعة من متعدد من غير التفات إلى أفرادها، والاستعلاء المستفاد من حرف الجر هنا إنما هو فرد من هذه الأفراد، وأطال في حاشيتيه على الكشاف وعلى المطول في شرح حججه. كما أطال السعد في الانتصار لمذهبه في المطول وحاشية الكشاف. وشغلت هذه المسألة أذهان الناس واستهلكت جانبا مهما من فراغهم في عصرهما وبعده، وعقدت فيها مجالس للحوار، أولها كان بمحضر تيمور لنك، وكان الحكم فيه نعمان الخوارزمي، فحكم للجرجاني على خصمه غير أن آراء الذين جاءوا من بعدهم أثقلت كفة السعد التفتازاني، وقد أفردت هذه المسألة بمؤلفات خاصة. وممن عني بها الشوكاني، فقد خصصها برسالة سماها (الطود المنيف في الانتصار لما قاله السعد على ما قاله الشريف). وذكر الألوسي في تفسيره أنه أطال بحثها في كتابه (الأجوبة العراقية على الأسئلة الايرانية) وقد امتدت أذيال العناية بهذا البحث إلى عصرنا. وممن عني به من المفسرين المعاصرين الامام ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير)، فقد حاول فيه التوسط بالحكومة العادلة بين هذين القطبين، لكنه لم يلبث أن وقف في صف التفتازاني. تنزيه القرآن الكريم عن المجادلات اللغوية والبلاغية: وإني أرى جعل التفسير معرضا للمجادلات اللغوية وميدانا للمباريات البيانية، خروجا بهذا العلم الجليل عن حدوده المرسومة، واشتغالا بما لا داعي إليه فيه. وإنما ينبغي الاقتصار من ذلك على ما يجلي من الآية جوهر معناها، ويزيح الستار عن إعجاز مبناها. أما الزيادة على ذلك فقد تفضي إلى تلاشي المقاصد الأساسية التي يجب أن ينحوها المفسر. فالقرآن أنزل لوصل النفوس ببارئها وصقل العقول من أصداء الشك حتى يتجلى لها العلم اليقين وتتخلص من وساوس الشيطان، وتتطهر من أرجاس الطبع وتستقيم على صراط الله العزيز الحميد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأكثر التفاسير - مع الأسف - بعيدة عن رعاية هذه الأهداف، بل ربما ظن قارئها أنه يتلو كتابا في الاعراب أو في اللغة واشتقاقاتها أو في البلاغة وأساليبها، وهكذا. وفي وسط هذه التيارات تتلاشى مقاصد التفسير الأساسية، وهي إيضاح ما انبهم من هداية القرآن، وبيان موضع العبرة من قصصه وأمثاله، ومحط الحكمة من تشريعاته وأحكامه. وأدهى من ذلك حشو مؤلفات التفسير بمخلفات اليونان وغيرهم، من الفلسفات العقيمة والأساطير القديمة. ولعمري إن ذلك ليس من تفسير القرآن في شيء، بل هو أحرى أن يكون تعتيما على هداه، وحجبا لحقائقه، نسأل الله العافية. هذا، وقد علمت مما سبق اتحاد مرجع الاشارتين في الآية، ووجه تكرار اسم الاشارة التنبيه على أن اختصاصهم بالهداية، واختصاصهم بالفلاح، كل منهما جدير بالعناية، وحقيق بأن يستقل في التنويه به فلا يكون أحد الأمرين تابعا للآخر، ولذلك خص كل واحد منهما بجملة وإشارة. وفي ذلك أيضا تنويه بالموصوفين أنهم جمعوا بين المنقبتين، واختصوا بكلتا المأثرتين، وعطفت الجملة اللاحقة على السابقة لأجل توسطهما بين كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، فإن كلا من الهدى والفلاح له مفهومه الخاص، وزمانه الخاص، إذ الهدى يتلبس به في الحياة الدنيا، والفلاح يتوصل إليه في الدار الآخرة. غير أن كون الهدى سبب الوصول إلى الفلاح يُعد رباطا بين الجملتين وتوسط الجملتين بين كمالي الاتصال والانقطاع من دواعي العطف كما قرره علماء المعاني. الاسلام هو طريق الفلاح: وتوسط ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه المعرفين دال على تأكيد الحصر المستفاد من تعريفهما، وهو هنا قاض بانحصار الفلاح في الطائفة التي جمعت بين خصائص الايمان المذكورة في هذه الآيات، وذلك يعني وحدة طريق الفلاح، وهو طريق الحق والرشد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث به النبيين من قبل، وهو يتمثل في هدى القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن حاد عنهما فقد حاد عن طريق الفلاح، وانتهى به السير إلى مهاوي الخسران والعياذ بالله. والفلاح هو النجاة، ولذلك فسر المفلحون هنا بالمنجحين كما في تفسير ابن جرير. ويعني ذلك أنهم بلغوا الهدف المقصود، وأدركوا الضالة المنشودة وهي الفوز برضوان الله الذي تترتب عليه النجاة من أليم عقابه، والخلد في بحبوحة ثوابه، وذلك معنى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: في تفسير المفلحين الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، ومن شواهد مجيء الفلاح بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعه: | **اعقلي إن كنت لما تعقلي** | | **ولقد أفلح من كان عقل** | | --- | --- | --- | ويجيء بمعنى البقاء، ومنه قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **نحل بلادا كلها حل قبلنا** | | **ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير** | | --- | --- | --- | ومادته تدل على الشق كسائر الكلمات التي ينتظمها معه الاشتقاق الأكبر، كالفلج والفلق، ومن هنا سمي الأكار فلاحا، لأنه يشق الأرض لأجل الزرع، ويرى الامام محمد عبده " أنه لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد من تحقيق المعنى اللغوي في هذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لادراكها، فهم ما كانوا مفلحين إلا بالايمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة. اتساع مفهوم الفلاح وشموله: ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور، وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشَّرَه والطمع، والجبن والهلع، والبخل والجور والقسوة، وما نشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات، كما تدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة. وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس، والسعي في توفير منافعهم الخاصة والعامة مع التزام العمل والوقوف عند ما حده الشرع القويم والاستقامة على صراطه المستقيم، ثم قال عقب ذلك: وجملة القول أن الايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو الايمان بالدين الاسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة، ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحد جهله. فالايمان به إيمان، والاسلام به لله إسلام، وإنكاره خروج من الاسلام، وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الاسلامي، وواسطة الوحدة الاسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين ". وذكر السيد رشيد رضا أن الأستاذ زاد بخطه بعد قوله اجتهاد المجتهدين ما نصه: أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيها يعتقدون بعد التحري، والتمحيص، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل عنه فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه، ودخائل نفسه ونحو ذلك مما يطول شرحه. وتحصل الثقة للنفس بما يقول القائل. وأتبع ذلك السيد رشيد رضا قوله: معنى هذا أن أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنه واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الامام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما. وأما ذوق العارفين فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالاجماع إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات والاحتياط في تعارض البينات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |